في السنة التي أعقبت الحرب الإسرائيلية على لبنان، شهد لبنان تحوّلات سياسية وأمنية لافتة، وتحولت إلى مادة للبحث والرصد إسرائيلياً، خاصة مع استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان على المستويات المختلفة، وقد استعرضنا في مساهمات سابقة ضمن ملحق "المشهد الإسرائيلي" جزءاً كبيراً من أبرز الدراسات والتقارير التي تناولت الوضع اللبناني الداخلي وموازين القوى، وقدرات حزب الله واستراتيجياته المتوقعة في ظل مرحلة انتقالية يمرّ بها لبنان منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار وبروز قيادة لبنانية جديدة تسعى لنزع سلاح حزب الله وتعزيز نفوذ الدولة. هذه المساهمة تستعرض تقريراً موسّعاً بعنوان "عام على وقف إطلاق النار: هل تغير لبنان حقاً؟" من إعداد أورنا مزراحي وموران لفنوني لمعهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب.
جدير بالذكر أن الأفكار والمصطلحات الواردة أدناه لا تُعبّر عن وجهة نظر كاتب المساهمة أو مركز مدار.
في البداية يقدم التقرير قراءة شاملة للتحوّلات السياسية والأمنية في لبنان خلال عام (منذ وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله)، مركزاً على تأثير ما يصفه بـ "الهزيمة" التي مُني بها حزب الله على ميزان القوى الداخلي في لبنان، وعلى استراتيجيات الحزب وسلوك الحكومة اللبنانية الجديدة، وعلى الفرص والمخاطر التي تبلورت أمام إسرائيل في الواقع الناشئ بعد الحرب. وينطلق التقرير من فرضية مركزية: "إن هزيمة حزب الله العسكرية فتحت نافذة ضيّقة لكنها ذات إمكانات لإعادة تشكيل النظام السياسي اللبناني، وتعزيز سيادة الدولة على حساب نفوذ حزب الله"، وتطوير علاقات جديدة بين لبنان وإسرائيل، وإن كان ذلك مشروطاً بقدرة الدولة اللبنانية الضعيفة على مواجهة حزب الله، وبمستوى الانخراط الإيراني، وبتطور المواجهة العسكرية بين إسرائيل والحزب".
يستعرض التقرير ما يصفه بالانهيار اللبناني المتراكم قبل الحرب وبعدها، حيث يصف لبنان بأنها "دولة فاشلة" حتى قبل تلقيها أضراراً اقتصادية تقدّر بنحو 11 مليار دولار، وغارقة في أزمات اقتصادية- اجتماعية عميقة جعلتها عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية. وفي هذا السياق، يؤكّد التقرير أن "هزيمة حزب الله شكّلت صدمة للمنظومة اللبنانية"، أحدثت اهتزازاً في مكانة الحزب، ودفعت باتجاه إعادة ترتيب موازين القوى الداخلية بين معسكر "السيادة" ومعسكر المقاومة الذي يقوده حزب الله.
بحسب التقرير، فقد تمثّلت أبرز التحولات في صعود "قيادة سياسية- مؤسساتية جديدة"، مكوّنة من الرئيس جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، وكلاهما بحسب التقرير "ذو خلفية مهنية ومؤسسية تعطي الأولوية لإصلاح الدولة وتعزيز سيادتها، بخلاف النخب التقليدية التي انشغلت بالمصالح الطائفية والذاتية"، وقد أعلنت القيادة الجديدة برنامجاً يرتكز على إصلاحات اقتصادية وإدارية وهيكلية، وإعادة بناء البنى التحتية، إلى جانب مشروع مركزي يتمثل في استعادة سيادة الدولة من خلال نزع سلاح الحزب.
إن الحكومة الجديدة- كما يقدّمها التقرير- لم تتبنّ رواية المقاومة التي لطالما شكّلت جزءاً من شرعية حزب الله داخلياً، وهو ما يعكس تغيراً سياسياً مهماً، ومؤشراً على تراجع نفوذ الحزب داخل الحكومة بشكل واضح: من أصل 24 وزيراً، لم يعد يمثّل "الكتلة الشيعية" سوى خمسة وزراء، اثنان منهم فقط مرتبطان مباشرة بحزب الله، وهذا ما حال دون تمكن الحزب من منع إصدار القرار الحكومي (في 5 آب) بشأن جمع الأسلحة خارج نطاق الدولة وتسليمها للجيش اللبناني، وهو قرار اعتُبر توجّهاً واضحاً نحو نزع سلاح حزب الله، والذي قابله الحزب بالاحتجاج عبر غياب وزرائه عن التصويت، إنما من دون أن ينجح في تعطيل القرار كما كان يحدث في السابق.
ورغم ذلك، يوضح التقرير أن الحكومة اللبنانية لم تتمكن من تنفيذ قرارها، بسبب معارضة الحزب الحاسمة وقدرته الرادعة داخلياً والمبنية على السلاح المتبقي بيده، وبسبب تهديده بأن أي خطوة لنزع سلاحه بالقوة قد تجرّ البلاد إلى حرب أهلية جديدة، كما أن ضعف الجيش اللبناني، الذي يضم نسبة مرتفعة من الجنود الشيعة، جعل تنفيذ المهمة شبه مستحيل، ولذلك، يشير التقرير إلى أن القيادة اللبنانية الجديدة قررت اعتماد مقاربة "دبلوماسية" لا تمتلك القدرة على فرض النتائج المطلوبة ولا تُحدث تغييراً فعلياً في موازين القوة.
إلى جانب ذلك، يوضح التقرير أن حزب الله، الذي ما يزال يتعرض إلى ضربات مستمرة من الجيش الإسرائيلي على مستوى الأفراد والبنية التحتية في الجنوب والبقاع وبيروت، قرّر التركيز على إعادة بناء قوته العسكرية والاقتصادية بمساعدة إيران، وتشمل استراتيجيته الجديدة الامتناع عن الرد على الهجمات الإسرائيلية في هذه المرحلة، وإلقاء مسؤولية المواجهة مع إسرائيل على الحكومة اللبنانية، عبر مطالبتها بالتحرك الدولي لوقف الهجمات وطرد إسرائيل من الأراضي اللبنانية، ويحافظ حزب الله في الوقت نفسه على الحيلولة دون حدوث مواجهة مباشرة مع الحكومة أو مع قوات الأمن، لكنه يبقي قدرة الردع الداخلية قائمـة. من جهة أخرى، يسجل التقرير أن الحكومة اللبنانية اتخذت خطوة غير مسبوقة، يصفها بأنها "ضربة سياسية" للحزب، عبر مشاركتها ممثلاً دبلوماسياً في اجتماع للجنة الدولية الخماسية لمتابعة اتفاق وقف إطلاق النار، إلى جانب طرف إسرائيلي مدني، وهو سلوك طالما حاربه الحزب في السابق واعتبره تنازلاً سياسياً خطيراً (شبّه الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم القرار بثقب في السفينة التي تحمل الشعب اللبناني).
وحول دوافع الحكومة لهذه الخطوة، يؤكّد التقرير أن الأخيرة اندفعت نحو هذا القرار بفعل مخاوف من توسيع المواجهة العسكرية مع إسرائيل، وبفعل الضغط الأميركي المتزايد الذي وضع جدولاً زمنياً لحل قضية سلاح الحزب الله، بالإضافة لذلك، لعبت عملية اغتيال علي طبطبائي، رئيس أركان حزب الله الفعلي، دوراً في تعزيز شعور الحكومة بإمكانية استثمار الضعف البنيوي الذي طرأ داخل الحزب بعد الحرب، وكذلك زيارة البابا للبنان باعتبارها دعماً معنوياً للشرعية. إن موقف الحكومة بحسب التقرير يعكس تراجعاً إضافياً في مكانة حزب الله، ويضعه في معضلة استراتيجية: التصعيد العسكري قد يؤدي إلى إضعافه أكثر وتعميق أزماته، والامتناع عن الرد قد يشجع خصومه في الداخل على خطوات قد تمسّ بنفوذه ومكانته.
يستعرض التقرير أيضاً "القيود البنيوية" التي يواجهها حزب الله في هذه المرحلة: فقدان ميزان الردع في مقابل إسرائيل، وخسارة عدد كبير من قياداته العسكرية والسياسية، وصعوبة تلبية احتياجات بيئته الشيعية المتضرّرة من الحرب، وتراجع شعبيته في لبنان عموماً نتيجة مسؤوليته عن الأضرار الناتجة عن الحرب، وتزايد الضغوط الدولية عليه لاستهداف مصادره المالية، والضغط الموازي على الحكومة اللبنانية لتنفيذ التزاماتها بنزع سلاح الحزب، وخاصة الضغط الأميركي.
يخلص التقرير إلى القول إنه بالرغم من الأهمية الكبيرة للتغير السياسي الذي طرأ في لبنان بعد الحرب، إلا أنه لا يكفي لإحداث اختراق حقيقي في أزمة الدولة اللبنانية: فالمؤسسة العسكرية (الجيش) ضعيفة للغاية، والدولة مكبّلة بـ "أمراض بنيوية مزمنة"، مثل النظام الطائفي، الانهيار المصرفي، فساد المؤسسات العامة، والبنى التحتية المتهالكة، كما أن قدرة الحكومة على فرض سيادتها على حزب الله ما تزال محدودة، والاحتمال قائم دوماً لعودة المواجهة العسكرية بين إسرائيل والحزب.
وعلى المستوى الإسرائيلي، يرى التقرير أن الحرب أوجدت فرصة لإضعاف حزب الله وخلق واقع جديد تماماً في العلاقة مع لبنان، لكن هذه الفرصة مقيّدة بعوامل عديدة، أبرزها ضعف قدرة الدولة اللبنانية على مواجهة الحزب، واستمرار النفوذ الإيراني العميق، واحتمال اندلاع جولة جديدة من المواجهة العسكرية، ولذا يوصي التقرير بسياسة إسرائيلية تجمع بين استمرار الضغط العسكري على حزب الله وبين خطوات سياسية- اقتصادية تدعم الدولة اللبنانية، بالتنسيق الوثيق مع الولايات المتحدة وذلك على النحو التالي: ضرورة مواصلة ضرب أهداف حزب الله بما يمنع إعادة ترميمه، مع تجنب عمليات واسعة قد تُلحق ضرراً كبيراً بالمدنيين اللبنانيين؛ اشتراط دعم الجيش اللبناني بإجراء إصلاحات داخلية جذرية وتفكيك البنية التي تسمح بتأثير حزب الله داخل الجيش؛ تعزيز المسار التفاوضي مع لبنان ولو بخطوات بطيئة، والدفع نحو تغيير القانون اللبناني الذي يمنع الاتصال مع الإسرائيليين؛ والنظر في "تنازلات محسوبة" لتقوية القيادة اللبنانية الجديدة مثل الإفراج عن أسرى أو تقليص انتشار الجيش أو دعم مشاريع اقتصادية لتخفيف اعتماد الطائفة الشيعية على الحزب، وتوسيع الحملة الدولية لتجفيف مصادر التمويل الخارجية للحزب... إلخ.