المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
صورة تعبيرية. (وكالات)
  • كلمة في البداية
  • 649
  • أنطـوان شلحـت

تزداد في الآونة الأخيرة المؤشرات التي تفيد بأن إسرائيل تعتبر من إحدى الدول الأكثر غلاء في العالم، ما يفاقم الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها الشرائح الفقيرة بالأساس. ولعل أخيرها هو مؤشر معهد "بانلز بوليتيكس" الذي نستعرضه في مكان آخر (راجع مقال هشام نفاع)، وقد بيّن، من ضمن أمور أخرى، أن غلاء المعيشة يشكّل أحد أبرز مصادر القلق لدى الإسرائيليين بل وحتى أكثر من مترتبات الصراع مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ 1967 وفي مقدمها ما يوصف بـ"عمليات الإرهاب"!

لعله من الطبيعي والحالة هذه أن يعلو صوت الاحتجاجات الاجتماعية في إسرائيل، وأن يكون هناك خطّ واحد يجمع بين النضالات المتعددة من أجل الحقوق الاجتماعية، مثلما تؤكد منظمات إسرائيلية عديدة، نظراً إلى أنه منذ نحو 4 عقود تُمارس في جميع مجالات الحياة سياسةٌ حكوميّةٌ تتمثّل في إجراء تقليصات في الميزانيّة، وفي خصخصة بعيدة المدى وبالغة التطرّف. وأفْضت هذه الخطوات إلى تراجُع الدولة تراجعاً حادّاً عن مسؤوليّتها في مجالات الإسكان والصحّة والتربية والتعليم والتشغيل والرفاه. وحُوّلت "المسؤوليّة" إلى القطاع الخاصّ من دون تقديم بدائل أو إمكانيّة حقيقيّة لمواطني إسرائيل من أجل مواجهة التآكل في حقوقهم الإنسانيّة. وكانت النتيجة تجفيف الخدمات الاجتماعيّة الذي تأدّى عنه سحق الحقوق الاجتماعيّة، وانتهاك المساواة، وإفشال الأهداف التي يتقاسمها الجميع.

ما ينبغي التذكير به هو ما سبق أن أورده "مركز أدفا" (معلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل) بالتزامن مع اندلاع ربما آخر حملة احتجاج اجتماعية إسرائيلية العام 2011، أنه من أجل تغيير واقع الحال الاجتماعية في إسرائيل لا بُدّ من تحدّي المفهوم الاجتماعي والاقتصادي المسيطر والمعمول به في الدولة منذ أن بدأ العمل بما أسمي "خُطة الطوارئ لموازنة الاقتصاد واستقراره" في العام 1985، والتي أصبحت تعرف منذ ذلك الوقت باسم "مذهب العام 1985". وقد عرض جوهر هذا المذهب آفي بِن بسات، المدير العام السابق لوزارة المالية الإسرائيلية، في الكتاب الذي أعدّه احتفاء بذكرى الخبير الاقتصادي ميخائيل برونو، الذي صاغ المضامين الأساسية لـ"خُطة الطوارئ لموازنة الاقتصاد واستقراره" العام 1985، ويتضمن ما يلي: 

(أ) تقليص دور الحكومة في عجلة الاقتصاد؛ 

(ب) جعل النموّ الهدف الرئيس للسياسة الاقتصادية؛ 

(ج) نقل المسؤولية عن النموّ من يدي الحكومة إلى القطاع التجاريّ الخاص. 

 كان الهدف من "خُطة الطوارئ لموازنة الاقتصاد واستقراره" هو وضع قاعدة لما اعتُبر في حينه الطريق المستقيم (الصحيح والسريع) نحو الازدهار الاقتصاديّ: استمتاع طبقة أصحاب رؤوس أموال بعيدة عن طاولة الحكومة باعتماد تجاريّ رخيص وكبير، يمكنها من منافسة السوق العالمية، بحيث تقوم - من خلال ذلك - بتطوير الاقتصاد الإسرائيليّ لتصل فيه إلى المستوى الاقتصاديّ في الدول الغربية. ووفقاً لـ"أدفا"، إذا كان المعمول به - حتى ذلك الوقت - سياسة تطوير اقتصادية واجتماعية تقودها الدولة، فإنه منذ ذلك الحين، باتت التقليعة أو السلوك المُتّبع هو تقليص دور الدولة، وتقليص ميزانيتها وتسليم زِمام الأمور إلى القطاع التجاريّ الخاصّ. وإذا كانت الدولة - حتى ذلك الوقت - مسيطرة على تيارات رأس المال، فمنذ ذلك الحين يسيطر عليها من يُدعَون بالـ"تايكونات" (الحيتان أصحاب رؤوس الأموال). وإذا كان التركيز - حتى ذلك الوقت- على التطوير الاجتماعيّ والتعليميّ والاقتصاديّ، فمنذ ذلك الحين ينصبّ التركيز على النموّ، وذلك كما هو معروف يُمكن تحقيقه، أيضاً، من خلال ضخّ موارد واعتمادات مالية إلى فرع أو اثنين، من قبيل فرع التكنولوجيا العالية (الـ"هاي- تك"). 

كما أشير في أدبيات "مركز أدفا" إلى أن النقاش الجماهيريّ حول طلبات حملة الاحتجاج الاجتماعيّة ركّز - أكثر من اللازم - على قضايا ضيّقة، ومنها: هل يُمكن "اختراق إطار الميزانية"؟ وإذا كان الجواب: نعم، فبكم؟ لكنّ المشاكل التي أدّت إلى الاحتجاج لا تتلخّص في إضافة ميزانية كهذه أو أخرى، بل تعكس المشاكل سياسة اقتصادية واجتماعية عُليا، دفعت إلى الأمام بقسم صغير من المجتمع الإسرائيليّ وأبقت الأغلبية من الخلف. وبُغية التعامل مع هكذا وضع، أكد المركز أن هناك حاجة إلى استراتيجية عُليا متعدّدة الأعوام تسعى للشمولية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية.

هنا تجدر الإشارة إلى أن حملة الاحتجاج الاجتماعية والمطلبية التي شهدتها إسرائيل في صيف 2011 شكّلت دافعاً قوياً لتأجيج جدل واسع بشأن تحسين الحالة المعيشية للطبقات الفقيرة وأيضاً الوسطى (بالأساس الوسطى)، عن طريق اعتماد عقد اجتماعي مغاير يتعلق بجوهر السياسة الاقتصادية- الاجتماعية للدولة التي تنتهجها الحكومة، وخصوصاً في ما يختص بتوزيع العبء الاقتصادي على الفئات الاجتماعية المتعددة، وتقليص الفجوات في المداخيل، ومحاربة أوضاع انعدام المساواة، وتحسين ظروف السكن وأوضاع جهازي الصحة والتربية والتعليم. وقد تأتى عن هذا الجدل في حينه، كما تبيّن الوثائق التي قام "مركز مدار" بنشرها في ذلك الوقت ضمن سلسلة "أوراق إسرائيلية"، صعود أصوات كثيرة ترى أن الكفاح من أجل السكن والعيش الكريم وضد غلاء المعيشة والذي جاءت تلك الحملة لتشكل وقوداً له، لا بُدّ من أن يسير إلى جانب الكفاح من أجل السلام وإنهاء الاحتلال، ذلك لأن عدم المبالاة بمعاناة الفلسطينيينهو الوجه الآخر لعدم المبالاة إزاء معاناة الطبقات الضعيفة ومصاعب الطبقة الوسطى، ولأنه على الرغم من أن المشكلة الأساس كامنة في السياسات الاقتصادية النيو- ليبرالية التي تسعى إلى تقليص الإنفاق العام، وإلى تهميش التزامات الدولة إزاء مواطنيها وحاجاتهم الأساس، فإن الراغبين فعلاً في تغيير سلم أولويات الدولة لا يمكنهم التغاضي عن مشكلة الميزانيات المخصصة للمستوطنات في الأراضي المحتلة، وتجاهل مسألة تضخم الميزانية الأمنية، فضلاً عن أن سياسة التقتير التي تترافق مع الاحتلال، وسياسة التمييز التي تمارس ضد فلسطينيي الداخل، تؤديان في الأصل إلى إلحاق ضرر فادح بمفهوم العدالة الاجتماعية. 

وفي هذا الصدد، خاطب البروفسور إيال غروس، أستاذ القانون في جامعة تل أبيب، الذين يعتبرون أنهم يخوضون عبر حملة الاحتجاج تلك نضالاً من أجل إنشاء نظام اشتراكي - ديمقراطي قائلاً إنه لا يمكن تحقيق ذلك في ظل الاحتلال، ذلك بأن فصل الموضوع الاقتصادي عن الموضوع السياسي هو فصل مصطنع وغير ممكن. وبرأيه يتعيّن على المواطنين في الوقت نفسه أن يستيقظوا ويدركوا أن الحكومات الإسرائيلية في معظمها لا تعمل لمصلحتهم حتى على صعيد السياستين الخارجية والأمنية، كما أنها لا تعمل من أجل السلام ولا من أجل منع وقوع الحرب. ولدى تساؤله عما إذا كانت تلك الحملة سوف تنجح في نهاية المطاف في تحقيق تغيير جوهري في السياسات الاجتماعية – الاقتصادية؟ شدّد على أنه من الصعب تحقيق مثل هذا التغيير في ظل الحكومة، فضلاً عن أنه لا يمكن تحقيق التغيير المطلوب من دون نشوء وعي يضفي بُعداً سياسياً على الحراك الذي أطلقته. وفي واقع الأمر فإنه في أثناء اندلاع تلك الحملة، كان من الصعب إيجاد محلل إسرائيلي واحد يتعامل بجدية مع احتمال تغيير السياسة العامة للحكومة، أو حتى مع فكرة العودة إلى "دولة الرفاه"، أو مع فكرة التراجع عن خصخصة مرافق كبيرة أو خدمات عمومية. وهو ما ينسحب أيضاً على فترتنا الحالية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات