المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تقرير: وديع عواودة

بعد انقراض أنواع من الطيور الجارحة كالباز والعقاب تتعرض النسور على وجه الخصوص في فلسطين التاريخية للمخاطر الشديدة بالانقراض جراء حضارة "الرجل الاسرائيلي الابيض"، منذ العام 1948 . وبعد ان كانت الآلاف من النسور تحلق بجناحي السكينة والنشوة في فضاء البلاد وتعشش في جبال الكرمل والجليل وصحراء النقب والخليل تكاد هذه الطيور الفريدة تتلاشى من الطبيعة في ظل انحسار أعدادها باستمرار وهي لا تربو اليوم على 60 زوجًا ونحو مئة الى مئة وخمسين من النسور الفرادى التي لم تتزاوج بعد.. ومن أجل المقارنة نشير الى انه في اسبانيا وحدها يعيش 10000 زوج من النسور حسب "جمعية حماية الطبيعة" الاسرائيلية ونستذكر ما رواه بهذا الشأن الرحالة والقس الانجليزي هنري بيكر ترسترم عقب زيارته لفلسطين في العامين 1863 و 1864 اذ روى انطباعاته الجميلة عن منطقة "وادي عامود" في الجليل لافتا الى مئات النسور التي عاشت في تلك المنطقة الصخرية العالية والمشرفة على جدول مياه في قاع الوادي يصب في بحيرة طبريا.

النسر الفلسطيني

يبلغ معدل وزن النسر في فلسطين 8 كيلوغرامات فيما يبلغ طوله 110 سم وطول جناحيه 290 سم تمكنه من السفر الى اماكن بعيدة بسرعة تصل احيانا الى 150 كيلومترًا في الساعة. في 15.03.95 رصدت اجهزة التعقب الاسرائيلية نسرا مدجنا (سمي "رجبة") وثبت عليه جهاز بث صغير كان يطير في صباح ذلك اليوم في منطقة شلال جملة في جنوب الجولان المحتل وعند الظهر رصد محلقا في سماء الجليل الغربي وبعد الظهر كان يتواجد في الجهة الشرقية من مطار دمشق الدولي واثناء الليل تبين انه عاد لعشه في منطقة جملة بعد ان قطع مسافة 280 كيلومترًا في يوم واحد. ولا يقتصر اجتياز النسور لحدود البلدان المتاخمة فقط انما يعبر الفضاء الجوي التابع لبضع دول ومن ثم يعود الى قواعده سالما، حيث رصدت جمعية حماية الطبيعة الاسرائيلية هذا العام نسرا خرج من جبال الكرمل في منطقة حيفا في جولة لبضعة ايام عاد على أثرها الى عشه بعد بلوغه الاراضي التركية عن طريق لبنان وسوريا.

كما افادت معطيات سلاح الجو الاسرائيلي ان طياريه رصدوا مرات عديدة نسورا تحلق على ارتفاع يفوق خمسة كيلومترات، وهذا ما تعجز عنه سائر الطيور سيما وان درجة الحرارة منخفضة جدا في مثل هذه الارتفاعات. وتؤكد معلومات جمعية حماية الطبيعة ان النسور قادرة على التحليق الى اكثر من ذلك، وتروي انه في 29.11.1973 اضطر طيار للهبوط بعد اصطدام طائرته بنسر في فضاء ساحل العاج بارتفاع ثمانية كيلومترات رغم ان درجة الحرارة في هذا الارتفاع بلغت 40 درجة تحت الصفر وهي تنخفض بدرجة اضافية في كل 150 مترا اضافيا الى الاعلى، وتساعد حويصلات خاصة للهواء النسر على الصمود في هذه الاجواء الشاهقة والتي تنحسر كميات الاوكسجين فيها الى حد لا يكفي الانسان.

مخلص للزوجة

ويؤكد العلماء ان ذكر النسر هو واحد من الطيور المخلصة لزوجاتها، اذ انه يلازم انثاه حتى الموت ويقومان بتعزيز الروابط بينهما من خلال التحليق المشترك جنبا الى جنب اضافة الى التزاوج مرات كثيرة جدا والتمشيط المتبادل لريشهما بواسطة منقاريهما والتناوب على احتضان البيض، اذ تضع انثى النسر بيضة واحدة في العام الواحد تزن 230 غرامًا تتناوب مع الزوج على الاعتناء بها طيلة 55 يوما يخرج بعدها فرخ النسر في شهري تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر من كل عام ويبلغ وزنه 8 كيلوغرامات بعد 100 يوم. وقد رصد الاخصائيون بعض حالات تعدد الزوجات في فلسطين والعالم ايضا والتي عششت فيها انثيان في عش واحد برفقة زوج واحد.

تعاون في الجو وحرب على الارض

تعيش النسور على تناول لحم الجيف فقط، ولذلك فهي تولد حليقة الرأس كي تتمكن من اقحام رؤوسها الى بواطن الجيفة دون ان تتلوث، اذ تنطلق في صباح كل يوم بعد ارتفاع درجة حرارة الهواء للتحليق بالفضاء بشكل جماعي بحيث تنتشر عشرات النسور من فوق مساحات واسعة وهي تحافظ على رابطة بصرية بين بعضها البعض ضمن تعاون فيما بينها بحثا عن جيفة على الارض. ويستطيع سرب من النسور خلال عملية البحث المشترك عن الطعام ان يغطي رقعة بمساحة 1500 كم مربع .

وفور تشخيصه الغذاء يخر النسر ارضا ومن خلفه سائر اعضاء السرب وهي عادة لا تخطىء في تحديد مكان الجيفة لان النسر يتمتع بنظر حاد يفوق قوة بصر الانسان بعشرة اضعاف. وفور الهبوط على الارض تخلي عملية التعاون في الجو مكانها للتنافس والتدافع الى حد الاقتتال بين النسور التي تبحث عن اسرع فرصة لاشباع جوعها فالنسر يحتاج الى كيلوغرام ونصف الكيلوغرام من اللحوم يوميا.

منظفات البيئة

نتيجة لاعتمادها على أكل الجيف فقط حظيت النسور بوظيفة "المسؤولة عن الصحة" في النظام البيئي، فهي تساعد على منع انتشار الامراض مثل داء الكلب وامراض معدية متنوعة تنجم عن قيام حيوانات بافتراس الجيف في الطبيعة.

تعددت الاسباب والانقراض واحد

في حديث ل "المشهد الاسرائيلي" أفاد محمود غزاوي، مدير القسم العربي في "جمعية حماية الطبيعة"، ان هناك خطرا داهما يهدد بانقراض النسور في فلسطين التاريخية من الخليل الى الجليل، وذلك نتيجة اسباب كثيرة كلها من صنع أيدي الانسان، وقد تفاقمت بشكل حاد مع بداية الغزو الصهيوني للبلاد منذ نهاية القرن التاسع عشر. ومن أهمها: زيادة استخدام الاسلحة النارية وبنادق الصيد، اعمال التطوير والبناء التي قلصت مساحة مناطق الغذاء للنسور وأدت إلى هدم اماكن اقامتها، تقلص اعداد المواشي والماعز وتضييق الخناق على فرع الرعاية العربية خاصة في النقب وبالتالي تناقص عدد الجيف ايضا. وشدد الغزاوي على الدور الحاسم لانتشار السموم والمبيدات التي نثرتها وزارة الزراعة الاسرائيلية لمكافحة الاوبئة والفئران وغيرها اضافة الى غزو المتنزهين للمناطق الجبلية حيث تعشش النسور وتحليق الطائرات الاسرائيلية على ارتفاعات منخفضة فوق هذه المناطق. كما نوه الغزاوي الى اثر شبكات الكهرباء التي تؤدي الى تكهرب النسور عندما تحط على الاسلاك الكهربائية.

وتعاني النسور في منطقة النقب وصحراء الخليل والجليل منذ بدء التسعينيات من خطر الانقراض وهي تكاد تقترب اليوم من تجاوز نقطة لا يمكن العودة منها مما يعني الانقراض التام. ففي صحراء النقب رصد في العام 1999 15 زوجا من النسور مقابل 25 زوجا تم رصدها في 1989 اما في النقب عمومًا فرصد في ذات الفترة 30 زوجا تفلصت الى 15 زوجا فقط. وفي منطقة الجليل رصد 15 زوجًا في نهاية التسعينيات مقابل 80 زوجا في نهاية الثمانينيات. ويوما عن يوم تقل اعداد هذه النسور وهي تنحصر في الاماكن البعيدة عن المراكز المأهولة بالسكان وعن ضجيج الحياة اليومية. ويبلغ مجمل النسور في شمال البلاد نحو 200 نسر و 100 نسر في جنوبها.

مشفى الطيور

ومما ينذر بالسوء إحجام ما تبقى من النسور عن بناء الاعشاش في وديان وجبال النقب والجليل والجولان السوري او تركها للبيض الذي تضعه. في منطقة شلال جملة على سبيل المثال، نجحت تسعة ازواج من النسور من بين 29 زوجا في مواصلة عملية التفقيس بينما تركت البقية البيضات، اي ان نسبة نجاح التكاثر لم تتجاوز 31 % مقابل 80% في فرنسا واسبانيا اليوم. وتبرز العوارض المقلقة لهذا التراجع، في شيخوخة النسور وغياب التوازن في توزيع الاجيال داخل عائلة النسور.

وفي محاولة لانقاذ عائلة النسور في البلاد اقيم مؤخرا في مدينة رمات غان الاسرائيلية مشفى للطيور الجارحة بادارة الدكتور يغئال هوروفيتس والذي يعنى بمعالجة الطيور الجريحة او المريضة التي تصله بواسطة سلطات حماية الطبيعة او الناس الاعتياديين الذين تتم محاولة توعيتهم بشكل دائم على ضرورة التعاون في حماية النسر من الانقراض علاوة على اعلانه طائرا محميا يخالف من يصطاده وتحظر تربيته في البيوت.

العودة الى حيفا

كانت سلسلة جبال الكرمل من أبرز مراكز النسور في فلسطين تاريخيا، كما تشهد شهادات مكتوبة خلفها المواطنون الالمان الذين استوطنوا حيفا في حي"خاخ" – حي الالمانية – في مطلع القرن العشرين الى ان تراجعت اعدادها هناك أسوة بسائر المناطق الى حد الانقراض اذ وضعت البيضة الاخيرة في العام 1952 للاسباب المذكورة. ومنذ العام 1989 ترعى "جمعية حماية الطبيعة" مشروعا لاعادة النسور في الكرمل من خلال مركز خاص لتربية الطيور الجارحة والنسور في اقفاص واعدادها جيدا قبل اطلاقها للطبيعة. وحتى الان تمت تربية 40 فرخا واطلقت جميعها للطبيعة، منها من بقي في المنطقة فيما انتقلت اخرى للعيش في النقب او الجولان السوري والجليل.

وفي عملية الحضانة الاصطناعية للفراخ يتم اجراء فحوصات الحوامض النووية للنسور للتعرف على القرابة البيولوجية بين سلالات مختلفة من النسور المحلية والاوروبية والافريقية. ومن اجل تنجيع عملية احياء عالم النسور في الكرمل يقوم الباحثون الاسرائيليون في المركز المذكور بتثبيت اجهزة بث صغيرة على ظهر النسر المدجن قبل اطلاق سراحه لتعقب خطواته ومدى تأقلمه واجراء الفحوصات الطبية عند الضرورة، كما انهم يشرفون على نشر الغذاء في الطبيعة. كذلك تهتم شركة الكهرباء القطرية بتغليف الاسلكة الكهربائية في المناطق المعنية بالمواد البلاستيكية كي تحول دون تكهرب النسور.

ويقترح بعض الاخصائيين على سلطات حماية الطبيعة ان يتم تزويد النسور في منطقة النقب، التي تعاني نقصا حادا بالغذاء، ب 30 عجلا بوزن 18 طنًا بعد ذبحها ووضعها في نقاط محاطة بالسياج كي تشكل غذاء لها وفي مأمن من الكلاب والذئاب والضباع وبنات آوى.

المصطلحات المستخدمة:

جمعية حماية الطبيعة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات