على ما يبدو، هناك توتر سياسي– مائي جديد بين الأردن وإسرائيل بعد إبلاغ عمّان رسمياً بأن إسرائيل لن تلتزم بضخ الحصة السنوية المتفق عليها من المياه، والمقدّرة بنحو 50 مليون متر مكعب سنوياً، والمنصوص عليها في اتفاقية السلام وملحقات المياه منذ العام 1994. حسب صحيفة "معاريف"، وهي الوحيدة التي أوردت الخبر، تبرّر إسرائيل موقفها بعدم القدرة التقنية على تحلية المياه وضخّها بالكلفة المتفق عليها سابقاً، فيما يرفض الأردن هذا التفسير، ويُبدي استعداداً لإعادة التفاوض حول التسعير. بيد أن القضية ليست تفاوضية تقنية، وإنما تعبر على اختلال في موازين القوى بين البلدين، وتنطوي على هيمنة إسرائيلية شرق- أوسطية لا بد من توضيحها.
المياه في معاهدة السلام الأردنية- الإسرائيلية
تضمّ معاهدة السلام الأردنية– الإسرائيلية ملحقاً خاصاً بالمياه (الملحق الثاني) ينظّم تقاسم الموارد المائية وتشغيلها بين الطرفين، خاصة مياه نهر اليرموك ونهر الأردن والمياه الجوفية على الحدود بين الأردن وإسرائيل (بما في ذلك الضفة الغربية).
ينص الملحق على:
- إنشاء لجنة مياه مشتركة(Joint Water Committee) مكوّنة من ثلاثة أعضاء من كل طرف، تُعنى بإدارة الموارد المشتركة، وحل الخلافات الفنية، وتنسيق التشغيل اليومي للمشاريع المائية.
- تقاسم مياه نهر اليرموك: يميّز الملحق بين فترة الصيف (15 أيار – 15 تشرين الأول) وفترة الشتاء (16 تشرين الأول – 14 أيار) بسبب اختلاف كميات الجريان.في الصيف، "يحق" لإسرائيل ضخ نحو 12 مليون متر مكعب سنوياً من اليرموك، بينما يحصل الأردن على بقية التدفق في تلك الفترة، وهو الجزء الأكبر فعلياً. أما في الشتاء، فيقرّ الاتفاق بأولوية تخزين المياه للأردن في منشآته (خاصة قناة الملك عبد الله)، مع السماح لإسرائيل بالاستفادة من كميات محددة، وبإمكانها تخزين جزء من مخصصاتها في منشآت أردنية أو مشتركة وفق ترتيبات تقنية.
- تقاسم مياه نهر الأردن وبحيرة طبريا: يمنح الاتفاق الأردن ملكية نسبة كبيرة من مياه نهر اليرموك (تقارب 75%)، مع التزام إسرائيل بنقل كميات إضافية من مياه بحيرة طبريا للأردن لتعويض تنازلات موسمية.إسرائيل تحتفظ باستخداماتها القائمة لمياه نهر الأردن بين ملتقى اليرموك والنقطة قرب "وادي اليابس"، ويُعطى الأردن حصة سنوية مساوية لكمية استخدام إسرائيل في ذلك المقطع شريطة ألا يضر استخدام الأردن بالكمية أو النوعية التي تحتاجها إسرائيل.
- ينص الملحق على أن تنقل إسرائيل للأردن نحو 50 مليون متر مكعب سنوياً من مياه الشرب من بحيرة طبريا عبر أنظمة نقل قائمة أو جديدة، إضافةً إلى كميات صيفية محددة (20مليون متر مكعب تقريباً) يُحوِّلها الجانب الإسرائيلي للأردن مباشرة في مقابل "تنازلات" أردنية في الشتاء.
- المياه الجوفية في العربة: يعترف الملحق بوجود خزانات مائية جوفية مشتركة في العربة على جانبي الحدود، ويقرّ مبدأ "تقاسم المنفعة" بحيث لا يستنزف أحد الطرفين المخزون على حساب الآخر.ويتم تحديد مواقع الآبار، وكميات الضخ المسموحة، وسقف الاستغلال السنوي عبر ترتيبات فنية تعتمدها اللجنة المشتركة، مع التزام بعدم حفر آبار جديدة أو زيادة الضخ من دون موافقة اللجنة.
كيفية تشغيل الاتفاق بعد 1994 عملياً
بعد المعاهدة، أصبحت مياه نهر الأردن وبحيرة طبريا أحد أعمدة أمن المياه الأردني؛ إذ يحصل الأردن سنوياً على ما يقارب 50–75مليون متر مكعب من إسرائيل، بين نقل مباشر من طبريا وتخصيصات نهرية وجوفية، ما شكّل عنصر اعتماد بنيوي على الجانب الإسرائيلي في ملف المياه.
- تتولى لجنة المياه المشتركة اجتماعات دورية لتنسيق كميات الضخ في الصيف والشتاء، ومعالجة قضايا مثل الجفاف، الأعطال الفنية، أو التعديات غير المرخصة، وغالباً تُحسم الخلافات على المستوى الفني مع بقاء الملفات السياسية الكبرى خارج إطار اللجنة.
- في سنوات الجفاف أو الأزمات السياسية (مثل الانتفاضة الثانية أو الحروب على غزة)، استمر التعاون المائي إجمالاً مع تعديلات على التوقيت أو الكميات، لكنّه بقي ملفاً "حساساً" داخلياً في الأردن بسبب شعور عام بأن كميات المياه أقل من احتياجات البلاد وأن ميزان القوة يميل إلى مصلحة إسرائيل.
- بالنسبة للأردن، شكّل الملحق المائي ضمانة قانونية للحصول على كميات ثابتة من المياه السطحية والجوفية، ما خفّف من حدّة العجز المائي لكنه عمّق في الوقت نفسه التبعية البنيوية لمصدر خارجي (إسرائيل) في قطاع حيوي، مع ما يترتب على ذلك من مخاطر سياسية وأمنية.بالنسبة لإسرائيل، وفّر الاتفاق اعترافاً أردنياً بحصتها في نهر الأردن– اليرموك، ومنح إسرائيل أداة تحكم طويلة الأمد في البنية التحتية المائية مع توظيف تفوقها التقني (التحلية، إعادة الاستخدام) لعرض "مياه إضافية" على الأردن في مقابل ترتيبات سياسية أو اقتصادية.
"جيران": شح المياه في الأردن في مقابل التكنولوجيا والعلوم الإسرائيلية المتقدمة في إدارة وتحلية المياه
- نحو 75% من مساحة الأردن تقع ضمن نطاق صحراوي أو شبه صحراوي، فيما تشير التقديرات الجيولوجية إلى أن موارده المائية الطبيعية لا تكفي سوى لحوالي ثلاثة ملايين نسمة، وهو تقريباً حجم السكان في ثمانينيات القرن الماضي. في المقابل، ارتفع عدد السكان اليوم إلى أكثر من 11 مليون نسمة، نتيجة نمو ديمغرافي متسارع تغذّيه موجات لجوء متتالية، كان آخرها استقبال أكثر من مليون لاجئ سوري، ما فاقم الفجوة البنيوية بين الموارد المائية المتاحة والطلب المتزايد عليها.
- تكشف أنماط الاستهلاك عن اختلال بنيوي في توزيع الموارد المائية، إذ لا تسهم الزراعة بأكثر من نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي، لكنها تستهلك في المقابل قرابة 50% من إجمالي الموارد المائية في البلاد. ويتفاقم هذا الخلل مع تأثيرات التغير المناخي وتراجع معدلات هطول الأمطار، ما يزيد الضغط في آن واحد على جانبي العرض والطلب المائي، ويعمّق هشاشة التوازن المائي الوطني.
- يبلغ نصيب الفرد من المياه العذبة المتجددة في الأردن حالياً نحو 61 متراً مكعباً سنوياً، وهو رقم بعيد جداً عن الحد الأدنى المتعارف عليه دولياً والبالغ 500 متر مكعب للفرد في السنة، ما يضع الأردن في خانة «الندرة المائية القصوى». ويحذّر التقرير من أنّ استمرار الاتجاهات الراهنة قد يقود إلى نقص مائي حاد لدى شرائح واسعة من الأسر منخفضة الدخل بحلول نهاية القرن، مع تداعيات تتجاوز البعد المعيشي لتشمل تهديد الاستقرار الاجتماعي، وظهور آثار مبكرة على قطاعات حساسة مثل السياحة.
- يبلغ إجمالي الاستهلاك السنوي للمياه في الأردن قرابة مليار متر مكعب، يُخصَّص نحو نصفه لتلبية احتياجات المياه العذبة. ويعتمد النظام المائي أساساً على المياه الجوفية، التي تتعرض إلى معدلات استنزاف وضخ مفرط تفوق بكثير معدلات تجددها الطبيعي. ويسهم حصاد مياه الأمطار عبر 13 سداً بنحو ربع الإمدادات المائية، فيما لا تتجاوز مساهمة مياه الصرف الصحي المعالجة والمستخدمة في الري نسبة 16%. أمّا الفجوة المتبقية في المياه العذبة، فتُسدّ جزئياً من خلال استيراد المياه من إسرائيل وفق الترتيبات المنصوص عليها في معاهدة السلام.
في مقابل الإردن، فإن مسألة المياه بالنسبة لإسرائيل يمكن تلخيصها على النحو التالي:
- طوّرت إسرائيل نموذجاً مائياً متقدّماً يقوم على المعرفة والتكنولوجيا لا على وفرة الموارد الطبيعية، في بيئة جافة أشد قسوة من الأردن. منذ الخمسينيات، استثمرت إسرائيل في التخطيط المركزي، والبنية التحتية، والبحث العلمي، فحوّلت شحّ المياه إلى محرّك ابتكار. اليوم تعتمد إسرائيل على شبكة وطنية ذكية تنقل المياه من مصادر متعددة، وتُدار رقمياً، وتسمح بالتحكم الدقيق في العرض والطلب. في المقابل، لا يزال النظام المائي الأردني أكثر اعتماداً على مصادر طبيعية محدودة، واتفاقيات خارجية، وبنية تحتية مثقلة بالعجز المالي والتقني، ما يجعله هشاً أمام الجفاف والتغير المناخي.
- التحلية تمثّل الفارق الأوضح بين الحالتين. فإسرائيل تنتج ما يفوق 70–80% من مياه الشرب عبر خمس محطات تحلية كبرى على المتوسط، باستخدام تكنولوجيا التناضح العكسي منخفضة الكلفة والطاقة، ما منحها فائضاً مائياً استراتيجياً. الأردن، رغم حاجته الماسّة، لا يزال في مرحلة المشاريع المؤجّلة أو المحدودة (العقبة، ناقل البحرين)، بسبب الكلفة، والتمويل، والتعقيد السياسي. التحلية في إسرائيل ليست مشروعاً طارئاً بل عموداً فقرياً للسيادة المائية، بينما في الأردن تبقى حلاً مستقبلياً غير مكتمل، مرتبطاً بالمانحين وانعدام التخطيط المركزي والعلم.
- في مجال إعادة استخدام المياه، تتفوّق إسرائيل عالمياً بإعادة تدوير نحو 85–90% من مياه الصرف الصحي، تُستخدم أساساً في الزراعة، ما خفّض الضغط على المياه العذبة ورفع الإنتاجية. هذا الإنجاز هو نتاج منظومة قانونية صارمة، ومعايير صحية دقيقة، واستثمارات طويلة الأمد. الأردن، بالمقابل، يحقق نسب إعادة استخدام أقل بكثير، ويواجه تحديات تقنية ومؤسسية في المعالجة والنقل، إضافة إلى حساسية اجتماعية تجاه استخدام المياه المعالجة. الفارق هنا ليس تقنياً فقط، بل هو معرفي ومؤسسي، يعكس اختلافاً في القدرة على تحويل الأزمة إلى نظام مستدام.
على الرغم من الهيمنة الإسرائيلية المائية، الأردن يشارك إسرائيل في مشاريع لم تنفذ بعد
- من أبرز المشاريع الكبرى التي طُرحت ولم تكتمل مشروع قناة البحر الأحمر–البحر الميت (RSDSC)، الذي جرى الاتفاق عليه العام 2015 بوساطة أميركية والبنك الدولي، بوصفه حلاً إقليمياً لأزمة البحر الميت الذي يتراجع منسوبه بنحو متر واحد سنوياً. الفكرة قامت على نقل مياه من خليج العقبة إلى البحر الميت لإبطاء الانخفاض الحاد، مع بعدٍ سياسي تمثّل في إشراك السلطة الفلسطينية. غير أنّ المشروع تعثّر بفعل مخاوف بيئية تتعلق بخلط المياه، وتعقيدات بيروقراطية وتمويلية، إضافة إلى غياب التزام فعلي من الجانب الإسرائيلي. وفي العام 2021 أعلن الأردن انسحابه رسمياً، مبرراً ذلك بـ "ضعف الاهتمام الإسرائيلي"، لتنتهي المبادرة من دون تنفيذ.
- المشروع الثاني يأتي كجزء من الاتفاقيات الإبراهيمية، ويطلق عليه اسم "الماء في مقابل الطاقة". يربط هذا المشروع الأمن المائي الأردني بالأمن الطاقي الإسرائيلي في إطار إقليمي جديد بعد اتفاقيات أبراهام 2020، وبدعم أميركي–إماراتي. التصميم اعتمد على بناء محطة طاقة شمسية في الأردن بقدرة 600 ميغاواط تموّلها شركة إماراتية لتزويد إسرائيل بالكهرباء، في مقابل حصول الأردن على 200 مليون متر مكعب سنوياً من المياه المحلّاة من إسرائيل. وُقّعت مذكرات تفاهم في مؤتمري المناخ في دبي 2021 والقاهرة 2022، لكن حرب غزة أدت إلى تجميد الصفقة في تشرين الثاني 2023، كمؤشر على تبريد العلاقات.
الخاتمة
تشكّل مرحلة ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 نقطة انعطاف حادّة في فهم العلاقة بين السياسة والماء في السياق الأردني– الإسرائيلي. فمع انتهاء العمل باتفاق تزويد الأردن بـ50 مليون متر مكعب إضافية مطلع 2024، امتنعت إسرائيل عن التمديد الفوري، في مناخ سياسي إسرائيلي متوتر وغاضب من الموقف الأردني منذ اندلاع حرب غزة. في المقابل، صعّد الأردن انتقاداته العلنية لإسرائيل، وهو ما فُسِّر داخل إسرائيل كخطاب "متجاوز للسقف المسموح"، الأمر الذي ألقى بظلاله مباشرة على ملف المياه. لاحقاً، وافقت حكومة بنيامين نتنياهو على تمديد الإمدادات لستة أشهر فقط، لا كقرار تقني بل نتيجة ضغط أميركي وغربي، وفي سياق أمني خاص تمثّل في الدور الأردني في اعتراض الهجوم الإيراني بالمسيّرات والصواريخ على إسرائيل، كما يشير تقرير Konrad-Adenauer-Stiftung.
هذا المسار عزّز، من وجهة نظر أردنية، استنتاجاً بالغ الخطورة: المياه، بوصفها مورداً وجودياً، باتت تبدو مرهونة بتقلبات السياسة الداخلية في إسرائيل وبمسار الصراع الإسرائيلي– الفلسطيني، ما يفتح الباب أمام استخدامها كأداة ضغط غير معلنة. ومع ذلك، لم ينهَر التعاون بالكامل، إذ ما يزال هناك اعتماد متبادل بنيوي: الأردن يحتاج إلى المياه الإسرائيلية لتأمين الاستهلاك السكاني والزراعي، بينما تستفيد إسرائيل بدورها من ترتيبات السحب والإمداد المرتبطة بحوض اليرموك، فضلاً عن بيع المياه إلى الأردن بأسعار تفضيلية أدنى بكثير من السوق المحلية. ويعزّز هذا التداخل اكتمال خط أنابيب جديد العام 2024، بدعم أميركي، لنقل كميات كبيرة من المياه العذبة من بحيرة طبريا إلى الحدود الأردنية.
غير أن هذه الأزمة لا يمكن فصلها عن سياق أوسع من تآكل الثقة بين الطرفين، ظهر سابقاً في تأخير تسليم نصف كميات الغاز المتفق عليها العام 2024، وفي اتهامات أردنية بعدم الالتزام الكامل ببروتوكولات السلام. ويتفاقم المشهد مع أزمة مائية شمالية موازية ناجمة عن التراجع الحاد في تدفقات اليرموك من سورية بسبب الجفاف والضخ المفرط وتدهور البنية المائية السورية، ما عطّل فعلياً اتفاق 1988. ومع انخفاض مخزون السدود الأردنية إلى نحو 16% وضعف مواسم الأمطار، يواجه الأردن أزمة مائية مركّبة، سياسية وإقليمية ومناخية، تختبر أمنه المائي على المدى القريب.