في مؤتمر "أسبوع السايبر" في جامعة تل أبيب بتاريخ 11 كانون الأول 2025، أدلى رئيس جهاز الشاباك الأسبق رونين بار بتصريح نادر، إذ قدّم فيه سرديته الخاصة لأحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وأوضح بار أنّه في ذلك الصباح المروّع، وعلى المستويات الشخصية والتنظيمية، "رفع الشاباك رأسه وانطلق إلى الحرب على جميع الجبهات"، مشيراً إلى أنّ عناصر الجهاز "قاتلوا وخاطروا بحياتهم، وأخلوا المدنيين تحت النار، وقادوا عمليات إنقاذ غير مسبوقة، وقضوا على المهاجمين، ووفوا بالعهد الذي قطعوه".
وأضاف بار أنّ ما جرى يشكل "ميونيخ الخاصة بنا"،[1] مؤكداً أنّ الجهاز سيحاسب الجميع في لبنان وغزة وفي مختلف أنحاء العالم. كما كشف أنّه لم يتبقَّ من مهندسي الهجوم المباغت على غلاف غزة سوى اثنين فقط لتصفية الحساب معهما، مشيراً في ختام حديثه إلى ضرورة استعادة "ران"، في إشارة إلى الجثة الإسرائيلية الوحيدة التي ما تزال محتجزة في غزة.
وبعد بضعة أيام من هذا التصريح، أعلنت إسرائيل في 13 كانون الأول 2025 عن اغتيال رائد سعد أحد القياديين البارزين في الجناح العسكري لحركة حماس في قطاع غزة، والذي تتهمه إسرائيل بالضلوع في التخطيط لهجوم السابع من أكتوبر.
يُعدّ توصيف بار لما جرى بأنه "ميونيخ الخاصة بنا" ذا دلالة لافتة، إذ يستحضر بصورة مباشرة ما يُعرف بـ "عقيدة ميونيخ"، التي صاغتها رئيسة الوزراء الرابعة غولدا مائير عقب هجوم ميونيخ عام 1972، والقائمة على مبدأ الملاحقة العابرة للحدود والاغتيالات. ويُظهر استدعاء بار لهذا المفهوم في سياق السابع من أكتوبر محاولةً لإدراج اللحظة الراهنة ضمن إطار استراتيجي قديم.
تهدف هذه المساهمة إلى استعراض "عقيدة ميونيخ" من حيث جذورها وتطبيقاتها، وهل تم إسقاطها على موجة الاغتيالات التي تلت السابع من أكتوبر 2023؟
غولدا مائير و"عقيدة ميونيخ"
شهدت مدينة ميونيخ الألمانية، خلال دورة الألعاب الأولمبية الصيفية بين 5 و6 أيلول 1972، واحدة من أبرز العمليات الفلسطينية، إذ نفّذت منظمة "أيلول الأسود" عملية احتجاز رهائن إسرائيليين بهدف الضغط للإفراج عن 236 أسيراً في السجون الإسرائيلية، إضافة إلى المنتمي إلى الجيش الأحمر الياباني كوزو أوكاموتو. وانتهت العملية بمقتل 11 رياضياً إسرائيلياً، وخمسة من أفراد المجموعة الفلسطينية، فضلاً عن شرطي ألماني وطيار مروحية.
في هذا السياق تبلورت ما أصبح يُشار إليه بـ "عقيدة غولدا" أو "عقيدة ميونيخ"، وهي مقاربة تشكّلت عقب تلك الحادثة بصفتها نقطة تحوّل مفصلية دفعت إسرائيل إلى اعتماد منهج جديد في التعامل مع العمليات المسلحة، يقوم على مبدأ "أن الذين يسفكون الدم اليهودي لن يكونوا في مأمن أبداً".
واستناداً إلى هذا التصوّر، غدت الاغتيالات ذات الطابع الانتقامي عنصراً ثابتاً في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، تُمارَس سراً وعلناً عبر ملاحقة قادة الفصائل الفلسطينية في مختلف أنحاء العالم.[2]
ولهذه الغاية، شُكّلت لجنة خاصة عُرفت باسم "لجنة الإكسات"، عهد إليها اختيار الأهداف المرشّحة للتصفية والمصادقة على تنفيذها، استناداً إلى المعلومات التي يزوّدها بها كلّ من الموساد وشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان). وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ إسرائيل استغرقت نحو ستة عشر عاماً في إطار العمل وفق تلك القائمة، لتصفية أقلّ من عشرين شخصية كانت قد حدّدتها اللجنة.[3] في عملية تمت تسميتها بـعملية "غضب الرب".
في الواقع، شهدت فترة ولاية مائير موجة متصاعدة من العمليات الفلسطينية التي بدأت داخل إسرائيل ثم امتدت عبر الحدود من الأردن ولبنان، وتطورت إلى عمليات إطلاق نار عن بُعد وخطف طائرات واستهداف الممثليات الإسرائيلية في الخارج، قبل أن تعود إلى الداخل مجدداً.
وقد دفعت هذه التطورات الحكومة الإسرائيلية آنذاك إلى صياغة ردّ يقوم على مستويين،[4]وهما:
أولاً: استراتيجياً عبر تعزيز الردع وتحميل الدول العربية مسؤولية ما يجري باعتبارها مصدر التهديد الوجودي، خاصة في ظل الخطاب التحريضي والمنظومات العسكرية لمصر وسورية، فيما اعتُبر العمل المسلح تهديداً خطيراً لكنه غير وجودي، وهو ما لخّصته مائير بقولها إنّ الدول العربية تواصل تزويد "المخربين" بالمال والسلاح والدعم.
ثانياً: تكتيكياً اعتمدت إسرائيل على ثلاثة محاور: 1. استهداف القدرات من خلال ضرب البنى التحتية وتصفية القادة والمنفذين من الفصائل الفلسطينية. 2. تقليص مستوى التعرض للهجمات عبر تعزيز الحماية والإجراءات الدفاعية. 3. ضرب الدافعية عبر الردع والعقوبات.
وقد أثار هذا النهج نقاشاً واسعاً حول جدواه، إذ إنّ الغارات الإسرائيلية العميقة، رغم ما ألحقته من أذى بالفلسطينيين، أسهمت في تعزيز التعاطف العالمي مع قضيتهم، وتسببت بخسائر كبيرة لإسرائيل، كما دفعت التنظيمات إلى ابتكار أساليب جديدة مثل موجة عمليات المقايضة في منتصف السبعينيات.
أدركت غولدا مائير في نهاية المطاف أنّ الدفاع وحده غير كافٍ، وأن الردع ليس مضموناً دائماً، وأنّ المطلوب هو الانتقال من استراتيجية " شبكة أمان الصياد " إلى استراتيجية أكثر هجومية تُسمّى "ذهنية الصيّاد". ولهذا أمرت أجهزة الاستخبارات بتنفيذ الاغتيالات المركّزة ضد القادة الضالعين في العمليات، وخصوصاً المشاركين في عملية ميونيخ. وقالت: "لا يمكن أن تقتصر حربنا ضد (الإرهابيين) العرب على الدفاع والحراسة، بل يجب أن تكون حرباً فاعلة: كشف القتلة وقادتهم، إحباط خططهم، وتدمير تنظيماتهم".[5]
السابع من أكتوبر وإحياء "عقيدة ميونيخ"
عقب هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أكّدت القيادة الإسرائيلية أكثر من أي وقت سابق وفي مناسبات متعددة تبنّيها سياسة ملاحقة قادة حركة حماس في الداخل والخارج. فقد أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلى جانب كبار قادة المؤسستين العسكرية والأمنية، التزامهم الصريح بالمضي في هذا النهج. وفي إطار هذا التوجّه، أنشأ جهاز الشاباك وحدة خاصة تُدعى "نيلي"، كلّفت بإدارة وتنفيذ عمليات الاغتيال الدقيقة خارج نطاق المواجهة التقليدية. وفي ضوء هذا السياق يمكن فهم تصريح بار بقوله: "هذه ميونيخ الخاصة بنا".
وقد وُضعت هذه السياسة موضع التطبيق منذ الساعات الأولى للحرب، عبر استهداف طيف واسع من القادة السياسيين والعسكريين في الفصائل الفلسطينية داخل قطاع غزة. ولم تُحصر العمليات في نطاق الجغرافيا الفلسطينية، بل امتدت إلى الخارج، مثل: اغتيال صالح العاروري في بيروت، اغتيال إسماعيل هنية في طهران، اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وبالإضافة إلى محاولة اغتيال قيادة حماس في العاصمة القطرية الدوحة.
وانطلاقاً من تصوّر مفاده أنّها تخوض حرباً متعددة الجبهات، في الداخل كان تعمل إسرائيل على ساحتين، وهما:
المعركة الأولى: تنفيذ سلسلة اغتيالات ممنهجة تستهدف القادة البارزين والعناصر من حماس، الذين تُحمِّلهم إسرائيل مسؤولية تخطيط وتنفيذ هجوم السابع من أكتوبر، إضافة إلى استهداف قيادات ومقاتلي الفصائل الأخرى.
المعركة الثانية: الضفة الغربية، حيث تنفّذ إسرائيل عمليات اغتيال موجّهة تُعنى بضرب البنية التحتية للمجموعات المسلحة هناك.
يجدر التذكير هنا بأن ورقة تقدير موقف صادرة عن مركز مدار تحت عنوان "ظاهرة الاغتيالات الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر: بين ذريعة التدبير الوقائي والنزعة الانتقامية"، والمنشورة في 13 أيلول 2024، خلصت إلى أنّ إسرائيل شرعت في الحرب على قطاع غزة وهي تضع في مقدّمة أولوياتها استعادة مكانتها الإقليمية وتعزيز قوة ردعها. ويتجلى هذا التوجّه بوضوح في المقولة التي برزت في الخطاب الإسرائيلي: "إذا أرادت إسرائيل العيش في المنطقة، فعليها فعلياً إلقاء جثمان حركة حماس أمام الشرق الأوسط".[6]
وتشير الورقة إلى أنّ الدافع الانتقامي للاغتيالات الذي يحرّك صُنّاع القرار الإسرائيليين يهدف أيضاً إلى القضاء على الجيل الحالي من القيادات والكوادر العسكرية والسياسية في حركتَي حماس والجهاد الإسلامي داخل غزة، وإعادة تشكيل الهوية والبنية الفكرية لهذه الحركات على المدى البعيد. ويستدلّ على ذلك من خلال التصريحات الإسرائيلية المتواترة التي تؤكد ضرورة إحداث "تغيير أيديولوجي في أوساط السكان".
أما البعد الثاني لهذه السياسة فإنه يتمثل في السعي إلى تقويض التجربة العسكرية–الأمنية التي تبلورت في قطاع غزة، ومنع إعادة إنتاجها داخل القطاع أو خارجه. فيما يتمثل البُعد الثالث الذي تتطرق إليه الورقة، في أنّ اعتماد سياسة الإحباط الموضعي في هذه الحرب، باعتبارها نمطاً عاماً للسلوك وأداة إبادة تُمارس بصورة اعتيادية لا استثنائية، يستهدف أيضاً طمس السردية المتعلقة بأحداث 7 أكتوبر، بما يمنح إسرائيل القدرة على احتكار الحقيقة بشأن ما يجري من أحداث.
ويرى ستيفن م. فلاتو - رئيس المنظمة الصهيونية الدينية في أميركا - أن "عقيدة ميونيخ" ما تزال هي نفسها فاعلة في أعقاب هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023، وأن إسرائيل لن تعتمد على أحد في حماية نفسها. ويؤكد فلاتو كذلك أن هذه العقيدة ذات طابع ردعي، الغاية منها العدالة، وتذكير العالم بأن حياة اليهود ليست رخيصة، وأن كرامتهم غير قابلة للتفريط، وأن سيادتهم ليست شكلية.[7]
[1] نينا فوكس وإيتمار أيخنر، "رونين بار: لجنة تحقيق رسمية - وإلا فإننا نُقِرّ مسبقاً بحدوث 7/10 آخر"، يديعوت أحرونوت، 9 كانون الأول 2025. https://www.ynet.co.il/news/article/bk82eism11g
[2] رون بن يشاي، "حرب في أربع جبهات: هكذا تخطّط إيران لتحدّي منظومات الدفاع الإسرائيلية والأميركية"، يديعوت أحرونوت، 3 آب 2024. https://www.ynet.co.il/news/article/byfs00hjkc
[3] المصدر السابق.
[4] ليئور لوطان، "حرب على الإرهاب في سنوات ولاية غولدا مئير رئيسةً للحكومة"، معهد غولدا مائير، 2025، https://www.goldameir.org.il/index.php?dir=site&page=content&cs=5109&langpage=heb
[5] المصدر السابق.
[6] عبد القادر بدوي، " ظاهرة الاغتيالات الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر: بين ذريعة التدبير الوقائي والنزعة الانتقامية"، مركز مدار، 13 أيلول 2024. https://linksshortcut.com/PzIPd
[7] ستيفن م. فلاتو،"من ميونيخ إلى طهران إلى الدوحة: عقيدة إسرائيل غير المنقطعة في تحقيق العدالة"، JNS، 11 أيلول 2025. https://www.jns.org/from-munich-to-tehran-to-doha-israels-unbroken-doctrine-of-justice/
المصطلحات المستخدمة:
الموساد, الصهيونية, يديعوت أحرونوت, نيلي, عملية ميونيخ, بنيامين نتنياهو