المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
غالي بهراف مياره.
غالي بهراف مياره.

أقرت الحكومة الإسرائيلية تعيين المحامية غالي بهراف مياره لمنصب المستشار القانوني الجديد للحكومة، خلفاً لأفيحاي مندلبليت الذي أشغل المنصب خلال السنوات الست الأخيرة وانتهت في مطلع شباط الجاري، ولتكون مياره بذلك أول سيدة تشغل هذا المنصب بعد 14 رجلاً أشغلوه منذ قيام دولة إسرائيل حتى اليوم.

انضمت مياره (63 عاماً) إلى النيابة العامة للدولة وعملت فيها نحو ثلاثين عاماً في مناصب مختلفة كان آخرها منصب رئيسة النيابة العامة (المجال المدني) في لوائيّ تل أبيب والمركز من العام 2007 حتى العام 2015 ثم انتقلت بعد ذلك إلى العمل في القطاع الخاص خلال السنوات الأخيرة. وفي العام 2014 كانت مرشحة لإشغال منصب المدير العام لوزارة العدل، لكن اختيار الوزيرة آنذاك، تسيبي ليفني، وقع على مرشحة أخرى. وهي متزوجة من تسيون مياره الذي "أشغل مناصب عليا في الأجهزة الأمنية في دولة إسرائيل"، كما نُشر.

ويأتي قرار الحكومة هذا تبنياً للتوصية التي قدمها إليها وزير العدل، جدعون ساعر، بدعم سابق ومُعلَن من رئيس الحكومة، نفتالي بينيت، اللذين أشارا ـ في مشروع القرار الذي قُدّم إلى جلسة الحكومة ـ إلى أن غالي بهراف مياره هي "المرشحة الأكثر ملاءمةً، الأكثر نُضوجاً والأكثر جدارةً وكفاءة مهنية وإدارية لإشغال هذا المنصب"، وذلك على الرغم من افتقارها إلى أي تجربة عملية في المجالين القانونيين الأكثر أهمية في عمل المستشار القانوني للحكومة، وهما المجال الدستوري والمجال الجنائي. لكنّ افتقارها إلى التجربة في المجال الجنائي يشكل، كما يرى بعض المحللين، أفضلية كبيرة جداً من وجهة نظر الوزير ساعر الذي يسعى إلى فصل منصب المستشار القانوني للحكومة إلى منصبين اثنين، منفصلين ـ مستشار قانوني للحكومة ورئيس الادعاء العام، وهما القبعتان اللتان "يلبسهما" المستشار القانوني للحكومة في إسرائيل ويعمل في نطاقهما منذ إنشاء الدولة ومؤسساتها.

لكنّ هذا بالذات ما يريده الوزير ساعر، طبقاً للتحليلات ذاتها، إذ يبحث عن مستشار قانوني جديد يتمتع بثلاث مزايا أساسية: الأولى ـ أن يكون محافظاً في مجال القانون العام (أداء السلطات الرسمية وأصحاب المناصب والوظائف فيها)؛ الثانية ـ أن يكون ليبرالياً في مجال القانون الجنائي؛ والثالثة ـ أن يكون ذا قدرات إدارية مثبَتة ليتمكن من قيادة وتنفيذ "خطة الإصلاحات" التي يريد الوزير تنفيذها، وفي مقدمتها بالطبع فصل منصب المستشار القانوني للحكومة، كما أوضحنا سالفاً. وينبغي الانتباه هنا إلى حقيقة أن ولاية ساعر في وزارة العدل ستنتهي بعد سنتين على الأكثر، ما يعني أنه في حاجة ماسة جداً إلى "مدير تنفيذي جدّي وجيد" لإخراج خطته هذه إلى حيز التنفيذ واستكمال حلقاتها قبل أن يضطر إلى مغادرة منصبه الوزاري الحالي؛ وهو السبب الرئيس الذي جعله يرسي اختياره الأخير على المرشحة بهراف مياره ويفضلها عن جميع المرشحين الآخرين، خاصة وأن تقارير صحافية عديدة نقلت خلال الأيام الأخيرة عمّن وصفتهم بأنهم "زملاء مقربون عملوا معها وإلى جانبها على مدى عشرات السنين" تقييمهم بأنها "شخص يحاول، بكل الطرق والوسائل وبكل ما أوتي من قوة وحنكة، تجنب أي مواجهات وتحاشي أي صدامات، وخصوصاً مع المسؤولين عنها"! وهي الصفة التي يقول هؤلاء عنها إنها "تتناقض، مفهومياً وفعلياً، وبصورة جوهرية، مع منصب المستشار القانوني للحكومة والمهمات الجسام المناطة بمن يشغله".

"سورٌ واقٍ" في وجه دعاوى الفلسطينيين

في التقارير التي نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية مختلفة خلال الأيام الأخيرة عن المستشارة القانونية الجديدة للحكومة الإسرائيلية، خلفياتها وتوجهاتها، برزت على نحو خاص حقيقة أنها اعتمدت ـ خلال إشغالها منصب رئيسة النيابة العامة في لوائي تل أبيب والمركز طيلة أكثر من ثماني سنوات ـ خطاً متشدداً جداً في التصدي لدعاوى التعويضات المدنية التي تقدم ويتقدم بها إلى المحاكم الإسرائيلية مواطنون فلسطينيون من المناطق المحتلة ضد دولة إسرائيل على خلفية أضرار، جسدية أو مادية، لحقت بهم من جراء ممارسات سلطات الاحتلال المختلفة وقواته العسكرية؛ وهو ما حرص الوزير ساعر على إبرازه بشكل خاص لتأكيد "الانتماء اليميني" لمرشحته المفضلة لإشغال منصب المستشارة القانونية الجديدة للحكومة، وهو ما انعكس على وجه التحديد في العنوان الذي اختارت صحيفة "مكور ريشون" اليمينية لتتوج به تقريرها عن التعيين الجديد، حيث ورد (في العنوان): "مهنية، مهيمنة، بدون تجربة جنائية، لكن تحمل مواقف قومية".

كما برزت في التقارير في هذا السياق، أيضاً، حقيقة أن بهراف مياره كانت المحامية التي طلبت منها النيابة العامة للدولة في العام 2018 (وكانت قد أنهت عملها في النيابة العامة وانتقلت إلى العمل في القطاع الخاص) إعداد رأي استشاري قانوني شكل لائحة الدفاع عن كل من بيني غانتس وأمير إيشل، اللذين أشغلا منصبيّ وزير الدفاع وقائد سلاح الجو الإسرائيليين، على التوالي، إبان حرب "الجرف الصامد" العدوانية على قطاع غزة في تموز ـ آب 2014، وذلك في وجه دعوى التعويضات المدنية التي قدمها ضدهما في هولندا في آذار 2018 الفلسطيني إسماعيل زيادة، المواطن الهولندي المولود في مخيم البريج في قطاع غزة، على خلفية مقتل والدته وإخوته الثلاثة وزوجة أحدهم وطفلهما جراء إحدى الغارات التي شنتها طائرات سلاح الجو الإسرائيلي على المخيم خلال العدوان. لكن المحكمة اللوائية في هولندا ردّت هذه الدعوى وألزمت زيادة بدفع بضعة آلاف من اليورو لغانتس وإيشل لتغطية مصاريف المحاكمة. ثم عاد زيادة وقدم استئنافاً على هذا القرار إلى محكمة الاستئناف الهولندية العليا، التي أصدرت قرارها النهائي في أوائل كانون الأول الأخير ورفضت فيه التماس الفلسطيني إسماعيل زيادة، وذلك بناء على لائحة الدفاع التي أعدتها بهراف مياره وكان في صلبها ادعاءان اثنان مركزيان: الأول ـ أن المحكمة الهولندية غير مخولة صلاحية النظر في هذه الدعوى لأن غانتس وإيشل ـ بحكم منصبيهما إبان العدوان ـ "يتمتعان بحصانة وظيفية تحول دون تقديمهما إلى المحاكمة"؛ والثاني ـ أن جهاز القضاء الإسرائيلي مفتوح على وسعه أمام الفلسطينيين لتقديم دعاواهم القضائية إليه، الأمر الذي يسحب من المحكمة الهولندية صلاحيتها للنظر في الدعوى العينية. وقد ردّ زيادة على الادعاء الثاني هذا بقوله: "إنه ادعاء سخيف ويعلم الجميع أنه كاذب"، بينما اعتبر نائب المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية، روعي شايندروف (الذي كان، أيضاً، أحد المرشحين لإشغال منصب المستشار القانوني خلفاً لمندلبليت، قبل أن يقع الاختيار النهائي على بهراف مياره)، أن قرار محكمة الاستئناف العليا الهولندية هو "إنجاز كبير، لأنه يشكل سابقة قضائية في غاية الأهمية، وهو بمثابة سورٌ واقٍ يحمي جميع قادة الجيش الإسرائيلي من أي محاولات مماثلة لجرّهم إلى المحاكم".

بعد أشهر قليلة جداً من عدوان "الجرف الصامد"، نشرت الصحافية عميره هَاس عن "وثيقة داخلية" أعدتها النيابة العامة للدولة تمنع، بقرار واعٍ تماماً، استنفاد الإجراءات القانونية اللازمة لاستكمال النظر في دعاوى تعويضات قدمها فلسطينيون من قطاع غزة تضرروا من جراء عمليات وممارسات الجيش الإسرائيلي. وأوضحت هَاس (هآرتس، 13/12/2014) أنه قد جرى كشف النقاب هذه الوثيقة خلال المداولات القانونية التي جرت في إطار النظر في التماس تقدم به مواطنون فلسطينيون إلى "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية، مؤكدة على أن التعليمات التي وردت في تلك "الوثيقة الداخلية" أدت، في المحصلة، إلى رفض وشطب عشرات الدعاوى التعويضية التي تقدم بها مواطنون فلسطينيون، فضلاً عن تغريمهم بمبالغ كبيرة لتغطية نفقات الإجراءات القضائية إياها.

"نهجٌ يُشَرْعِن الجرائم"!

في تحليله لمسعى تعيين مياره مستشارة قانونية للحكومة، رأى المحامي إيتاي ماك، الذي مثّل فلسطينيين كثيرين في دعاوى التعويضات التي تقدموا ضد دولة إسرائيل وأجهزتها الأمنية، أن "تجربة مياره الغنية في مجال القانون المدني وانعدام تجربتها في المجال الجنائي هما، بالذات، ما يمنحانها الأفضلية على المرشحين الآخرين، بل يمكن الافتراض أيضاً انهما هما اللذان رجحا كفة ترشيحها من وجهة نظر الوزير جدعون ساعر".

وأوضح ماك، تحت عنوان "المستشارة القانونية القادمة: النائبة التي شرعنت الجرائم" (هآرتس، 31/1/2022)، أن انعدام تجربة مياره في المجال الجنائي "من المتوقع أن يشكل ذخيرة في المعركة الرامية إلى فصل منصب المستشار القانوني"، ناهيك عن أن "تجربتها الغنية في المجال المدني تثبت أنه سيكون في مقدورها تلبية إرادة وحاجة الذراع الأقوى في دولة إسرائيل ـ الجيش".

فقد أثبتت مياره "ولاءها اللامحدود للجيش والأجهزة الأمنية عموماً، سواء من خلال عملها ومنصبها في النيابة العامة ـ لواء تل أبيب أو كمحامية في القطاع الخاص"، إذ جعلت خلال إشغالها مناصب مرموقة في النيابة العامة للدولة تمثيل الدولة قضائياً في دعاوى التعويضات التي تقدم بها فلسطينيون تضرروا من ممارسات قوات الأمن "أشبه بوحدة تصفيات قضائية مهمتها منح الأجهزة الأمنية حصانة مطلقة إزاء أي مسؤولية، مقابل ردع الفلسطينيين عن التوجه إلى المحاكم الإسرائيلية". فقد عملت مياره، خلال قيادتها النيابة العامة للدولة في لواء تل أبيب، بما أسماه "طريقة الملقط": توسيع التعريف القانوني، المثبت في نصوص قانونية، لما يسمى "العمل الحربي"، من جهة، لما يمنحه هذا التعريف من حصانة واسعة للجيش وقوات الأمن أمام أي دعاوى فلسطينية، إذ أصبح هذا التعريف يشمل ـ بفعل التعديلات القانونية العديدة التي أقرها الكنيست بموجب اقتراحات النيابة ومبادراتها ـ الغالبية المطلقة من عمليات وممارسات قوات الأمن في المناطق الفلسطينية المحتلة، فأصبحت هذه "محمية بموجب القانون". وهو ما عبّر عنه مندوب مياره في جلسة للجنة القانون، الدستور والقضاء البرلمانية في العام 2009 حين قال، بصريح العبارة: "لا دعاوى تعويضات في الانتفاضة".

من جهة ثانية، "شنت النيابة العامة بقيادة مياره معارك لا هوادة فيها"، كما يقول ماك، في قاعات المحاكم الإسرائيلية التي كانت تنظر في دعاوى تعويضات تقدم بها مواطنون فلسطينيون، إذ شرع ممثلوها يطلبون من المحاكم ردّ تلك الدعاوى رداً نهائياً بادعاء توفر الحصانة على "العمليات الحربية"، إضافة إلى مطالبة المحاكم بإلزام الفلسطينيين المدّعين بدفع ضمانات مالية بمبالغ طائلة "لضمان تغطية نفقات الدولة لدى ردّ الدعاوى"! حتى أن مندوبي الدولة/ النيابة العامة الذين كانت توفدهم مياره كانوا يديرون المداولات القضائية في هذه الدعاوى في المحاكم الإسرائيلية "بصورة مهينة كان يبدو أنها معدّة مسبقاً للتأكد من قتل كرامة الإنسان الفلسطيني صاحب الدعوى، بغض النظر سواء كانوا صحافيين، عمالاً، آباء وأمهات لطفال قُتلوا أو أصيبوا، مزارعين، مسنين أو تلاميذ مدارس تعرضوا لإطلاق النار أو للضرب أو للتعذيب من جانب جنود الجيش أو رجال الشرطة... وكله بهدف دفعهم إلى الندم على مجرد محاولتهم البحث عن قليل من العدالة في المحاكم الإسرائيلية".

من الواضح طبعاً، يكتب المحامي إيتاي ماك، أن مستوى العدائية واللاإنسانية في معالجة ملفات الدعاوى هذه كان يتغير تبعاً لشخصية النائب وطباعه، لكن "روح القائدة كانت واضحة تماماً وبالإمكان استشعارها بسهولة، كما يحدث في الجيش عادة". وهكذا، "أسهمت مياره، بشكل شخصي، في تقريب دولة إسرائيل إلى نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، حيث تشريعات النيابة العامة وممارساتها كانت ترمي، هناك أيضاً، إلى منح الأجهزة الأمنية حصانة شاملة ومطلقة في مواجهة دعاوى التعويضات التي كان يتقدم بها المواطنون الأفارقة".

ثم واصلت مياره نهجها هذا بعد إنهائها العمل في النيابة العامة للدولة وخروجها إلى العمل كمحامية في القطاع الخاص، إذ "تجندت لتأدية مهمة خاصة في ما وراء خطوط العدوّ"، بحسب تعبير ماك الذي يقصد إعدادها الرأي القضائي الاستشاري المذكور أعلاه لصالح بيني غانتس وأمير إيشل، اللذين أشغلا منصبي وزير الدفاع وقائد سلاح الجو، على التوالي، إبان عدوان "الجرف الصامد" على قطاع غزة، في مواجهة دعوى التعويضات التي تقدم بها المواطن الفلسطيني إسماعيل زيادة في هولندا. ويشبّه ماك قراءة هذا الرأي الاستشاري بـ"قراءة كتاب من كتب الخيال العلمي". فعلى الرغم من الحروب الكاسحة التي كانت تشنها مياره، عبر مندوبيها، ضد الفلسطينيين وحقوقهم، يخرج قارئ رأيها الاستشاري بانطباع وكأن جهاز القضاء الإسرائيلي "هو رحلة ترفيهية مُبهِجة لكل فلسطيني، سواء كان عاجزاً، ميتاً أو ثاكلاً، لزامٌ عليه التشبث بها وعدم تضييعها".

ويختم ماك تحليله بالقول: "في ضوء تاريخها هذا، على كل إسرائيلي ذي ضمير حي أن يكون شديد القلق حيال اختيار مياره لمنصب المستشارة القانونية المقبلة للحكومة والتي ستحرص على شرعنة وتجميل جميع نزوات الأجهزة الأمنية وجرائمها".

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات