المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
ناشطون يمينيون يتظاهرون في الجامعة العبرية ضد حركة "كسر الصمت" اليسارية الإسرائيلية ، 22 كانون الأول 2015.    (Flash90)
  • كلمة في البداية
  • 590
  • أنطـوان شلحـت

يصادف هذه الأيام مرور عقد على حدثين ليس مبالغة القول إنهما أثّرا في المصير الذي آلت إليه المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية في الوقت الحالي. الحدث الأول هو محاولة مجلس التعليم العالي إغلاق "قسم السياسة والحكم" في جامعة بن غوريون في بئر السبع، والتي باءت بالفشل في نهاية المطاف. والحدث الثاني هو تحويل المركز الأكاديمي في مستوطنة أريئيل إلى جامعة إسرائيلية معترفٍ بها على الرغم من كونها قائمة في أرض محتلة (الضفة الغربية) بموجب القانون الدولي.

بالنسبة إلى الحدث الأول، الذي قد يكون أكثر أهمية في ما يتعلق بدور المؤسسة الأكاديمية، فقد اعتبر بمثابة "أمر جلل"، نظراً إلى أنه لأول مرة في تاريخ إسرائيل يحاول مجلس التعليم العالي إغلاق قسم في إحدى الجامعات في البلد. ومع أنه جرى التذرّع بأسباب تبدو في الظاهر بأنها مهنيّة بحت، فإن الدافع الحقيقي للحملة ضد القسم المذكور تمثل في أن كثيرين من أعضاء الطاقم الأكاديمي في القسم هم يساريون عبروا علناً عن انتقادهم الشديد لسياسة الحكومة الإسرائيلية. وبدأت الحملة ضد هذا القسم من منظمات اليمين، التي هددت رؤساء الجامعة بوقف التبرعات الخارجية للجامعة إذا لم يقيلوا من العمل المحاضرين المتماثلين مع اليسار وأفكاره. 

وللتذكير، جاءت الحملة في سياق نشاط محافل اليمين الجديد بتشجيع من السلطة الإسرائيلية الحاكمة للدفع قدماً بمبادرات في شتى المجالات والأطر المؤسسية من أجل إقصاء عناصر اليسار وكل من يخالفها الرأي، عن مواقعها ومراكزها ومكتسباتها، وتكريس مواقع النفوذ والسيطرة التي تستأثر بها تلك المحافل، كما حدث وما زال يحدث مثلاً في المحاكم، والنيابة العامة للدولة، والمستوى المهني في وزارة التربية والتعليم، وكذلك في هيئة البث، والصحف، وفي مجلس التعليم العالي ذاته والذي تقلص فيه عدد ممثلي الجامعات وفي الوقت نفسه تمت زيادة عدد ممثلي الكليات والجمهور الذين ينتمي كثيرون منهم إلى اليمين.  

ومن الواضح أن الغاية من وراء ذلك كله هو تعزيز تحكّم السلطة بالمعرفة في إسرائيل، مثلما أشارت إلى ذلك دراسات عديدة، يجدر أن نذكر منها كتاب "فكرة إسرائيل- تاريخ السلطة والمعرفة"، للمؤرخ الإسرائيلي اليساري إيلان بابيه (صدر بترجمة عربية عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" و"مكتبة كل شيء- حيفا" في العام 2017)، والذي قدّم فيه جبلاً من القرائن على تحكّم السلطة بالمعرفة ولا سيما خلال الفترة الأخيرة، وأساساً في سبيل ترسيخ "فكرة إسرائيل" ضمن قالب مُسبق البرمجة والأدلجة بحيث تقف في جوهره بصورة مطلقة "قصة الخلاص والبطولة وعدالة التاريخ" وأنها (الفكرة) هي "التمظهر الحتميّ الناجع لتاريخ الأفكار الأوروبي"، وذلك مقابل الفكرة المُضادة القائلة بأنها تمثّل كل ما هو متعلّق بالاضطهاد والتهجير والكولونيالية والتطهير العرقي، ويتوازى مع ذلك في الوقت نفسه أن أي محاولة لمعارضة التفسير الأحادي لتلك الفكرة تواجه تهمة جاهزة فحواها "عدم الانتماء إلى الوطن أو حتى خيانته".

ويلفت الكتاب، شأنه شأن كتب عدة أخرى غيره، إلى أن سلطة الدولة تمتلك الكثير من الوسائل التي تعينها على ترويج "فكرة إسرائيل" السالفة، ويركّز على نظام التربية والتعليم، حيث يعتبر أن النجاح الأكبر لمحافل اليمين، إلى جانب وجودها الفاعل في كل الحكومات الإسرائيلية منذ العام 1996، هو سيطرتها الممتدة على نظام التعليم الإسرائيلي. ومما جاء في الكتاب بهذا الشأن: "شرع وزراء التربية والتعليم الليكوديون بالتعاون مع زمرة من الأكاديميين، كثير منهم من جامعة بار إيلان الحكومية الدينية وجامعة أريئيل في الضفة الغربية المحتلة، في جعل التفسير الأحاديّ لفكرة إسرائيل بمثابة الأساس الأيديولوجي لنظام التعليم الرسمي في البلد. وقد وضعوا الكثير من المواد التعليمية (من كتب دراسية ومناهج وغيرها) التي ستترك أثراً على الجيل المقبل من اليهود في إسرائيل، وهو أثر من شأنه أن يخرّج جيلاً عنصرياً إقصائياً مسكوناً بالطهوريّة العرقية". كما جرى بث الروح العسكرية في النظام التعليمي. وبعد ذلك يشير إلى أنه خلافاً بعض الشيء لنظام التعليم، فإن الإعلام والمجال الأكاديمي يتمتعان بالحرية بعيداً عن هيمنة السلطة، على الأقل نظرياً، ولا يمكن التحكّم بهما. وهذا ما يوضّح أسباب محاولات إحكام الهيمنة عليهما والمتواترة منذ أعوام عدة.

وإذا ما تمحورنا حول المجال الأكاديمي الذي نتطرّق إليه على نحو مُحدّد، فإن كتاب بابيه يخلص إلى استنتاج واضح مفاده أن المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية انصاعت في معظمها إلى "رواية السلطة/ الدولة"، سواء أكان ذلك عن قناعة حقيقية أو عن قناعة متوهمة من طريق ادعاء الوصول إلى تفسير مماثل لتفسيرها عبر "تحليلات موضوعية"! 

وربما يتعيّن علينا في هذا الصدد أن نسجل كلمات المؤلّف حرفيّاً والتي ورد فيها ما يلي: "تبيّن في نهاية المطاف أن الفكرة (فكرة إسرائيل) كانت أكثر قوة من الذين تحدّوها. ولم تكن تلك القوة نابعة من قسر أو ترهيب بقدر ما اكتسبت شرعيتها بشكل أساسيّ من القبول بها كأمرٍ واقعٍ. تولدت تلك القوة التي بيدها تسيير الحياة اليومية من وسائل غير ظاهرة للعيان كان أولئك الذين وقفوا ضدها يسعون إلى الكشف عنها. تلك القبضة المتينة التي تضمن دعماً واسعاً لها بين يهود إسرائيل على مستوى العامل في الشارع وصولاً إلى أستاذ الجامعة في برجه العاجيّ. وهذا ما يجعل الأمر حالة جديرة بالدراسة، إذ تساعدنا إلى جانب أهميتها في تقييم مستقبل إسرائيل على التوصل إلى فهم أفضل لطبيعة العلاقة بين السلطة والمعرفة في مجتمعات تدعي الديمقراطية في مطلع القرن الحادي والعشرين".  

أخيراً، لا يغيب عن بالنا ونحن نتناول مسار المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية تحت وطأة العقد الفائت أن هذه المؤسسة تقاطعت مع المشروع الصهيوني منذ إنشاء "الجامعة العبرية في القدس" ومعهدي "التخنيون" و"زيف" ("معهد وايزمان" لاحقاً) في عشرينيات القرن الفائت. وجرى تسخيرها من أجل خدمة المشروع الصهيوني في فلسطين قبل النكبة وبعدها، وعمل باحثوها على تزويد المشروع الصهيوني بالنظريات والآليات العلمية لتثبيت وهيمنة هذا المشروع في فلسطين في كل المجالات. وهذا التقاطع سبق أن تناوله كتاب الباحث مهند مصطفى "المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية.. المعرفة، السياسة والاقتصاد" الذي صدر في العام 2014 عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار. 

المصطلحات المستخدمة:

التخنيون

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات