حذر محللون وخبراء اقتصاديون إسرائيليون من الاستخفاف باتساع المقاطعة الاقتصادية وأيضا الأكاديمية لإسرائيل في ظل الحرب على الشعب الفلسطيني، رغم مؤشرات النهوض الاقتصادي، خاصة في الأسواق المالية، التي تنشط فيها استثمارات أجنبية بنسب جدّية، في حين يقول تقرير إن القلق يتعاظم في الجامعات الإسرائيلية أمام اتساع حلقة المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل، إذ حتى الآن أعلنت 30 جامعة في العالم مقاطعتها للجامعات الإسرائيلية، لكن حسب التوصيف الإسرائيلي، هناك حالة مقاطعة غير معلنة، من جانب العديد من الجامعات في العالم.
وبعد شن الحرب على الشعب الفلسطيني، وبروز الكوارث التي تخلفها خاصة في قطاع غزة، وأيضا في الضفة الغربية المحتلة، بدأت تصدر قرارات مقاطعات اقتصادية لإسرائيل، ولكنها تزايدت في الأشهر القليلة الأخيرة، وكان آخر هذه القرارات البارزة قرار صندوق الثراء النرويجي (حكومي)، الذي أعلن في الأسبوع الماضي سحب استثماراته من 11 شركة إسرائيلية، لكن في اليوم التالي قالت وسائل إعلام نرويجية، إن النرويج قررت في الشهر الماضي، مقاطعة 17 شركة إسرائيلية.
ويبلغ حجم الصندوق النرويجي نحو 2 تريليون دولار، وقد أعلن عن إلغاء جميع العقود مع مديري الأصول الذين يديرون استثماراته في إسرائيل. كما أوضح أنه باع خلال الأيام الأخيرة حصصه في 11 من أصل 61 شركة إسرائيلية، كان مستثمرا فيها حتى 30 حزيران.
وحسب التقارير النرويجية الإعلامية، فإن صندوق الثراء النرويجي باع منذ الأول من تموز الماضي حصته في "محركات بيت شيمش"، بعدما كان قد زاد حصته فيها خلال النصف الأول من العام. وتشمل الشركات الأخرى التي باع الصندوق حصصه فيها: مجموعة عاموس لوزون للمشاريع والطاقة، عزوريم، ديلك ريكيف، شركة الطيران الإسرائيلية الأكبر "إل عال"، إنرجيكس، إيتورو، ماكس ستوك، لوينشتاين للهندسة، بيريون، بريورتيك، شبكة التسوق "رامي ليفي"، ريت 1، ريتيلورز، سكوب للمعادن، سيلاه للعقارات، وتورباز.
كما أنه في أستراليا، يُمارس ضغط شعبي على "صندوق المستقبل" في البلاد، الذي يُدير أكثر من 200 مليار دولار أسترالي، لوقف استثماراته في الشركات التي تدعم المستوطنات الإسرائيلية وشركات الأسلحة الإسرائيلية. وينطبق الأمر نفسه على نيوزيلندا، حيث يُدير صندوق مماثل للصندوق الأسترالي مبلغا مماثلا.
ويقول المحلل الاقتصادي حجاي عميت، في مقال له في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية: "لا تُدير جميع هذه الصناديق مبالغ كبيرة في إسرائيل. على سبيل المثال، يُستثمر الصندوق النيوزيلندي في شركات إسرائيلية بما يصل إلى 35 مليون دولار، لكن السؤال هو: أين ستصل موجة الصدمة التي تُحدثها هذه الصناديق؟".
وقال إنه "لا ينبغي الاستهانة بالحدث غير المسبوق الذي أعلنه صندوق الثروة السيادية النرويجي". ويضيف: إن هذه كرة ثلجية بدأت بالتدحرج في الأيام الأخيرة، عندما كشفت وسائل إعلام نرويجية عن استثمارات الصندوق في شركة محركات بيت شيمش الإسرائيلية، التي تقدم خدمات للجيش الإسرائيلي، بما في ذلك صيانة الطائرات المقاتلة. ظاهريا، لم يكن هذا خبرا جديدا.
وتابع: "بدأ الصندوق الاستثمار في محركات بيت شيمش منذ العام 2023، في حين أن الشركة لا تخفي أي شيء عن أنشطتها، وترد تفاصيل استثمارات الصندوق في إسرائيل في التقارير التي ينشرها على الإنترنت. بلغت قيمة أسهم الصندوق في محركات بيت شيمش 15 مليون دولار أميركي في نهاية العام 2024. لكن ما تغير، بالطبع، هو قرار الحكومة الإسرائيلية بشن حملة للسيطرة على غزة، خلافا لجميع التحذيرات الدولية".
ومما ختم به عميت: "لن تُحدث خطوة صندوق الثروة النرويجي صدمة في حد ذاتها لسوق المال الإسرائيلية، ولكن السؤال هو: هل تُمثل هذه الخطوة نموذجا ستتبعه هيئات استثمارية دولية أخرى؟".
مؤشرات نهوض اقتصادي... ولكن
ويسأل تقرير لصحيفة "ذي ماركر" أعدته المحللة ميراف أرلوزوروف: "هل التسونامي قادم؟ لا يوجد ما يشير إلى ذلك في البيانات الاقتصادية الإسرائيلية"، إذ أن أرباح الشركات الإسرائيلية في البورصة بلغت أعلى مستوياتها على الإطلاق، ونتيجة لذلك، ارتفع مؤشر "تل أبيب 125" بمعدل استثنائي بلغ حوالي 25% منذ بداية العام. كما أن عائدات الضرائب للدولة بلغت أعلى مستوياتها على الإطلاق، متجاوزة مرارا وتكرارا أكثر التوقعات تفاؤلا.
وتقول الكاتبة إن "توقعات النمو للعام 2026 ممتازة (بافتراض نهاية الحرب في غزة): 4.6% حسب توقعات بنك إسرائيل؛ و5% حسب توقعات وزارة المالية. بالإضافة إلى ذلك، تواصل صناعة التكنولوجيا الفائقة المحلية (الهايتيك) جمع الاستثمارات بوتيرة سريعة: 7 مليارات دولار منذ بداية العام، مقارنة بـ 8 إلى 10 مليارات دولار في عامي 2024 و2023 بالكامل. حتى الرأي القائل بأن شركات الإنترنت فقط هي التي تمكنت من جمع الأموال وأن الصناعات التكنولوجية الفائقة الأخرى تعاني من انخفاض الاستثمارات غير صحيح. تشير تقارير هيئة الابتكار إلى وجود تمويل قوي في مختلف القطاعات".
وقد أعرب كبار الاقتصاديين الحكوميين الذين تحدثت إليهم "ذي ماركر" عن تفاؤلهم، وإن لم يكن حذرا. وخلص أحد كبار الاقتصاديين إلى القول: "لا نرى أي تطور في الاقتصاد حاليا"، بينما أعرب آخر عن رأي أقوى: "إسرائيل ليست في طريقها لتصبح جنوب أفريقيا، التي باعت الفحم والماس للعالم، وكان من السهل الاستغناء عنها. نحن بلدٌ يزخر بالمواهب الواعدة. لدى شركة إنفيديا 35 ألف موظف حول العالم، 5 آلاف منهم في إسرائيل، وهم يفكرون في مضاعفة مقرهم هنا. كما أن مراكز تطوير "آبل" و"غوغل" و"ميتا" في إسرائيل قوية للغاية، ناهيك عن صادراتنا الدفاعية. لا شيء يضاهي المعرفة التي تُصدرها إسرائيل (إلى العالم)، لذا سيكون من الصعب مقاطعتنا".
وحسب أرلوزوروف، فإن "هذا التقييم المتفائل يستند إلى تحليل الصادرات الإسرائيلية، التي ينبع معظمها من خدمات أو منتجات عالية التقنية. ويشير التقييم إلى أن الصادرات التكنولوجية الإسرائيلية محصنة نسبيا ضد التلف، نظرا لجودتها العالية. وينطبق الأمر نفسه على صادرات الدفاع، وأسمدة شركة ICL، أو صادرات الأدوية. فعدد قليل نسبيا من الصادرات الإسرائيلية مُخصص للمستهلك النهائي، لذا فإن مقاطعة المستهلك لا تُشكل تهديدا لنا".
وتابعت قائلة: "في العام 2024، لم يكن هناك انخفاض في الصادرات الإسرائيلية. ومنذ بداية العام 2025، حدث انخفاض في بيانات التجارة الخارجية، لكن هذه البيانات تُعتبر غير دقيقة، ويصعب التمييز بين آثار المقاطعة المُحتملة وآثار الفوضى التي أحدثتها رسوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجمركية. على أي حال، جميع هذه البيانات تعود إلى بداية العام، قبل مجاعة غزة، وما رافقها من انهيار في مكانة إسرائيل الدولية. إذا تطورت المقاطعة، فلن يُرى ذلك في البيانات السابقة، بل فقط في التقارير الفردية التي تُشير إلى تغير في التوجه يحدث أمام أعيننا".
وتسأل: "هل هناك بوادر على مثل هذا التغيير في التوجه؟ يخشى رون تومر، رئيس اتحاد الصناعيين، هذا الأمر، ويقول: ’خلال شهر تموز الماضي، كانت هناك مكالمات هاتفية يومية. شركة تصنيع مكيفات هواء أعلن موردها الإيطالي أنه لن يطلب المزيد من منتجاتها؛ وشركة تكنولوجيا عالية تأخرت شحنتها من العدسات البصرية التي تحتاجها من قبل الجمارك الهولندية لأشهر. لم تعد هذه ضغوطات من حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، بل مقاطعة حقيقية نابعة من اعتقاد الناس في الخارج بأننا برابرة’".
ووفقا لتومر، تُقدّم أعذار متنوعة للتأخير والرفض، فـ"أحيانا يذكر المقاطعون الحرب أو المخاوف الجيوسياسية مباشرة، وأحيانا أخرى يقدمون إجابات مراوغة، لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو المقاطعة الصامتة، أي مقاطعة الشركات التي تتوقف ببساطة عن طلب أو قبول الطلبات من الشركات الإسرائيلية. أخبرني مُصدّر يعمل مع شركة في إسبانيا، يملكها يهودي مُحبّ للسلام، أن المالك يرغب بشدة في مواصلة العمل مع إسرائيل، لكن مدير المشتريات الإسباني يجد مبررات لتفضيله الشراء من منافسيه".
ويقول تومر للصحيفة: "لا يُمكن معرفة اعتبارات مدير المشتريات، وبالتالي لا يُمكن مواجهتها". مع ذلك، يواجه تومر صعوبة في تحديد حجم هذه التقارير العديدة في سياق اتجاه واضح للمقاطعة. فهو لا يعرف حتى ما إذا كانت هناك قطاعات تصدير إسرائيلية أكثر أو أقل حساسية لاحتمالية المقاطعة. كما أثارت محاولة بنك إسرائيل تحديد هذا الحجم، ضمن تقريره للعام 2024، تساؤلات مُحيّرة. حتى الآن، لا شيء يُذكر في أرقام الاقتصاد الكلي.
قلق من المقاطعة الأكاديمية
في مقابل الوضع الاقتصادي، فإن القلق يتزايد في الحقل الأكاديمي الإسرائيلي، إذ حسب "ذي ماركر"، فإن "المقاطعة في المجال الأكاديمي قائمة بالفعل، وتتطور بوتيرة مثيرة للقلق. والوضع في الأوساط الأكاديمية حرج للغاية لدرجة أن لجنة رؤساء الجامعات شكلت فريق عمل خاص، برئاسة عمانوئيل نحشون، وهو مسؤول كبير سابق في وزارة الخارجية. ويقول نحشون: ’بدأت الأزمة بمظاهرات طلابية في الجامعات ضد إسرائيل، لكنها تطورت من هناك، وبدلا من الطلاب، اليوم، أصبح أعضاء هيئة التدريس هم من يقاطعون الباحثين الإسرائيليين، بل وحتى جامعات بأكملها ترفض العمل مع المؤسسات الإسرائيلية’".
ويثار القلق من البيانات التي تجمعها فرقة عمل نحشون من الجامعات الإسرائيلية، فخلال العام 2024، تم جمع 200 تقرير حول مقاطعة العلماء الإسرائيليين. وتشير التقديرات إلى أنه بنهاية العام 2025 سيكون هناك 700 تقرير بالفعل، ويتجاوز المعدل 50 تقريرا شهريا. وتتنوع إجراءات المقاطعة: رفض المقالات، ورفض طلبات المنح البحثية، ورفض الدعوات لحضور المؤتمرات، وبالطبع رفض حضور مؤتمرات في إسرائيل، ورفض الدعوات للتفرغ العلمي، وحتى رفض تقديم خطاب توصية لعضو هيئة التدريس المرشح للترقية.
وقالت الصحيفة إنه "على عكس الانطباع السائد، لا تقتصر المقاطعة على العلوم الإنسانية والاجتماعية فحسب، بل على العكس تماما. فمعظم تقارير حالات المقاطعة اليوم تتركز في الفروع العلمية الدقيقة، مثل علوم الحياة أو العلوم الدقيقة. وعلى عكس الانطباع السائد، لا تقتصر المقاطعة على الجامعات الأميركية فحسب، فالجامعات الأوروبية هي التي تقود المقاطعة اليوم، والتي تشمل أيضا جامعات في كندا وأستراليا".
وقد أعلنت حوالي 30 جامعة مختلفة حول العالم رسميًا مقاطعتها للمؤسسات الأكاديمية في إسرائيل. وتشمل هذه المقاطعة أيضًا جامعات مهمة ورائدة مثل أمستردام وروتردام وجنيف، وحتى مقاطعة أقل رسمية من جامعة السوربون في باريس. وتُقاطع إسرائيل رسميًا جميع جامعات هولندا وبلجيكا تقريبا، وجزء كبير من جامعات إسبانيا. ويُقدّر نحشون: "في الولايات المتحدة لم يحدث هذا بعد، ولكن هذا فقط بسبب الخوف من الرئيس ترامب. وبعد ثلاث سنوات، ستُقاطعنا الجامعات الأميركية أيضًا".