المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بقلم: د. شلومو سبيرسكي*

الخلفية

الجهاز التربوي في إسرائيل بحاجة إلى تغيير دراماتيكي. فأقلية قليلة فقط من الطلاب، الذين يقصدون أبواب الروضات الإلزامية، يُكمّلون الطريق كلها حتى إمتحانات "البجروت" (التوجيهي)، ومن بعدها إلى الدراسات الأكاديمية والحصول على لقب جامعي.

ويتواجد مسار تدريسي نموذجي يُمكّن من قطع هذا الشوط بأكمله، عند أقلية سكانية محدودة فقط من مجمل البلدات والأحياء في إسرائيل. ويتلقى الكثير من الطلاب تعليمهم في مسارات منفصلة عن ذلك المسار النموذجي: في مدارس عربية منفصلة، في مدارس "حريدية" منفصلة، في مسارات مهنية منفصلة، وأيضًا، في مدارس "عادية" ظاهريًا، ولكنها لا تشبه بأي وجهٍ من الشبه تلك المدارس النموذجية، وذلك نتيجة لفوارق موازناتية وفوارق أخرى.

وعوضًا عن ذلك، فإنّ الجهاز التربوي لم ينجز حتى اليوم برنامجًا دراسيًا ومناهج إجتماعية تمنح الطلاب جميعهم مكانة ومعاملة متساويتين؛ كما أن الجهاز التربوي مشبع بالتفضيلات القومية والطبقية والثقافية، تعمل على تكريس أنماط اللامساواة القائمة، بدلا من الاسهام في تغييرها.

في العقدين الأخيريْن تعمقّت اللامساواة أكثر وأكثر، في أعقاب تغلغل الرساميل الخاصة إلى الجهاز التربوي الرسمي (الحكومي)، التي تُعين الأهالي المقتدرين على خلق مسارات دراسية لأبنائهم وبناتهم تتفوق على المسارات المتبعة في البنية الجماهيرية.

منذ سنوات طويلة لم تحرك الحكومات الاسرائيلية ساكنًا لتغيير الوضع. وقد أنجِز الاصلاح الجدير الأخير قبل 36 سنة، في فترة ولاية وزير التربية، زلمان أران.

ومؤخرًا، تبثّ الحكومة من خلال قراراتها المتعاقبة بلاغًا مؤداه إهمال التربية. فمنذ العام 1996، وخصوصًا في السنوات الثلاث الأخيرة، تقوم الحكومة بتقليصات في ميزانيات وزارة التربية ومجلس التعليم العالي. بينما يبرز تفضيل ميزانيات الأمن وتمويل المستوطنات والتسهيلات الضرائبية للعُشر الفوقي، على ميزانية التربية والتعليم.

لجنة دوفرات

لم تُقم لجنة دوفرات في أعقاب نقاش حكومي منظم، تقرر فيه وضع التربية في رأس سلم الأولويات. كما أنّ إقامة اللجنة لم تُرافق بإلتزام حكومي بالاستثمار الجارف لغرض تغيير التربية في إسرائيل جذريًا.

فما أدى إلى إقامة لجنة دوفرات هو الحرج والعار اللذيْن نجما مؤخرًا، ومرة تلو الأخرى، من التحصيلات المنخفضة للطلاب الاسرائيليين في إمتحانات تحصيل دولية. إلا أنّ هذا الشعور بالعار والخجل لم يكن قويًا كفاية، كما يبدو، من أجل الدفع باتجاه خطوة تاريخية واسعة النطاق. وبدلاً من ذلك، عُيّنت لجنة دوفرات لغرض اقتراح إصلاح يكون ثمنه بخسًا.

الجهاز التربوي كتنظيم مُثمر

توصي لجنة دوفرات بتغييرات تنظيمية، بالأساس، كتلك التي يجريها أصحاب الرساميل في تنظيمات اشتروها للتو، بعد هبوط في قيمتها، وذلك بهدف دفع التنظيم نحو البدء بجني الأرباح، شريطة ألاّ يُطلب منهم إستثمار كبير.

وتوصي لجنة دوفرات بتوفيرات موازنية عن طريق إلغاء دوائر إدارية، منها المكاتب اللوائية التابعة لوزارة التربية، وعن طريق مزج وحدات أخرى، منها المدارس الاعدادية. كما توصي اللجنة أيضًا بنقل المسؤولية عن تشغيل المعلمين من وزارة التربية في القدس إلى مديريات تربية إقليمية وإلى المدارس. وفي العالم التجاري تُعدّ مثل هذه التوصية توصيةً معقولة وتستوي، مثلا، مع توجهات "مراكز الربح" المستقلة. ولكن في الواقع الاسرائيلي، ومع وجود فوارق إقتصادية- إجتماعية كبيرة بين السلطات المحلية في مناطق البلاد المختلفة، لا تزيد هذه التوصية عن كونها مدخلا لتكريس الفوارق.

نتاجات المعلمين

وعوضًا عن هذه التغييرات على المستوى التنظيمي للجهاز، توصي لجنة دوفرات بسلسلة خطوات أعدت "لزيادة النتاجات" في الجهاز التربوي.

فأولا، هناك الخطوات المُعدّة "لزيادة نتاجات" المعلمات والمعلمين: الخطوة الأولى تتمثل بتسيير نظام أجورات تفاضلية "بحسب النتاجات"، والخطوة الثانية تتمثل في توسيع اعتماد العقود الخاصة. وإلى هذين الخطوتين تُضاف إقامة جهاز تقييم (خاص، على ما يبدو)، هدفه تقييم "نتاجات" المعلم والمدرسة، على أساس امتحانات تحصيل دورية، وتقييم ذاتي ومراقبة مفاجئة على الحصص.

وتوصي اللجنة أيضًا بخطوات تهدف لخلق تنافس بين المدارس: التوصية الأساس في هذا المجال هي إستكمال الانتقال إلى مدارس ذات إدارة ذاتية.

وفي المجال التجاري يشكل التنافس المبدأ الأساس للمسلكيات والادارة، لأنّ إسم اللعبة في التجارة هو زيادة الأرباح (رجال الأعمال يحبون الادعاء بأنّ إسم اللعبة بالنسبة لهم هو تحسين جودة المنتوج؛ ولو كان الأمر كذلك، لكان هناك مبرر حقيقي بالفعل للاستماع إلى تحفظاتهم مما يحدث في المجال التربوي). وفي مجال التربية يشكل المبدأ المُوجّه منح خدمات تربوية جيدة لكل ولد وبنت، من دون علاقة بانتماءاتهم وبمستوى مداخيل أهاليهم أو أمكنة سكناهم. التربية هي خدمة ملكية (تقدمها الدولة)، وكونها كذلك فإنّها ملزمة بأن تكون شمولية ومتساوية.

وفي حالة تسيير تنافس كهذا حقًا، بين المعلمات وبين المدارس، فإننا سنحصل على جهاز تربوي دارويني، يبقى فيه الأقوياء ويُلقى بالضعفاء إلى الهامش. وهذا سيكون بمثابة إعلان من طرف واحد من جانب الدولة، بأنها تنقل مسؤوليتها تجاه مجمل الطلاب، إلى يديّ معلمة تعمل وفق عقد شخصي، أو إلى يديّ مدير مدرسة، أو سلطة تربوية محلية. وعندها ستتبدل مسؤولية الدولة عن جودة التربية (الممنوحة) لمجمل الطلاب بالتنافس، الذي يمكن أن يضمن نجاح قسم فقط، دون غيره، وفقًا لتعريف التنافس الجوهري.

نقابات المعلمين

يتمثل إسقاط آخر لهذه التوصيات المذكورة أعلاه بإضعاف دراماتيكي لنقابات المعلمين. وستؤدي الأجور التفاضلية والعقود الشخصية ونقل المسؤولية عن أجور المعلمين إلى السلطات المحلية والاستقلال الذاتي لكل مدرسة- سيؤدي كل ذلك إلى سحب البساط من تحت أقدام النقابات. ومن هذه الناحية تندمج توصيات لجنة دوفرات مع النهج الذي يميّز مؤخرًا سياسات الحكومات الاسرائيلية، والذي انعكس في لقاء صحفي أجري مع أوري يوغاف، الذي شغل منصب رئيس قسم الميزانيات في وزارة المالية، حتى فترة غير بعيدة: فقد تفاخر يوغاف بأنّ إنجازه الأكبر كان "كسر العمل المنظم في إسرائيل" ("هآرتس"، 5-5-2004).

وإذا كان هناك متسع لتوجيه اللوم نحو نقابات المعلمين، فإنّ هذا اللوم سينحصر في أنها لم تضع نصب أعينها رفع أجور المعلمات، الذي يشكل أكثر الأجور انخفاضًا في العالم الغربي، وحتى أنّ هذه النقابات لم تنجح في منع التآكل المستمر (لهذه الأجور). ولكن في حالة إضعاف النقابات القائمة أكثر، فإنّ مكانة المعلمات والمعلمين في إسرائيل ستستمر في التدهور، خاصةً على خلفية القيم الداروينية المنبثقة من توصيات لجنة دوفرات.

يوم دراسي طويل

من مجمل توصيات لجنة دوفرات، تُعد التوصية بتسيير يوم دراسي طويل (من خلال تقصير الأسبوع الدراسي إلى خمسة أيام) وبرفع أجور المعلمات والمعلمين بما يلائم ذلك، أهمّ توصية من التوصيات وأكثرها وعدًا. فالانتقال إلى يوم دراسي طويل هو جيد من عدة نواحٍ: إمكانية رفع أجور المعلمات، إمكانية عمل الوالدين سوية بوظيفة كاملة، إمكانية منح الطلاب خدمات مختلفة في داخل المدرسة، وغيرها.

وفي ضوء هذه الامكانيات الإيجابية، يبرز سؤال الميزانية، لأنّ اليوم الدراسي الطويل يكلف أموالا طائلة- لرفع أجور المعلمات والمعلمين ولملاءَمة مبنى المدرسة للاحتياجات الجديدة (غرف شخصية للمعلمات، زوايا عمل واستشارة وما شابه). وبحسب النشر في الإعلام، تأمل لجنة دوفرات بأن يكفي المال الذي سيُوفّر من التغييرات البنيوية ومن إلغاء الدراسة في أيام الجمعة ومن فصل آلاف المعلمين، لتمويل الانتقال إلى يوم دراسي طويل. ولكن من الجدير التشكيك في هذا. ويزداد هذا الشك أكثر وأكثر إذا ما أخذنا بالحسبان التنكر الذي أبدته الحكومات الاسرائيلية على مرّ السنوات، تجاه التزاماتها بتمويل قانون اليوم الدراسي الطويل من سنة 1990: فهذا القانون لم يُموّل بأكمله، والمالية اهتمت بتأجيل موعد تطبيقه، سنة بعد أخرى، عن طريق قانون التسويات.

بناءً على النشر في وسائل الإعلام فإنّ وزير المالية مستعد للنظر في تخصيص ملياري ش.ج. لتطبيق توصيات لجنة دوفرات. وهنا يُقال أولاً إنّ الحديث يدور عن مبلغ منخفض جدًا، وفي الواقع، أقل من المبلغ الذي قُلّص من ميزانية التربية في السنوات الثلاث الأخيرة. ثانيًا، وبناءً على النشر في الاعلام، فإنّ هذا المبلغ مخصص أساسًا لتمويل تقاعد آلاف المعلمين؛ بمعنى، ليست هناك أموال جدية لتمويل الاصلاح.

في السنوات الأخيرة دار في إسرائيل نقاش حول كِبَر ميزانية التربية: فكان من ادعى أنّ المصروفات القومية على التربية في إسرائيل أعلى من تلك التي في الدول الغربية؛ وفي الواقع، عندما نقوم بفحص المصروفات لكل طالب، يتضح أنّ مستوى المصروفات في إسرائيل هو معتدل جدًا. كما يتضح أنّ المصروفات الحكومية في إسرائيل منخفضة، نسبيًا، بينما المصروفات الخاصة (التي يدفعها الأهالي) مرتفعة، نسبيًا، كل ذلك على خلاف كثير من الدول الغربية- وهذا الأمر يزيد من عدم المساواة في التربية. وبكلمات أخرى، ميزانية التربية منخفضة جدًا. وهي بالتأكيد منخفضة لحدّ أنها لا تكفي لتطبيق الاصلاح الطموحي، المنوط بإطالة اليوم الدراسي وبرفع أجور المعلمين. وقد قامت لجنة دوفرات بالتعامل مع كل هذا كما يليق بمن يسيطر على تنظيم تجاري: التوفير عن طريق الفصل الجماعي. أي أنّ لجنة دوفرات تقترح إصلاحًا بسعر بخس، على حكومة لا تبدي إستعدادًا لتغيير سلم أولوياتها، على الرغم من العار والخجل الناتجيْن عن تحصيلات الطلاب في إسرائيل.

أضفْ إلى ذلك بشأن اليوم الدراسي الطويل: فالتوصية بتقصير الأسبوع الدراسي لخمسة أيام تلغي قسمًا كبيرًا من الأفضلية الكامنة في إمكانية أن يعمل الوالدان كليهما في وظيفة كاملة. من الجدير الاستمرار في التدريس أيام الجمعة حتى الظهيرة، ولو إلى حين انتقال كل المرافق الاقتصادية إلى أسبوع عمل من خمسة أيام.

نهايةً، لا يشكل اليوم الدراسي الطويل، على الرغم من كل إيجابياته، ردًا سحريًا على كل مشاكل الجهاز التربوي. ولا يحمل الانتقال إلى يوم دراسي طويل، بحد ذاته، بشرى مواجهة اللامساواة- في الأموال وفي القوى التدريسية وفي المناهج التعليمية- المتفشية بين المدارس في البلدات اليهودية وتلك في البلدات العربية، وبين المدارس في بلدات التطوير وبين تلك في البلدات الميسورة، وبين المسارات المهنية والمسارات النظرية.

هذا إذًا عقب أخيل في توصيات لجنة دوفرات: المشكلة الأساس في الجهاز التربوي الاسرائيلي هي مستوى عالٍ جدًا من اللامساواة، يؤدي إلى نشوء وضعية متناقضة: أقلية قليلة من المدارس التي يجني فيها الطلاب تحصيلات جيدة ويسير خريجوها في المسار النموذجي حتى نهايته؛ ومن جهة أخرى مدارس كثيرة جدًا تكون فيها احتمالات الطلاب (لجني تحصيلات جيدة) متدنية منذ لحظة انضمامهم للمدرسة. لا يمكن الجسر على عدم المساواة هذا عن طريق تغييرات تنظيمية كتلك المتبعة والسائدة في تنظيمات تجارية. لكي يتم ذلك هناك حاجة لـ : إلتزام حكومي جارف وبعيد المدى؛ إستثمار تفضيلي، بدرجات عالية، في المدارس الكائنة اليوم خارج المسار النموذجي؛ وقف التعاقدات الحكومية مع شبكات التربية التي تواصل منح تربية مهنية نمطية في الأحياء وبلدات التطوير؛ والأهم- تحمّل المسؤولية الكاملة من جانب الدولة عن الخدمات التربوية، بدلا من دفع هذه المسؤولية نحو كاهل أجسام غير قادرة وغير ملزمة بحملها: المعلم الفرد، المدرسة الفرد والسلطة المحلية الفرد.

* عالم إجتماع اسرائيلي، من مديري مركز "أدفا" المستقل لبحث المجتمع الاسرائيلي، ولدفع فكرة المساواة والعدل الاجتماعي. ترجمة:"مدار".

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات