المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
التدمير المنظَّم لغزة. (أ.ف.ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 44
  • ياسر مناع

في افتتاحية الأسبوع الماضي، أشار "المشهد الإسرائيلي" - الصادر عن مركز مدار- إلى أن إسرائيل تنتهج سياسة تدمير عمراني ممنهجة في قطاع غزة تجعل من العودة إليها مستقبلاً غير ممكنة، وتشير صور الأقمار الصناعية إلى أن 70% من مباني القطاع باتت غير صالحة للسكن. فيما لا يقتصر الدمار على المنازل، بل يطاول المرافق التعليمية والصحية والزراعية. وتتقاطع هذه السياسة مع تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بشأن دفع السكان نحو الهجرة من غزة. وهكذا يغدو التدمير العمراني أداة تنفيذية لخطة تهجير قسري وتطهير عرقي ممنهج.[1]

وعليه، تتناول هذه المساهمة دور شركات المقاولات المدنية التي يستعين بها الجيش الإسرائيلي في تنفيذ عمليات الهدم داخل قطاع غزة، ليس فقط باعتبارها نشاطاً ربحياً، بل أيضاً كجزء من مشروع أوسع يُقدَّم بوصفه "مهمة وطنية (استيطانية)". فيما بات واضحاً انخراط "شبيبة التلال" ضمن هذه العمليات، من خلال دمجهم المباشر في فرق الهدم الميدانية.

يعكس هذا التداخل بين العمل الهندسي المدني والخطاب الأيديولوجي بجلاء التصوّر الاستيطاني الإسرائيلي، الذي يرى في تدمير النسيج العمراني الفلسطيني شرطاً بنيوياً لإعادة تشكيل المجال الاستيطاني في القطاع.

خصخصة الدمار والهدم

في الآونة الأخيرة، كشفت بعض الصحف الإسرائيلية النقاب عن الشركات الخاصة التي يستعين بها الجيش الإسرائيلي لتدمير المباني في قطاع غزة خلال حرب الإبادة 2023، وهو ما يندرج ضمن ما يمكن يطلق عليه بـ"خصخصة التدمير"، حيث تُفوَّض شركات مدنية بمهام كان من المفترض أن تبقى ضمن مهام الجيش الإسرائيلي.

وقد تناولت صحيفة "يديعوت أحرونوت"[2] والملحق الاقتصادي "ذي ماركر"[3] هذه القضية، إذ نشرت "يديعوت" بتاريخ 18 تموز مقابلة مع ضابط في الجيش يُدعى "المقدم ر" تحدّث فيها عن الظاهرة، معتبراً أن هذه الشراكة توفّر "قيمة عملياتية كبيرة"، إذ تسمح للجيش بإعادة توجيه معداته الهندسية المصفحة إلى الجبهات القتالية بدلاً من المناطق المنوي هدمها.

في المقابل يتولى المقاولون المدنيون مهمة إزالة المناطق السكنية في إطار ما يُسمى "تهيئة مناطق الأمان"، – أي تدمير المنازل من دون توقف-. وقد تجسد ذلك في تنفيذ مشاريع واسعة النطاق من أبرزها إقامة "منطقة عازلة" بعمق يصل إلى كيلومتر ونصف كيلومتر داخل أراضي القطاع، إلى جانب تأمين ممرات مثل نتساريم وفيلادلفيا.

يُنفذ هذا العمل ضمن آلية مُنظّمة، حيث يتولى مقاولون مدنيون تنفيذ المهام الميدانية بالتنسيق المباشر مع وحدات الهندسة العسكرية. ويُعلّق المقدم (ر) بالقول: "لدينا عدة فرق عمل من مقاولين مدنيين يعملون تحت إشراف الكتيبة، ويُرافق كل طاقم خبير من الكتيبة يقدّم له التوجيه المهني. نُطلق على قائد الطاقم المدني اسم 'رئيس الهدم". تصل هذه الفرق في ساعات الصباح الباكر، ويتم إدخالها إلى داخل القطاع، حيث تواصل عملها حتى غروب الشمس تحت حماية قوات الجيش".[4]

وتحتاج هذه المشاريع إلى تعبئة مكثفة للمعدات الثقيلة والكوادر المدنية، ما أفضى إلى العمل المشترك بين المؤسسة العسكرية وشركات المقاولات من منطلق أن الجيش يستطيع تحقيق أهدافه بمرونة أكبر وتكلفة أقل، فيما يتحول الدمار إلى فرصة اقتصادية مربحة للقطاع الخاص تُقدّر قيمتها بمليارات الشواكل.

منظومة ربحية تحت رعاية وزارة الدفاع

في بداية الأمر يُعد العامل الاقتصادي المحرك الأساسي والأكثر وضوحاً لهذه الظاهرة. إذ تشير البيانات إلى نشوء سوق متخصصة ومربحة للغاية، تتنوّع نماذج الدفع والتقاضي التي تعتمدها وزارة الدفاع، ما يضمن تدفقاً مستمراً للعمالة والمعدات:

  • المسار اليومي: يتقاضى صاحب المعدات مبلغاً ثابتاً يتراوح بين 5,000 -5,500 شيكل يومياً عن كل آلية، مع تغطية تكاليف النقل والوقود، ما يضمن ربحاً ثابتاً ومضموناً.
  • مسار المقاولات (الدفع حسب الإنجاز): يُدفع 2,500 شيكل لهدم مبنى من ثلاثة طوابق، و5,000 شيكل للمباني الأعلى. - يُعد هذا النموذج الأخطر - إذ يحفّز مباشرة على تسريع وتوسيع نطاق التدمير، بربط الربح بحجم الدمار المُنجز.

وقد أدت هذه الحوافز المالية إلى تحقيق أرباح ضخمة على المستوى الفردي؛ إذ يؤكد عاملون أن مشغلي المعدات الثقيلة يمكن أن يحققوا دخلاً شهرياً صافياً يصل إلى 30,000 شيكل. وقد انعكس هذا الإغراء في عروض العمل المتداولة على "فيسبوك"، والتي تعد بـ"1500 شيكل في اليوم" أو "400 شيكل في الساعة (صافي)". [5]

حيث  يمكن تتبّع حجم الطلب المتزايد على المعدات الهندسية ومشغّليها في قطاع غزة من خلال مجموعة فيسبوك تحمل اسم: "مطلوب سائقو معدات ثقيلة، أعمال ترابية، مشغّلين، فرص عمل/ بيع معدات"، حيث يكشف تصفّح المنشورات التي نُشرت خلال الأشهر الماضية عن كثافة الإعلانات وفرص التشغيل المتكررة.

{لمشروع تابع لوزارة الدفاع، لعمل خاص داخل قطاع غزة بالتعاون مع الجيش، في منطقة فيلادلفيا قرب معبر صوفا – في مجالات الإخلاء والهدم والأتربة.

مطلوب: مشغّلو باجر (حفّارات) ذوو خبرة. الأجر: 100 شيكل صافٍ في الساعة! يُشترط أن يكون لدى العامل حفّاره الخاص. الوصول بشكل مستقل إلى ناحل عوز كل صباح، ومن هناك الدخول إلى داخل القطاع مع القوافل المدرعة.للتواصل: ********* كذلك، هناك إمكانية أيضاً لمن يرغب بالعمل مع الباجر الخاص به مقابل 400 شيكل في الساعة}

ويشير الصحافي أوري مسغاف إلى وجود منظومتين مدنيتين تعملان تحت إشراف مباشر من وزارة الدفاع، ومخصصتين لتنفيذ عمليات هدم المنازل في قطاع غزة، حيث تنتشر عشرات الجرافات في مختلف مناطق غزة. الأولى تقع في شمال القطاع وتُدار من قبل غولان فاخ، شقيق قائد فرقة 252 يهودا فاخ، أما الثانية فتعمل في جنوب القطاع تحت إشراف بتسلئيل زيني، شقيق رئيس جهاز الشاباك الحالي، دافيد زيني.[6]

إدارة المخاطر في بيئة قتالية

على الرغم من الأجور المغرية، تواجه هذه السوق تحديات مرتبطة بالعمل في منطقة حرب. الخوف يمثل عائقاً كبيراً أمام توظيف العمال، حيث أن المعدات المدنية غير مصفحة، مما يعرض المشغلين إلى خطر الموت المباشر. لذلك، تتعامل وزارة الدفاع مع هذا الخطر عبر آليات قانونية، يُطلب من العمال التوقيع على استمارة "موافقة العامل (غير الراغب بالتجنيد) على تنفيذ أعمال خارج الحدود"، وهي وثيقة لا تذكر صراحة أن العمل يتم في غزة.[7]

 البند السادس في هذه الاستمارة هو الأهم، حيث يوضح أنه في حالة "إصابة جسدية نتيجة عملية عدائية" أو الوفاة، فإن التعويض سيكون وفق قانون ضحايا العمليات العدائية، وسيُعترف بالعامل على أنه "ضحية عملية عدائية"، أي "كـجندي قتيل في الجيش الإسرائيلي".

من الانتقام إلى الرؤية المسيانية

لم تقتصر دوافع عمليات هدم المباني في قطاع غزة على البعد الاقتصادي فحسب، بل برز فيها بوضوح بعدٌ أيديولوجي يتقاطع مع الحافز الربحي. وتشير التحقيقات الصحافية – الواردة مطلع المساهمة - إلى اشتراك "شبيبة التلال" في فرق الهدم الميدانية، حيث يُنظر إلى العمل في غزة وسيلة لكسب المال، وتجسيداً عملياً لرؤية استيطانية. كما يُقدّر أعداد هؤلاء بنحو مائة شاب من مستوطنات الضفة الغربية يعملون كمشغّلين لمعدات هندسية ثقيلة داخل القطاع.

في هذا السياق، ترى دانييلا فايس، من حركة "نحالا" الاستيطانية، أن "بين شبابنا – شبيبة التلال- هناك شعور بالرسالة"، موضحة أن هذه الرسالة تتمثل في "تهيئة الأرض للاستيطان". كما يجسّد "جادي" – أحد العاملين في الهدم - هذه الديناميكية حين يقول: "في البداية فعلت ذلك من أجل المال. ثم من أجل الانتقام".

ويذهب أبراهام زريف، الجندي الاحتياط الذي يشغّل معدات ثقيلة في غزة ويبث مقاطع فيديو تجمع بين الخطاب الديني وعمليات الهدم، إلى أبعد من ذلك، حين يعتبر عمله تنفيذاً لإرادة إلهية تهدف إلى "تنظيف الأرض" من "كل هذا الشر العظيم"، على حد وصفه: "برأيي المتواضع، الرب تبارك وتعالى يريد في غزة أن يكون العمل بهذه البساطة: تنظيف الأرض، كل هذا الشرّ العظيم – الذي لم نشهد مثله في الأجيال الأخيرة – يجب أن يُمحى".[8]

الأبرز من ذلك هو بروز وحدات تحمل أسماء وشخصيات من التوراة، مثل "قوة أوريا"، التي لا تخفي طابعها الأيديولوجي وتصف نفسها بأنها "فريق معدات هندسية منتصر"، وتفخر بدورها في تدمير رفح. هذه الوحدة، التي أسسها جنود احتياط يعملون كمشغّلين للمعدات الثقيلة في حياتهم المدنية، أنشئت خصيصاً للمشاركة في الحرب داخل غزة، في ظل النقص المسجّل في آليات D9 نتيجة القيود الأميركية التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن.[9]

وفي 22 تموز 2025، أعلنت "قوة أوريا" أنها هدمت 409 مبانٍ تخليداً لذكرى الجندي أڤراهام أزولاي،-  أحد أعضاء القوة الذي قُتل في القطاع يوم 9 تموز 2025. وجاء في منشورها "إن قوة أوريا تهدي هذه المباني المهدّمة إلى روحه، ونُعدّ الأرض لاستيطان يهودي في منطقة قطاع غزة".[10]

 

[1] أنطوان شلحت. "هل ثمة غاية قصوى من استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؟"، المشهد الإسرائيلي – مدار، 21 تموز 2025. https://2h.ae/FxYg

[2] عوديد شالوم. "مشروع يدرّ الملايين: المقاولون المدنيون الذين يسوّون غزة بالأرض"، "يديعوت أحرونوت"، 18 تموز  2025. https://www.ynet.co.il/news/article/yokra14443620

[3] حجاي عميت. "آلاف الشواكل عن كل مبنى وخطر على الحياة: بطاقة السعر لهدم قطاع غزة"، "ذي ماركر"، 10 تموز 2025، https://www.themarker.com/news/2025-07-10/ty-article-magazine/.premium/00000197-f032-dc05-a59f-f17fca490000

[4]  "يديعوت أحرونوت"، مصدر سبق ذكره.

[5]  "يديعوت أحرونوت"، مصدر سبق ذكره.

[6] أوري مسغاف. الصفحة الشخصية على منصة "فيسبوك" ، تمت زيارة الصفحة في 24 تموز 2025، https://www.facebook.com/reel/1218366476756132

[7] "يديعوت أحرونوت"، مصدر سبق ذكره.

[8] "ذي ماركر"، مصدر سبق ذكره.

[9] يسرائيل شلي، الصفحة الرسمية على فيسبوك، تمت زيارة الصفحة في 24 تموز 2025، https://www.facebook.com/share/v/16bmdKWh85/?mibextid=wwXIfr

[10] موقع "همكوم" على منصة فيسبوك، تمت زيارة الصفحة في 24 تموز 2025، https://www.instagram.com/p/DMX4rk4IYHs/?utm_source=ig_web_button_share_sheet

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات