المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
فوضى "المساعدات" المدَبَّرة: مشهد من خان يونس في 9 آب 2025. (أ.ف.ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 10
  • ياسر مناع

في السنوات الأخيرة أضحى منصب "المنسّق" [منسق شؤون الحكومة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة 1967] بمثابة الجهة المركزية المسؤولة عن مختلف جوانب الحياة المدنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، متحكّماً في ملفات حيوية تشمل إصدار تصاريح العمل في إسرائيل، ومنح رخص التجارة، والموافقات على الحركة والتنقل، وتنظيم الأنشطة الاقتصادية. وعملياً، غدا أي نشاط مدني في هذه المناطق مرهوناً بموافقته، ما جعله صاحب تأثير بالغ على الحياة اليومية لملايين الفلسطينيين. كذلك، الإشراف على قطاعات البنى التحتية كالكهرباء والمياه والاتصالات، إلى جانب إدارة سجل السكان وأنظمة التعليم والصحة، وهو ما جعل هذا المنصب أشبه بجهاز ذي صلاحيات شبه مطلقة.

في هذا السياق، نشر معهد القدس للاستراتيجيا والأمن (JISS) بتاريخ 6 نيسان 2025، ورقة بحثية أعدّها غابي سيبوني وإيرز وينر، بعنوان "منسّق أعمال الحكومة في المناطق – جهاز فاقد البوصلة"، دعت الورقة إلى إلغاء المنصب واستبداله بآلية جديدة للتعامل مع الفلسطينيين ضمن إطار مدني تنظيمي تابع لوزارة الجيش، وبما ينسجم مع رؤية استراتيجية إسرائيلية أوسع.[1]

تسعى هذه المساهمة إلى تقديم عرض لمفهوم منصب "المنسّق"، وأبرز الشخصيات التي تولّت مهامه منذ تأسيسه، واستعراض الأسباب التي طرحتها الورقة للمطالبة بإلغائه، بالإضافة إلى عرض الرؤية البديلة المقترحة.

من هو "المنسق"؟

وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة (COGAT)  هي وحدة تابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية، تضطلع بمهمة تنسيق القضايا المدنية بين حكومة إسرائيل، والجيش الإسرائيلي، والمنظمات الدولية، والبعثات الدبلوماسية، والسلطة الفلسطينية. وتشكّل هذه الوحدة، فيما يتعلق بمناطق "ج" (بما في ذلك المستوطنات)، الجهة الإدارية العليا المسؤولة عن تنفيذ خطط الحكومة الإسرائيلية. أمّا في مناطق (أ ، ب)، فتعمل وحدة "المنسّق" كقيادة ارتباط لتنسيق مختلف الجوانب المدنية والعسكرية بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية.[2]

وقد خصّص المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار سلسلة حلقات بودكاست تناولت آليات عمل منظومة السيطرة الإسرائيلية، بما في ذلك الدور الذي تؤديه وحدة "المنسّق" بوصفها إحدى أبرز أدوات هذا الاحتلال البنيوي. وقد سلّطت السلسلة الضوء على طبيعة مهام هذه الوحدة، وآثارها المباشرة وغير المباشرة في الضفة الغربية، وانعكاسات سياساتها على تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين.[3]

شهدت هيكلية وحدة "المنسّق" تحولاً جوهرياً بمطلع ثمانينيات القرن العشرين، عقب توقيع اتفاقيات السلام مع مصر؛ إذ تقرر آنذاك الفصل المؤسسي بين النشاط المدني والنشاط الأمني، فتم إنشاء الإدارة المدنية لتتولى الصلاحيات المدنية، بينما بقي الحكم العسكري تحت مسؤولية قادة المناطق (القيادة المركزية والقيادة الجنوبية) وفقاً للتقسيم الجغرافي.

 وقد اتخذت الإدارة المدنية من بيت إيل مقراً لها لتكون الهيئة المركزية المسؤولة عن إدارة الشؤون المدنية في الضفة الغربية، في حين عملت مديرية التنسيق والارتباط في غزة ضمن إطار الحكم العسكري في مدينة غزة، ثم انتقلت – بعد اتفاقيات أوسلو – إلى مقر قرب معبر إيرز، حيث استمرت حتى الحرب على غزة العام 2023.

عقب اتفاقيات أوسلو العام 1993، تم إنشاء جهاز جديد باسم "مقر التنسيق الأمني"، هدفه تنظيم التعاون بين الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية. إلا أنّ هذا الجهاز أُلغي في كانون الثاني 2003، بعد عملية "السور الواقي"  العام 2002 التي استعادت خلالها إسرائيل السيطرة الأمنية على مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ليُعاد دمجه ضمن الهيكلية العامة لوحدة "المنسّق".

من أبرز الشخصيات التي تولت قيادة الوحدة؟

منذ استحداثه العام 1967، شغل منصب منسق أعمال الحكومة في المناطق ثمانية عشر مسؤولاً حتى اليوم، ومن أبرزهم:

أولاً: شلومو غازيت، يحمل رتبة لواء في الجيش الإسرائيلي، تولّى قيادة وحدة منسق أعمال الحكومة في المناطق من أيلول 1967 حتى عام 1974، ثم شغل لاحقاً منصب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) بين 1974 و1979، ثم رئاسة جامعة بن غوريون في النقب 1982–1985، إضافة إلى منصب المدير العام للوكالة اليهودية.

ثانياً: بنيامين (فؤاد) بن إليعازر، تولى منصب منسق أعمال الحكومة في المناطق بين عامي 1983 و1984، كما كان عضواً في الكنيست وتولّى حقائب وزارية في عدة حكومات إسرائيلية. وفي الفترة ما بين عامي 2001 و2002، تقلّد منصب وزير الدفاع أثناء الانتفاضة الثانية وعملية السور الواقي (اجتياح الضفة الغربية، 2002)، كما ترأّس في الوقت نفسه حزب العمل.

ثالثاً: عاموس جلعاد، تولّى منصب رئيس الدائرة الأمنية - السياسية في وزارة الدفاع، وشغل سابقاً رئاسة شعبة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية (أمان) ومنصب منسق أعمال الحكومة في المناطق بين عامي 2001 و2003. ويترأس جلعاد حالياً معهد رايخمان للسياسات والاستراتيجيا.

رابعاً: غسان عليان، يشغل منذ العام 2021 حتى اليوم منصب منسق أعمال الحكومة في المناطق. كما شغل سابقاً عدة مناصب، من بينها رئاسة الإدارة المدنية، ورئاسة أركان قيادة المنطقة الوسطى، وقيادة سلاح المشاة والمظليين، وقيادة لواء غولاني.

الأسباب الداعية لإلغاء منصب "المنسّق"

ترى الورقة أنّ هناك جملة من الدوافع التي تستدعي إلغاء منصب "المنسّق"، ويمكن تلخيصها على النحو الآتي:

أولاً: الإرباك الناتج عن الحوار المباشر مع السلطة الفلسطينية

تشير الورقة إلى أن التواصل المباشر مع ممثلي السلطة الفلسطينية، المسمَّين بـ"النظراء"، أوجد حالة من الإرباك داخل طاقم "المنسق"، في حين أن الاحتكاك المستمر مع الجانب السياسي دفع إلى تبنّي سياسات تُقيَّم حالياً على أنها جوهرياً خاطئة، مثل السماح بدخول العمال من قطاع غزة، وطرح مبادرة "جنين عاصمة التجارة".

ثانياً: التقصير في التعامل مع المخاطر الأمنية

ترى الورقة أن "المنسق" انشغل بمعالجة الملفات المدنية والاقتصادية على حساب إدراك تبعاتها الأمنية، مستنداً إلى افتراض بأن الأجهزة الأمنية ولا سيما جهاز "الشاباك" ستتولى فرض القيود الضرورية. وقد انعكست هذه المقاربة في سلسلة من الإخفاقات ناجمة عن غياب رؤية استراتيجية شاملة، وضعف التنسيق بين الجهات المختصة، فضلاً عن الميل لاعتماد تحسين الأوضاع الاقتصادية كأداة لضمان الهدوء، ودفع المجتمع والقيادة الفلسطينية إلى فرض قيود ذاتية على فصائل المقاومة.

ثالثاً: الموقف أثناء الحرب على غزة 2023

تشير الورقة إلى أن هجوم حركة حماس على مقر التنسيق في معبر إيرز كشف عن إخفاق استراتيجي لمكتب منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. فقد تبنّى "المنسق"، خلال حرب الإبادة على قطاع غزة، موقفاً معارضاً بصورة حازمة لأي مسعى لفرض إدارة عسكرية مباشرة على القطاع، وسعى إلى ترسيخ قناعة لدى دوائر صنع القرار بأن هذا الخيار "غير قابل للتطبيق". كما عرقل جهود تشكيل قيادة مدنية بديلة لتولي إدارة الشؤون الإنسانية في غزة، وأصرّ على استمرار آلية إيصال المساعدات الإنسانية، والتي وصلت في بعض الحالات إلى حركة حماس. كذلك، رفض طلب قيادة المنطقة الجنوبية إنشاء مقر مدني يخضع لإشرافها الميداني، وأصرّ على الإبقاء على السيطرة كاملة ضمن نطاق صلاحياته.

رابعاً: الإخفاقات البنيوية والفكرية

تشير الورقة إلى أن الوحدة أُنشئت في الأصل كجسم مؤقت، لكنها تحوّلت تدريجياً إلى جهاز دائم من دون تخطيط استراتيجي بعيد المدى، الأمر الذي أفضى إلى غياب رؤية شاملة، واتخاذ قرارات قائمة على اعتبارات آنية أفرزت نتائج غير متوقعة. كما برز ميل مفرط نحو "التطبيع" الاجتماعي والمؤسسي مع الفلسطينيين، إلى الحد الذي بدا فيه "المنسق" – في مواقف عديدة – أشبه بممثل للسلطة الفلسطينية، يسعى إلى تقديم التسهيلات والتنازلات لها حتى في ظل تكرار الانتهاكات الأمنية، مع العمل على احتواء تداعيات الأحداث عليها وتبرير سلوكها وسلوك قياداتها.

خامساً: البيروقراطية المرهِقة وضعف التنسيق

ترى الورقة أن الوحدة تعاني من بيروقراطية متشابكة نتيجة تعدد الإدارات وتداخل الصلاحيات، ما يعيق الفعالية الميدانية، فضلاً عن نزعة متكررة لتجاهل الأبعاد الأمنية والعملياتية في عملية صنع القرار.

كما يُسجَّل ميل سياسي واضح نحو استرضاء أطراف دولية وفلسطينية على حساب ما تعتبره إسرائيل "مصلحة قومية"، إلى جانب مشاركة "المنسق" في نقاشات عملياتية داخل هيئة الأركان وقيادات المناطق بأسلوب يوحي بتمثيل الموقف الفلسطيني.

ملخص الرؤية البديلة المقترحة

 

تطرح الورقة مقترحاً لتفكيك وحدة منسق أعمال الحكومة في المناطق (المحتلة) واستبدالها بتنظيم مدني جديد يتبع وزارة الدفاع، يقوم على تخطيط إستراتيجي بعيد المدى، ويضمن فصلاً واضحاً بين المهام الأمنية– العملياتية والمهام المدنية، مع الحفاظ على تنسيق فعّال بين هذه الجهود بما يخدم المصلحة الإسرائيلية، على أن يتم العمل بشفافية وتحت رقابة مباشرة من المستوى السياسي.

وتشير الورقة إلى أن خطوة أولى قد تحققت بالفعل، تمثّلت في نقل صلاحيات إدارة شؤون المستوطنين اليهود في الضفة الغربية من الإدارة المدنية إلى وحدة جديدة تابعة لوزارة الدفاع. وفي المقابل، ستستمر الإدارة المدنية في إدارة الشؤون الفلسطينية في الضفة تحت قيادة المنطقة العسكرية الوسطى، في حين شهدت مجالات البناء والتطوير في المستوطنات اليهودية تحسناً ملحوظاً بعد نقل صلاحياتها إلى الوزارة.

أما في قطاع غزة، فتقترح الرؤية إنشاء مقر عسكري مهماتي تحت قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية يتولى الحكم العسكري المستقبلي وإدارة المساعدات المدنية، بما يضمن دمج الجهدين العسكري والمدني، ومعالجة طلبات خروج الفلسطينيين من القطاع. كما تدعو إلى تعديلات تنظيمية في وزارة الدفاع وتوسيع مديرية الهجرة الجديدة لتشمل إدارة المساعدات المدنية لغزة.

في الختام، يؤكد سيبوني ووينر، كاتبا الورقة، أن هذا المقترح لا يشكّل خطة نهائية، بل هو طرح أولي للنقاش بين صانعي القرار، بهدف بلورة هيئة أكثر ملاءمة لـ"التحديات الأمنية التي تواجه إسرائيل"!

 

[1]. غابي سيبوني، إيرز وينر. "منسق أعمال الحكومة في المناطق – جهاز فاقد البوصلة"، معهد القدس للاستراتيجيا والأمن. 4 حزيران 2025. https://jiss.org.il/siboni-winner-cogat/

[2] للمزيد أنظر/ي وليد حباس، "ميزانية 'وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية' في الأرض المحتلة للعام 2023-2024: قراءة في مجالات الصرف وتبعاتها"، تقدير موقف، مدار، 26 أيلول 2023. https://2u.pw/2dg1e

[3] هنيدة غانم ووليد حباس، "الحلقة 3: 'أنا المنسق، والمنسق أنا'"، بودكاست الموسم 8: كيف يعمل الاحتلال الإسرائيلي؟، 17 أيلول 2024. https://2u.pw/nirYd

المصطلحات المستخدمة:

الإدارة المدنية, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات