المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
يهود في نيويورك.  (فلاش 90)
يهود في نيويورك. (فلاش 90)

اتخذ جهاز الإحصاء المركزي الإسرائيلي، في نهاية شهر كانون الثاني 2022، قرارا دراماتيكيا يقضي بأن يبدأ باحتساب عدد يهود العالم بشكل رسمي. حتى الآن، كانت الدولة ومؤسساتها الرسمية، مثل جهاز الإحصاء المركزي الذي يتبع مباشرة إلى مكتب رئيس الحكومة، ينأون بأنفسهم عن هذه المهمة والتي تعتبر إشكالية ومثيرة للجدل. لا يكمن السبب في مجرد كون جهاز الإحصاء المركزي لا يمتلك الأدوات والتقنيات لإجراء مسوح أو تعداد سكاني في دول أخرى، بل أيضا في كون تعداد يهود العالم ينطوي على إشكاليات دينية تتمحور حول "من هو اليهودي" ومن يحق له الهجرة إلى إسرائيل كمستوطن جديد. حاليا، لا توجد معايير متفق عليها حول عدد يهود العالم والذين حسب تصنيفات معينة قد يصل عددهم إلى حوالي 15.2 مليون لكن حسب تصنيفات أخرى قد يصل عددهم إلى حوالي 25.3 مليون شخص، ثم حسب تصنيفات أخرى قد يصل عددهم إلى حوالي 60 مليوناً.

هذه المقالة تلقى الضوء على قرار جهاز الإحصاء المركزي الإسرائيلي، وتبين كيف أن مسألة تعداد يهود العالم تنطوي على خلافات عقائدية، ولها انعكاسات ديمغرافية هامة تتعلق بـحجم وطبيعة "مخزون" المستوطنين المحتملين الذين تسعى إسرائيل والوكالة اليهودية لاستقدامهم خلال الأعوام القادمة. وبالتالي لا يمكن إغفال التداعيات التي قد تنشأ مستقبلا من قرار جهاز الإحصاء على قضية "من هو اليهودي" ومن هو الذي يحق له الهجرة إلى إسرائيل.

خلال الأعوام الـ15 السابقة، كان جهاز الإحصاء المركزي ينشر بيانات حول عدد يهود العالم مستندا إلى العمل الذي يقوم به البروفيسور سيرجيو ديلا بيرجولا، وهو أستاذ في معهد "اليهودية المعاصرة" في الجامعة العبرية. وديلا بيرجولا ينشر تقريراً سنوياً بناءً على معلومات من معاهد البحوث والمكاتب الإحصائية والجاليات اليهودية في بلدان مختلفة. بيد أن ديلا بيرجولا يعتزم التوقف تدريجياً عن إصدار هذه التقارير السنوية، وبالتالي أعلن جهاز الإحصاء المركزي نيته نقل كل منهجيات وأدوات هذا البروفيسور إلى مكاتب الجهاز حتى يستمر في إصدار هذه التقارير الهامة على أن تكتمل عملية النقل في العام 2024. في المقابل، قال الخبير الديمغرافي الدكتور إلياهو بن موشيه إن قرار جهاز الإحصاء الاسرائيلي "غير عادي بتاتا" وأنه من المشكوك فيه ما إذا كان يمكن الحصول على بيانات موثوقة بسبب عدم وضوح المعايير التي قد تستند إليها أي جهة لاحتساب عدد اليهود في العالم. كما أعرب الدكتور يتسهار هيس، نائب رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، عن قلقه إزاء التأثير المحتمل لمكتب رئيس الحكومة على التعداد الديمغرافي لنطاق الشعب اليهودي، في حال أوكل الأمر إلى جهاز الإحصاء الذي يتلقى ميزانياته من مكتب رئيس الحكومة. هذه الانتقادات تشير، وربما على حق، إلى أن مسألة أعداد اليهود هي مسألة حيوية وقابلة للتوظيف السياسي.أور كاشتي، الدولة ستبدأ بتعداد يهود العالم بنفسها وستضطر إلى تحديد من هو اليهودي، هآرتس، 25 كانون الثاني 2022. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3Ldi19V

أولا: من هو اليهودي؟

على خلاف دول الاستعمار الاستيطاني في العالم التي فتحت الباب للهجرات الجماعية دون وضع أي اعتبارات دينية، قومية أو إثنية صارمة؛ فإن دولة إسرائيل حصرت عملية استقدام المهاجرين في "يهود العالم"، وهو ما ورد في النسخة الأولية لـ "قانون العودة" الإسرائيلي للعام 1950، إذ يحقّ لأي يهودي في العالم الهجرة إلى إسرائيل، وبشكل تلقائي يصبح مواطناً إسرائيليا كامل الحقوق.كنيست، قانون العودة للعام 1950 (القدس 1950). أنظر الرابط التالي: https://www.knesset.gov.il/laws/special/heb/chok_hashvut.htm وعلى الرغم من أن القانون حصر هجرة المستوطنين الجدد إلى إسرائيل في كتلة يهود العالم، إلا أنه لم يحدّد فعلياً "من هو اليهودي؟". في أواخر ستينيات القرن الماضي، أثارت "قضية الأخ دانيال" جدلاً داخل إسرائيل عندما رفضت المحكمة العليا الاعتراف بيهودية المواطن الإسرائيلي شموئيل أوسوالد روفايزين، على الرغم من أنه ولِدَ لأبوين يهوديين وكان أحد ناجيي "المحرقة"، ويعود الرفض إلى أنه كان قد غير ديانته في وقتٍ سابق وتحوّل إلى راهب.هنيدة غانم، في معنى الدولة اليهودية (رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية - مدار، 2011) في أعقاب هذه القضية، وتحديداً في العام 1970، أُجري تعديل على "قانون العودة" لينص على أن اليهودي هو "من يولد لأم يهودية أو يتهود وهو لا ينتمي لديانة أخرى".

من هنا، حصل اختلاف ما بين "من هو يهودي" حسب الشرعية اليهودية الأرثوذكسية المتبعة في إسرائيل وبين من هو الذي يحق له الهجرة إلى إسرائيل كمستوطن جديد حسب قانون العودة.

 

الفئة

عدد اليهود

من ضمنهم في إسرائيل

اليهود الأصليون

حسب التعريف الأرثوذكسي لليهودية

15166200

6871000

أصحاب حق الهجرة إلى اسرائيل

بناء على قانون العودة للعام 1950 وتعديلات العام 1970

25336100

7335700

إن النقاش الإسرائيلي الدائر حول "من هو اليهودي؟" لا يجب أن يُفهم على أنه نقاش ديني حول تفسيرات متعلّقة بـ"الهلاخاه" فحسب؛ بل يحمل بعداً آخر يرتبط بـ"المخزون" الاحتياطي العالمي الذي تستطيع إسرائيل من خلاله، كـ "دولة يهودية" أن تستقدم منه مهاجرين جددا.

ثانيا: الإشكالية التي تنتصب أمام اليمين الإسرائيلي

في العام 2018عيّن نفتالي بينيت، الذي كان يشغل منصب وزير الشتات في حكومة بنيامين نتنياهو، لجنة تحت اسم "اللجنة الاستشارية الحكومية لفحص علاقة إسرائيل مع جماهير العالم التي تربطها علاقات مع الشعب اليهودي"، وقد نشرت اللجنة تقريرها وتوصيتها في بداية العام 2021، وانتقد التقرير قانون العودة الإسرائيلي ووصفه بالصارم وبأنه يسلب حقّ الهجرة إلى إسرائيل من العديد من الأشخاص الذين لا يندرجون ضمن تعريف اليهودي المنصوص عليه في القانون (مثلاً، فتى يهودي ولد لوالدين نصرانيين!). وعليه؛ اقترح التقرير النظر إلى مستقبل دولة إسرائيل من خلال توسيع دائرة يهود العالم بما يتجاوز الفهم الضيق لليهودية، وهو فهم حصر يهود العالم في حوالي 15.2 مليون شخص (أنظر الجدول المرفق).

وربما هناك أسباب سياسية من وراء تشكيل هذه اللجنة. ففي حقيقة الأمر، بعد الانتهاء من استيعاب قرابة مليون مستوطن جديد من دول الاتحاد السوفييتي السابق في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، أصبح من الصعب جدا القيام بحملات استيعاب كبرى لمستوطنين جدد. فخلال العقدين الأخيرين، يتراوح عدد المستوطنين الجدد الذين يتم استقدامهم سنويا ما بين 10 إلى 30 ألفاً فقط، وهذه نسب صغيرة قد لا تحقق طموح إسرائيل في الوصول إلى تفوق ديمغرافي لليهود ما بين النهر والبحر. فداخل حدود دولة إسرائيل، شكّل اليهود ما نسبته 73.9% من السكان مع بداية العام 2021. أما داخل حدود إسرائيل "السيادية" (أي ما بين النهر والبحر) فتُشكّل نسبة اليهود حوالي 57.5% فقط، فيما يُشكّل العرب حوالي 38.5% من ضمنهم 1.956.000 في إسرائيل وحوالي 2.648.000 في الضفة الغربية. وعليه، وفي حال استمرت إسرائيل بالسيطرة على الضفة الغربية، فإنها ستحتاج لضخ المزيد من المستوطنين للسكن في المناطق المحتلة وفي مناطق "ج" تحديداً.

وقد خلص التقرير الذي أشرفت عليه لجنة بينيت منذ العام 2018 إلى أمر مفاجئ وغير متوقع. على العكس من تقارير ديلا بيرجولا أو الوكالة اليهودية، والتي لطالما بينت أن عدد يهود العالم يصل إلى 15.2 مليون فقط، فإن اللجنة التي أشرف عليها بينيت ادعت أن توسيع مفهوم "من هو اليهودي" هو أمر ممكن، وأن هناك قرابة 60 مليون شخص حول العالم يمكن اعتبارهم مقرّبين جداً من اليهودية، أو على علاقة ما بالدين اليهودي. ومن بين الـ 60 مليونا، هناك نسبة كبيرة معنية بالقدوم إلى إسرائيل، ويمكن تهويدها ومنحها ليس فقط المواطنة الإسرائيلية؛ وإنما أيضاً شهادة "تحويل إلى اليهودية".  وزارة الشتات الاسرائيلية، تقرير اللجنة الحكومية الاستشارية لفحص علاقة إسرائيل مع جماهير العالم الذين تربطهم صلات بالشعب اليهودي (القدس: وزارة الشتات الإسرائيلية، 2021) أنظر الرابط التالي: https://www.gov.il/BlobFolder/reports/committee_reports_diaspora/he/Community_hebrew140121.pdf وربما يكون من إحدى مهمات جهاز الإحصاء المركزي في السنوات القادمة هو توسيع إطار من هو اليهودي ليشمل فئات جديدة من المستوطنين المحتملين تتجاوز الـ 15.2 مليون الحاليين.

في هذا السياق، طرح وزير الأديان الإسرائيلي متان كهانا (من حزب "يمينا" الصهيوني الديني) مشروع قانون جديد يهدف إلى إدخال تعديلات على عميلة التهويد (بالعبرية: "غيور") وذلك بهدف توزيع صلاحيات وعملية التهويد من مؤسسة الرابانوت الرئيسية (والتي تحتكر العملية ويهيمن بداخلها حاخامات الطائفة الأرثوذكسية المتزمتين- الحريديم) على طيف واسع من مجالس الحاخامات المنتشرة على مستوى المدن والبلدات في إسرائيل. ولأن عملية التهويد تعتبر عملية معقدة ومرهقة، فإن مشروع القانون الذي طرحه كهانا سيقلل من صلاحيات الحريديم وكان سيدفع باتجاه جعل عملية التهويد أكثر مرونة من خلال منح صلاحيات لحاخامات من خارج الجماعات الحريدية، مثل حاخامات الصهيونية الدينية. بيد أن مشروع التعديل كان قد أثار خلافات داخلية في إسرائيل في تشرين الثاني 2021، الأمر الذي دفع كل الأطراف إلى تأجيل البت فيه إلى موعد غير معلوم.

إن شروع جهاز الإحصاء المركزي بتعداد يهود العالم لا بد أن يفهم في هذا السياق أيضا. فقضية عدد يهود العالم لا تعتبر مجرد تعداد بسيط للجماعات اليهودية التي تدعي إسرائيل بأنها تمثلهم: أي اليهود. بل إن الأمر قد يكون متعلقاً أيضا باحتياطي المستوطنين الجدد، وهو احتياطي بدأ ينضب في السنوات الأخيرة نتيجة استنفاد دولة إسرائيل والوكالة اليهودية ووزارة الاستيعاب لكل الإمكانيات في استقدام موجات كبرى من المستوطنين الجدد. وفي حال كان مفهوم "من هو اليهودي" شأنا حكوميا، فإن جهاز الإحصاء المركزي الذي يتلقى ميزانياته من مكتب رئيس الحكومة، سيكون قادرا تدريجيا على إحداث تعديلات مفاهيمية لتوسيع احتياطي المستوطنين الجدد في العالم الأمر الذي سيمكن إسرائيل من تنفس الصعداء في كل ما يتعلق بالمعضلة الديمغرافية ما بين النهر والبحر. ومع ذلك، لا يمكن أن نتوقع أن تمر هذه التعديلات، في حال شرع جهاز الإحصاء القيام بها، بهدوء، إذ إنها قد تثير خلافات حقيقية ما بين التيارات المتدينة التي تصبو إلى فهم ضيق لمفهوم اليهودي وما بين احتياجات دولة استعمارية تحتاج إلى الاستمرار في ضخ مستوطنين جدد إلى داخل أراضيها.

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات