يظهر تقرير صادر عن قسم الممتلكات والشركات في وزارة البناء والإسكان الإسرائيلية، حول وضع الإسكان الشعبي للعام 2024، استنتاجات قاتمة، إذ أن مخزون الشقق في هذا الإطار آخذ بالتقلص أكثر فاكثر.
هذا التقرير، الذي يغطي بيانات حتى 31 كانون الأول 2024، يقدم صورة يصفها بالمقلقة عن تراجع مخزون المساكن الشعبية وتزايد الضغوط المالية والاجتماعية على المستحقين. والأبرز أنّ هذه الأزمة لم تعد مسألة إدارية أو تقنية فحسب، بل أصبحت مرتبطة مباشرة بقرارات الحكومة وسياساتها الاقتصادية، وبالذات بتحويل الموارد إلى الجبهة العسكرية خلال الحرب المتواصلة وتغطية تكاليفها.
أحد أبرز أسباب التراجع هو استمرار سياسة الخصخصة التي تتبناها الحكومات المتعاقبة منذ التسعينيات، والتي تسمح ببيع الشقق للمستأجرين بأسعار مدعومة. بحسب التقرير، تقلّص عدد وحدات الإسكان الشعبي التي تديرها شركة "عميدار" – الشركة الأكبر في هذا المجال – في العام 2024 إلى 34,968 شقة، بعد أن كان في 2023 نحو 35,181 شقة. في المقابل، سُجلت زيادة طفيفة في عدد وحدات السكن في بيوت المسنين التابعة للوزارة: 13,425 وحدة في 2024 مقارنة بـ13,335 في 2023.
كما يعرض التقرير عدد الشقق التي بيعت للمستأجرين بموجب قانون الإسكان الشعبي الذي دخل حيّز التنفيذ العام 1998. حتى الآن، بيع ما مجموعه 15,582 شقة، أي بمعدل نحو 1,418 شقة سنوياً. في المقابل، تكشف معطيات شراء الشقق الجديدة عن وتيرة غير ثابتة، وبأعداد لا توازي تلك التي تباع: ففي 2022 اشترت الوزارة 236 شقة، وفي 2023 نحو 559 شقة، وفي 2024 فقط 257 شقة. بينما في هذه السنوات بيعت للمستحقين 4,280 شقة.
بلغ متوسط ثمن الشقة خلال أعوام حملة الشراء (2022–2024) حوالي 1.94 مليون شيكل، وكان متوسط عمر هذه الشقق 24 عاماً، فيما احتوت 69% منها على غرف محصنة.
ويشير التقرير إلى وجود "فجوة بنيوية" تصعّب على الدولة توفير رأس مال كافٍ لشراء شقق جديدة: فالشقق تُباع للمستحقين بخصومات كبيرة، بينما تتم عمليات الشراء الجديدة في مناطق طلب مرتفع وبأسعار مرتفعة، ما يعني أن عائد بيع شقة واحدة لا يكفي لشراء شقة بديلة جديدة.
خلفية حول "قانون الإسكان الشعبي"
وفقاً للتقرير، في العقود الأولى لدولة إسرائيل، أدّى الإسكان الشعبي دوراً حيوياً في توفير مأوى لموجات الهجرة الجماعية التي وصلت إلى الدولة. ففي العام 1970، كان نحو 23% من مجمل الإسكان في إسرائيل ملكاً عاماً. على مرّ السنين، تطورت سياسة تشجع بيع شقق الإسكان الشعبي للمستأجرين الذين يقيمون فيها، وذلك انطلاقاً من التصور القائل إن تملّك الشقة يمكّن العائلة من تجميع ثروة مع تعاقب الأجيال ويوفر لها "مرونة جغرافية واجتماعية".
وبموجب هذا التوجه، سُنّ في العام 1998 قانون الإسكان الشعبي (حقوق الشراء) والذي أتاح بيع شقق الإسكان الشعبي للمستأجرين الذين أقاموا في شقتهم أكثر من خمس سنوات، وبخصم كبير. كان من المفترض أن يبدأ سريان القانون العام 2001، لكن دخوله حيّز التنفيذ أُجّل عدة مرات في إطار قوانين التسويات المتعلقة بإقرار ميزانية الدولة العامة. في النهاية، دخل القانون حيّز التنفيذ العام 2013، وبدأ بيع الشقق فعلياً في العام 2014. وفي العام 2017، تم تمديد مفعول القانون خمس سنوات إضافية، وانتهى سريانه في شباط 2023.
تتكوّن عملية بيع شقة لمستأجر مؤهَّل من ثلاث مراحل رئيسية: فتح ملف بيع، يتضمن تقدير قيمة العقار وتحديد مبلغ المنحة المشروطة (أي "الخصم") الذي يستحقه المستأجر؛ تسوية الديون المسجلة على اسم المستأجر؛ ودفع ثمن التقدير بعد خصم المنحة التي تمنحها له وزارة البناء والإسكان.
يمكّن القانون المواطن من تقسيط الدفع على فترة زمنية محددة. يُسجَّل البيع رسمياً فقط بعد إتمام كامل المبلغ، لكن المستأجر يستمر في دفع إيجار رمزي ويحصل في الوقت نفسه على الملكية القانونية للشقة. لهذا السبب، تستمر عمليات البيع في التسجيل حتى بعد انتهاء سريان القانون.
تقلّص متواصل في مخزون شقق الإسكان الشعبي
بلغ مخزون الإسكان الشعبي في الفترة التي يتطرق إليها التقرير، 47,143 وحدة سكنية فقط، مقارنةً بأكثر من 51,000 وحدة قبل خمس سنوات. يعيش في هذه الشقق 108,025 نسمة، أي أقل بـ6.3% عن العام 2023، ما يعكس تقلص التغطية الاجتماعية. الغالبية الساحقة من الشقق (92%) هي في بنايات جماعية، فيما لا تتجاوز نسبة البيوت الأرضية 8%. كما أن 80% من هذه الوحدات لا تتعدى غرفتين أو ثلاث غرف، ما يعكس حجم الاكتظاظ.
مع استمرار سياسة الخصخصة التي تتبناها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ التسعينيات، وبين الأعوام 2014 و2024 بيعت 15,582 شقة للمستأجرين بموجب "قانون الإسكان الشعبي"، مع خصومات وصلت حتى 90% في "المناطق ذات الأولوية". في المقابل، اشترت الدولة في حملة 2021–2024 فقط 1,043 شقة جديدة، بكلفة 2 مليار شيكل، وهو رقم لا يعوض النقص. وكانت النتيجة: تراجع مستمر في المخزون، حيث يُباع أكثر مما يُشترى.
بلغ متوسط فترة الانتظار للحصول على شقة 39 شهراً (أكثر من ثلاث سنوات). خلال فترة الانتظار، يحصل المستحق على دعم إيجار شهري بمتوسط 2,916 شيكل، وهو ما ترى فيه الحكومات بمثابة "عبء متزايد على ميزانية الدولة"، بنهجها اليميني الذي يسعى لرفع اليد عن حقوق اجتماعية أساسية، ومنها الحق في السكن.
تم في آب 2021 التوصل إلى اتفاق ميزانية بين وزارة البناء والإسكان ووزارة المالية يقضي بتخصيص ميزانية لشراء 1,700 شقة. لكن بين 2022 و2024، حوّلت المالية إلى صندوق الإسكان الشعبي ميزانية إضافية قدرها 100 مليون شيكل فقط، وهو ما مكّن من شراء 1,052 شقة فقط في تلك الفترة.
ويقرّ معدّو التقرير بأن الميزانية المخصّصة لشراء الشقق قد تقلّصت أكثر في السنة الأخيرة: ففي 2023 أُدخل تعديل على الاتفاقية يقضي بأن وزارة المالية لن توفر ميزانيات إضافية إلا بعد استنفاد كامل الموارد المتاحة في صندوق الإسكان. ونتيجة لذلك، فإن التراجع الكبير في عمليات شراء الشقق العام 2024 مقارنة بـ2023 يعكس استنفاد تلك الموارد.
ميزانية صيانة الإسكان الشعبي شهدت تقلصاً حاداً
يظهر التقرير أن ميزانية صيانة الإسكان الشعبي شهدت تقلصاً حاداً، فالدولة يجب أن تمنح مستأجري الإسكان الشعبي فوائد مالية كبيرة طوال فترة أهليتهم للسكن، وتُقدَّم هذه الفوائد بأشكال متنوعة: تحويلات مالية مباشرة، خصومات، وخدمات مختلفة.
بالمعدل، تحصل أسرة تسكن في شقة إسكان شعبي على فوائد تعادل قيمتها 893,161 شيكل طوال فترة أهليتها (أي نحو 75% من قيمة الشقة نفسها، بحسب متوسط السعر). المكوّن الأكبر من هذه الفوائد هو الإعفاء من شراء الشقة: إذ يبلغ متوسط قيمة هذه الفائدة على مدى سنوات الأهلية حوالي 763,326 شيكل، وذلك وفق آلية بيع الشقق بموجب قانون الإسكان الشعبي (حقوق الشراء).
أما إذا تم احتساب القيمة الإجمالية الكاملة بما يشمل حق الشراء، فإن متوسط قيمة الفائدة يصل إلى 1,285,674 شيكل. لكن هذا الرقم لا يتضمن سوى الفوائد المباشرة التي يحصل عليها المستأجرون، ولا يشمل المبالغ الإضافية التي تدفعها الدولة لتشغيل منظومة الإسكان الشعبي – مثل التكاليف الإدارية لشركات الإدارة وغيرها.
في 2023–2024 خُصص 180 مليون شيكل للصيانة، لكن لم يُنفذ سوى 143 مليون، أي انخفاض بنسبة 20%. هذا التقليص انعكس مباشرة على جودة الشقق: انخفاض في معدل التجديدات قبل إعادة الإسكان، وتراكم طلبات الصيانة غير المعالجة. وبالرغم من أن الأعوام 2020–2022 شهدت زيادة بنسبة 61% في ميزانيات الصيانة، فإن الحرب قلبت المعادلة، حيث تم تحويل الموارد الطارئة نحو الجبهة العسكرية وتمويل الحرب وإعادة إسكان المهجرين.
الحرب المتواصلة وجبهاتها الإضافية ضاعفت الأزمة
يؤكد تقرير وزارة البناء والإسكان أن الحرب التي اندلعت في تشرين الأول 2023 أثرت على كل جوانب ملف الإسكان الشعبي:
إيواء المهجرين: آلاف العائلات من سديروت، عسقلان، كريات شمونة وشلومي تم إسكانها مؤقتاً في شقق شعبية أو في حلول بديلة.
إعفاءات من الإيجار: عشرات آلاف الأسر أُعفيت من دفع إيجار الشقق بسبب الإخلاء القسري.
ترميمات طارئة: خصصت الموارد لإصلاح الشقق المتضررة من القصف في الجنوب والشمال.
الملاجئ: جرى ترميم مئات الملاجئ العامة والخاصة، ما استنزف ميزانيات كان يفترض أن تذهب للصيانة الدورية.
الوزارة نفسها أقرت في التقرير أن الحرب فرضت ما سمّته "التزامات وطنية طارئة" جعلت الاستثمار طويل الأمد في الإسكان الشعبي يتراجع خطوة أخرى إلى الوراء.
أمام الأعباء الاقتصادية للحرب واجهت الحكومة معضلة، وفقاً للتقرير: من جهة، الحاجة لتخصيص مليارات الشواكل لتمويل العمليات العسكرية، تعويض الجنود وعائلات الضحايا، ودعم الاقتصاد الحربي. ومن جهة أخرى، محدودية الموارد المخصصة لشراء أو صيانة الشقق العامة. وتظهر البيانات أن تكلفة الحرب فرضت إعادة ترتيب الأولويات: تم تأجيل مشاريع شراء شقق جديدة وتعليق خطط توسيع المخزون، في مقابل تمويل نفقات طارئة للإخلاء والترميم.
وهكذا، فإن التقرير الرسمي يعرض بالأرقام ما يحذر منه خبراء الإسكان منذ سنوات: الإسكان الشعبي في إسرائيل يتآكل. سياسات الخصخصة، ضعف الاستثمارات الحكومية، وتكاليف الحرب العسكرية، كلها تضافرت لتوليد أزمة خانقة. اليوم، المستحقون لا يواجهون فقط اكتظاظاً وتراجعاً في مستوى الصيانة، بل يواجهون أيضاً انتظاراً قد يمتد لسنوات طويلة في ظل سوق عقارات متفجر الأسعار.
"منتدى الإسكان الشعبي": التقرير دليل على فشل السياسة
لم يمر التقرير من دون ردود. عدة جمعيات ومنظمات اجتماعية عقّبت بحدة، وتساءلت عما إذا كانت الحكومة القادمة قادرة على قلب المعادلة ووضع الإسكان الشعبي بين أولوياتها، أم أن الحرب ستبقى الذريعة لتهميش الملف، تاركة عشرات آلاف الأسر في مواجهة مصير مجهول.
ورأى "منتدى الإسكان الشعبي" أن "التقرير الذي تنشره وزارة البناء والإسكان هو الدليل الأوضح على فشل وتقصير سياسة الإسكان الشعبي. في إسرائيل هناك فقط نحو 47 ألف شقة، بينما حدّدت لجنة مكافحة الفقر أن الخط الأحمر الأدنى يجب أن يكون 110 آلاف شقة. بالمقارنة الدولية، حصة الإسكان الشعبي في إسرائيل تقل عن 2% من مجمل المخزون السكني، بينما في أوروبا يبلغ المعدل نحو 12%. في دولة طبيعية، كان على وزارة البناء والإسكان أن تعلن خطة وطنية لإنعاش الإسكان الشعبي وبناء عشرات آلاف الشقق. كانت هناك خطة من هذا النوع – 'العيش بكرامة' – التي كان يفترض أن تنتج 7,500 شقة سنوياً، لكنها أُلغيت بعد مغادرة يوآف غالانت الوزارة. وضع الشقق في الميدان سيء للغاية – لم تُجرَ أعمال ترميم منذ سنوات. الصورة الكبرى هي تصفية ممنهجة للإسكان الشعبي، وإلحاق أذى بالغ بالمحرومين من السكن".
أما المحامية والباحثة في "برنامج كرسوغر" بجامعة تل أبيب شارون كرني كوهين فقد قالت لصحيفة "كلكاليست" الاقتصادية: "إن بيع الشقق للمستحقين يسمح ببناء رأس مال عائلي وتحسين الأمن السكني، لكن يجب أن يترافق مع الحفاظ على المخزون وزيادته بما يتلاءم مع النمو الديموغرافي. بناء شقق على أراضي الدولة يمكن أن يكون فرصة جيدة كما جرى في الماضي. يجب تغيير التصور الذي يرى في الإسكان الشعبي مجرد قضية عقارية، بينما في الحقيقة المسكن ليس سلعة عقارية فحسب، بل هو استجابة لحاجة إنسانية أساسية. التخطيط أداة مركزية لتلبية هذه الحاجة، ولذا يجب الربط بين الاثنين. كذلك، في مشاريع تطوير الإسكان في البلدات العربية، يجب إدراج الإسكان الشعبي، وهو ما لا يحصل اليوم إطلاقاً".