المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
لحظات إطلاق "درور 1". (صحف)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 11
  • وليد حباس

بتاريخ 11 آب 2025 دخل القمر الصناعي الإسرائيلي "درور 1" مداره حول الأرض وبثّ إشارته الأولى. ويُعدّ هذا أول قمر اتصالات يُصمَّم ويُصنَّع بالكامل داخل إسرائيل. ويمثّل امتلاك إسرائيل قمرًا خاصًا للاتصالات خطوة استراتيجية تعزز استقلالها التكنولوجي والأمني، وتقلّل من اعتمادها على الشركات الأجنبية، بما يتيح لها استقلالية كاملة في مجال البنية التحتية الاتصالية. كما يوفّر "درور 1" تغطية آمنة وموثوقة للجهات الحكومية والأمنية على حدّ سواء. تستعرض هذه المقالة القدرات الفضائية الإسرائيلية في مجال الأقمار الصناعية وأبعادها الاستراتيجية.

الأقمار الصناعية الإسرائيلية

منذ مطلع الثمانينيات دخلت إسرائيل عالم الفضاء بخطوات متسارعة، ونجحت في تطوير برنامج واسع يدمج بين الاستخدامات العسكرية والمدنية والتجارية. البداية كانت أمنية بحتة مع إنشاء "مديرية برنامج الفضاء" العام 1981 تحت إشراف وزارة الدفاع، بهدف تطوير أقمار التجسس من سلسلة "أفق" (Ofek). وفي العام 1983 تأسست وكالة الفضاء الإسرائيلية ذات الطابع المدني والعلمي. منذ ذلك الحين أطلقت إسرائيل أكثر من 57 قمرًا صناعيًا، بينها أقمار صغيرة بناها طلاب مدارس، إضافة إلى مركبة فضائية وصلت إلى سطح القمر العام 2019.

شكّلت الأقمار العسكرية، ولا سيما سلسلة "أفق"، العمود الفقري للمشروع الفضائي الإسرائيلي. فقد خُصصت هذه الأقمار للتصوير وجمع المعلومات الاستراتيجية، وكان أولها قد أُطلق العام 1988 من قاعدة بلماخيم في جنوب تل أبيب. أما في المجال المدني والتجاري، فقد استعانت إسرائيل بمنصات إطلاق أجنبية لأقمار الاتصالات "عاموس" (Amos) وأقمار التصوير التجاري "أيروس" (Eros). وعلى الرغم من أن قدرات الإطلاق الإسرائيلية تبقى محدودة من حيث الحمولة ونوع المدارات، فإن امتلاكها قدرة مستقلة على إطلاق أقمار خفيفة في مدارات منخفضة منحها مكانة بين القوى الفضائية مثل روسيا والولايات المتحدة وفرنسا واليابان والصين والهند وإيران وكوريا الشمالية، إلى جانب دول أوروبية عبر وكالة الفضاء الأوروبية مثل ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا. كما ظهرت قوى جديدة على الساحة مثل تركيا والبرازيل والإمارات وكوريا الجنوبية، التي تسعى بدورها إلى ترسيخ حضورها الفضائي عبر برامج وطنية أو شراكات دولية.

ورغم هذه المكانة، يبقى الاستثمار الحكومي الإسرائيلي في الفضاء محدودًا نسبيًا، إذ لم يتجاوز 82 مليون شيكل العام 2018. غير أن القطاع شهد نموًا سريعًا، فبلغ حجمه نحو مليار دولار سنويًا بحلول العام 2023، مع أكثر من 200 شركة ناشطة في المجال. كما يعكس النشاط الفضائي الإسرائيلي جانبًا من شبكة علاقاتها الدولية، إذ تعاونت مع الولايات المتحدة وأوروبا ووكالات مثل "ناسا"، ووقّعت العام 2015 اتفاقًا مع القيادة الاستراتيجية الأميركية لتبادل إنذارات الاصطدام في الفضاء. كذلك شاركت في مشاريع بحثية مشتركة مثل القمر "فينوس" (VENµS) مع فرنسا لدراسة الزراعة والبيئة، ومشروع "شالوم" (SHALOM) مع إيطاليا، إلى جانب شراكات تجارية شملت بيع أقمار تصوير إلى إيطاليا وأذربيجان وتطوير أقمار اتصالات مع سنغافورة.

أبرز المشاريع الفضائية لإسرائيل

يشكّل برنامج الأقمار الصناعية الإسرائيلي نموذجًا بارزًا لدمج الأمن بالاقتصاد والتكنولوجيا في مشروع واحد، إذ تبلور منذ ثمانينيات القرن العشرين الماضي ليصبح أداة أساسية من أدوات القوة الاستراتيجية للدولة. في قلب هذا المشروع تبرز سلسلة أقمار التجسس "أفق"، التي انطلق أولها في العام 1988 وما زالت مستمرة عبر أجيال متطورة مثل "أفق 16" (2020) و"أفق 13" (2023). هذه الأقمار صُممت خصيصًا من أجل تزويد المؤسسة العسكرية بصور فضائية عالية الدقة ومعلومات استخبارية مستقلة، ما يمنح إسرائيل تفوقًا في المراقبة الإقليمية بعيدًا عن الاعتماد على مصادر خارجية.

بالتوازي مع هذا البعد الأمني، طوّرت إسرائيل سلسلة "عاموس" للاتصالات التجارية، حيث لا يزال "عاموس 3" و"عاموس 4" قيد الخدمة لتأمين البث الفضائي والاتصالات، إضافة إلى فتح أسواق دولية تعزز العائدات الاقتصادية وتدعم حضور الشركات الإسرائيلية في قطاع التكنولوجيا الفضائية.

وتسعى إسرائيل اليوم إلى توسيع برنامجها الفضائي عبر خطة خماسية (2022–2027) بميزانية تقدَّر بـ600 مليون شيكل، تهدف إلى تعزيز البحث والتطوير وتشجيع الشركات الناشئة مثل "سبيس فارما" و"إن إس إل كوم" و"رامون سبيس". ومن بين المشاريع المستقبلية اللافتة مشروع "ألترسات" لدراسة انفجارات السوبرنوفا، فضلًا عن شراكات دولية مع أوروبا والإمارات العربيّة المتحدة.

بهذا المعنى، لم يعد الفضاء بالنسبة إلى إسرائيل مجرد مجال علمي، بل تحوّل إلى رافعة استراتيجية واقتصادية تمنحها قدرة استخبارية مستقلة وموقعًا متناميًا في سوق عالمية سريعة النمو. فخلال أربعة عقود فقط، انتقلت من إطلاق أقمار محدودة إلى صناعة نشطة تضم مئات الشركات وآلاف العاملين، ما جعلها لاعبًا صغيرًا لكنه طموح في سباق الفضاء العالمي.

القمر الصناعي الإسرائيلي "درور 1"

 

يمثل "درور 1" محطة فارقة في مسار النشاط الفضائي الإسرائيلي، إذ يُعد أول قمر اتصالات وطني مملوك بالكامل للحكومة. وقد جرى تطويره في "شعبة أنظمة الصواريخ والفضاء" التابعة للصناعات الجوية الإسرائيلية بكتلة بلغت نحو 4.5 طن، وأُطلق بنجاح في 13 تموز 2025 على متن صاروخ "فالكون 9" التابع لشركة "سبيس إكس" من قاعدة "كيب كانافيرال" في ولاية فلوريدا الأميركيّة. وبعد نحو شهر من الإطلاق أعلنت الصناعات الجوية استقراره في مداره الجغرافي الثابت على ارتفاع يقارب 36 ألف كيلومتر فوق سطح الأرض عند الموقع 4° غربًا.

تعود جذور المشروع إلى كانون الثاني 2020، حين قررت الحكومة الإسرائيلية تمويل تطوير قمر اتصالات مستقل بتكلفة تقارب 200 مليون دولار، بهدف ضمان سيادة اتصالاتها بما يشمل المنظومة الأمنية، لفترة تشغيل متوقعة تصل إلى خمسة عشر عامًا. وقد جاء هذا القرار بعد إلغاء التعاون مع شركة "الفضاء للاتصالات" التي خططت لتشغيل قمر "عاموس 8"، ليُعاد توجيه المشروع نحو تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية في الاتصالات الفضائية.

يمتاز "درور 1" بتقنيات رقمية متقدمة تمنحه مرونة كبيرة في إدارة قنوات الاتصال، مع ضمان استمرارية البث وتقليص فرص التشويش أو الانقطاع. وهو مزوّد بجناحين شمسيين بطول 17.8 مترًا، وزوجين من الهوائيات بقطر 2.8 متر، وهي الأكبر في تاريخ أقمار الاتصالات الإسرائيلية. هذه الخصائص التقنية تتيح له إمكان توفير خدمات اتصالات مستقرة وموثوقة طوال سنوات تشغيله، بما يتوافق مع متطلبات الدولة المدنية والعسكرية.

وعلى الصعيد السياسي- الاستراتيجي، يمثل هذا القمر الصناعيّ تحوّلًا في سياسة إسرائيل الفضائية، إذ ينقلها من اعتماد جزئي على شركات خاصة إلى امتلاك أداة وطنية سيادية تخدم الدولة على نحو مباشر. ويعكس ذلك إدراكًا متزايدًا بأن السيطرة على البنية التحتية الفضائية ليست ترفًا علميًا أو تجاريًا، بل هي ركيزة من ركائز الأمن القومي وهي رمز للقوة التكنولوجية. ومن ثمّ لم يكن إطلاق "درور 1" حدثًا تقنيًا فحسب، بل مناسبة لتسويق صورة إسرائيل كقوة قادرة على المنافسة في مجال يظل حكرًا على عدد محدود من الدول.

بهذا يضاف "درور 1" إلى سجل الأقمار الإسرائيلية التي تجمع بين الطابع الأمني–العسكري والبعد الرمزي– العلمي، ليشكّل خطوة جديدة في سعي إسرائيل إلى ترسيخ حضورها في الفضاء كأداة قوة واستقلالية، رغم التحديات التكنولوجية والمالية التي ما زالت تحدّ من قدراتها مقارنة بالقوى الكبرى.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات