المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تعريف:
نُشرت هذه المقاربة النقدية في كراسة "دليل العالم العربي" التي صدرت في مناسبة إقامة معرض خاص للفنان تامير تسادوك في متحف تل أبيب للفنون محوره "النظرة الإسرائيلية إلى العالم العربي". وترجمت المقاربة إلى العربية كما ظهرت في الكراسة ربى سمعان من "غلوكال للترجمة والحلول اللغوية". ويقدّم كاتب المقاربة، وهو الباحث الأكاديمي والمترجم من اللغة العربية يونتان مندل، قراءة معمقة في وقائع تجذّر مفهوم "الاستعراب" داخل المجتمع الإسرائيلي في شتى المستويات، وفي مقدمها المستوى الثقافي المؤدلج بالصهيونية، والمستوى الأمني الذي ما يزال يسعى لعسكرة كل مجالات الحياة المدنية في إسرائيل. ومندل هو عضو ناشط في "منتدى التفكير الاقليمي" وظهرت مقاربته هذه باللغة العبرية في موقع المنتدى على الشبكة (المُحرّر).

قبل بضعة أشهر، سرتُ على رجل واحدة من مباراة لكرة السلة إلى معهد تصوير الأشعة في المركز الطبيّ "إيخيلوڤ" (تل أبيب)، لأجد نفسي في نهاية المطاف في غرفة تجبير الكسور في هذا المستشفى.

أخبرني الطبيب بأنّه حدث تمزّق في الوتر العقبي، وطلب مني الانتظار هناك حتى يقوم بتجبير المنطقة المصابة. وكان ذلك في أول أيام عيد الفطر الإسلامي الذي يختتم شهر رمضان. دخل إلى الغرفة شابان فلسطينيان، أحدهما مُصاب مثلي. أخذنا نتحدث باللغة العبرية ومن ثم انتقلنا إلى اللغة العربية. طرحا عليّ السؤال المعهود "كيف تجيد اللغة العربية؟" وسرعان ما أخرجت من جعبتي الرد المعُتاد والذي يتطرق إلى جميع السياقات الإيجابية: أترجم من العربية، أتطرّق إلى تدريس اللغة العربية في المدارس وإلى تاريخ العرب في البلد، أقيم مشاريع باللغة العربية وأعمل مع زملاء عرب، وعملت سابقاً في منظّمات حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة. أغرقتهما بهذه الردود، من دون الإشارة طبعاً إلى الخدمة الإلزامية التي أديتها في وحدة الاستخبارات.

كان الشاب المصاب من مدينة نابلس "لكن لديه تصريح عمل"، قال قريبه من منطقة المثلث، مشيراً مراراً وتكراراً إلى أنّه يتوجب عليهما توخي الحذر من كوني يهوديا -إسرائيليا ناطقا باللغة العربية. ارتسمت على وجهيهما ابتسامة يشوبها شيء من المرارة عندما تحدّثا عن قضائهما يوم العيد في ظروف كهذه. قبل هذه الواقعة ببضعة أيام، وتحديداً في موقع البناء الإسرائيلي الذي عمل فيه الفلسطيني ابن مدينة نابلس، سقطت عليه خلاطة إسمنت، وبدا لي أنّ العلاج لن يقتصر على التجبير. على أي حال، قرر الشاب استغلال اللقاء العرضي مع ممثّل "الإسرائيليين" وسألني عمّا يتوجب عليه فعله وعمّا يمكن لشقيقه أن يفعله للحصول على تصريح عمل. سارعت لإعطائه رقم الهاتف لمنظمة "أطباء لحقوق الانسان" و"مسلك- مركز الدفاع عن حرية الحركة"، ومن ثم طلب مني إعطاءه رقم هاتفي، اتصل بي وقطع الاتصال بعد ظهور رقمه على شاشة هاتفي، ليتسنى لنا بذلك حفظ تفاصيل بعضنا البعض.

لم يفهم الممرض الذي كان يرقبنا من داخل غرفة التجبير طبيعة ما كان يدور بيننا. فقد رأى يهودياً إسرائيلياً أشكنازياً يتحدث بالعربية مع فلسطيني من الضفة الغربية، وفي نهاية المطاف يتبادلان تفاصيل الاتصال ويتصافحان. تمت مناداة الفلسطيني للخضوع للتصوير الشعاعي مجدداً. ألقى نحوي سلاماً أخيراً، وتمنيت لكليهما عيداً مباركاً.

بقيت في الغرفة مع الممرّض الذي اقترب مني، جلس على حافة سريري وسألني مباشرة من دون مقدّمات: "أنجحت في تجنيده؟"
*****
هذه القصة ليست استثنائية. قد يكون الممرّض فظاً وصريحاً، لكن في منظومة العلاقات التي أنشأتها الصهيونية، وتبنتها إسرائيل لاحقاً، بين اليهود سكان البلد وبين بلدان الشرق الأوسط، بين إسرائيل والعالم العربي وبين اليهود الإسرائيليين والعرب- سواء كانوا فلسطينيين، مصريين، أردنيين أو سوريين- فإن هذا المزيج الذي تشوبه المخاوف والسرية، البطولة والرجولة، الأمن المفُرط والشعور بالغربة، الغربة الشيقة والرومانسية، يكون حاضراً بجرعات متفاوتة في كلّ لقاء عربي- يهودي. يسود هذا المزيج لدى الجمهور الواسع، المواطنين الذين لم يتعلموا أو لم يعملوا في المجال "الاستشراقي" بل ترعرعوا وسط التصورات الإسرائيلية حيال الشرق الأوسط الذي سميّ مجازياً بـ"الحيّ الصعب"، وتبنّوا التسمية المجازية التي اعتمدها إيهود باراك ومن بعده بنيامين نتنياهو اللذان وصفا وجود إسرائيل في الشرق الأوسط كـ"فيللا وسط غابة". هناك أيضاً عبارة "شغل عرب" التي تقضي بأنّ العرب غير جديين وغير مجدين، أما جملة "ما كان هو ما سيكون" التي كثيراً ما يستخدمها محللو الشؤون العربية، وعلى رأسهم إيهود يعاري، فهي تعني أنّ الشرق الأوسط ثابت وغير متغير فيما يختص بعدائه غير المبرر تجاه إسرائيل. هذا التوجّه لا يختلف لدى الإسرائيليين الذين "يعرفون عرباً"، خبراء المجال الذين تعلّموا اللغة العربية أو حصلوا على لقب أكاديمي في دراسات الشرق الأوسط، محللي العالم العربي، العاملين في وزارة الخارجية أو في وزارة الدفاع، المتجوّلين في المدن الفلسطينية وصولا إلى عمان، الذين يقومون بدرس واستعراض فحوى القنوات التلفزيونية العربية، الذين يشغلون المناصب الخاصة بـ"الشؤون العربية"، الذين يخدمون في وحدة الاستخبارات وفي جهاز الأمن العام الإسرائيلي، ويعملون أحياناً حتى في وحدة المستعربين أحيانا كمستعربين، هؤلاء الذين يكرهون ويحبون العرب في آن واحد، هؤلاء الذين عجنوا وخبزوا من أجلنا التسميات المجازية "الحي الصعب"، فيللا وسط غابة"، "شغل عرب" و"ما كان هو ما سيكون".

3 1مقال في كل صهيوني مستعرب صغير

لقد اعتاد الجمهور اليهودي في إسرائيل على تلقي المزايا القاطعة التي رسمتها مجموعة الوسطاء"- "خبراء" الشؤون العربية- التي خاضت مساراً تأهيلياً حكومياً شبه مماثل: تعلّم اللغة العربية في المرحلة الثانوية، الخدمة في وحدة الاستخبارات، لقب أول في دراسات الشرق الأوسط أو اللغة العربية وآدابها، ومن ثم "توزّعوا" في مختلف الحيزات- خدمات الخارجية والدفاع، الإعلام والنشاط البحثي في مراكز شبه أكاديمية- شبه استراتيجية، وانخرطوا في برنامج تأهيل الجيل الجديد من "خبراء الشؤون العربية" في المدارس.

في العام 1956 أقيم قسم "الدراسات الشرقية"- المسار المتقدم لدراسات اللغة العربية في جهاز التربية والتعليم العبري، والذي نتج أصلا عن لقاء أمني- تربوي- عسكري وفي إطاره تم اصطحاب طلاب المدارس إلى البلدات العربية للتعرف عن كثب إلى "حياة وثقافة العرب"، بما يتلاءم مع منطلقات مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية في حينه: "برنامج التخصّصات الشرقية أقيم من جرّاء النقص الحاد والمتزايد في الطواقم الناطقة باللغة العربية في الوزارات والجيش [...] إننا نسعى إلى متابعة تأهيل الشباب خريجي برنامج التخصصات الشرقية بعد إنهاء المرحلة الثانوية أيضاً [...] في إطار الخدمة العسكرية الإلزامية، سيتلقى هؤلاء الشباب تأهيلا إضافياً في الشؤون العربية من خلال مختلف المساقات والدورات، إلى جانب التدريب العملي في إطار وظائف تعنى بالمجتمع العربي. بانتهاء الخدمة العسكرية، يتابع الخريجون الأكثر كفاءة التأهيل في إطار معهد علوم الشرق الأوسط في الجامعة (رسالة مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية شموئيل ديبون، والذي شغل سابقاً منصب رئيس قسم الشؤون العربية في خدمة الاستخبارات وجمع المعلومات في الهاغاناه، إلى مدير عام وزارة التربية والتعليم، 2/9/1956، أرشيف الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن).

لقد كان هذا المسار معداً لـ"الدورة الحياتية" للمستعرب الإسرائيلي الوسطي، والطريق التي اعتمده المجتمع اليهودي الإسرائيلي لتقبّل الخبير- الحكومي المعتدل- لـ"الشؤون العربية". بهذا، تعلّم المجتمع اليهودي الإسرائيلي تقبّل حقيقة أنّ "الخبراء" في هذا المجال هم من اليهود فقط. هل يمكنكم مثلا تخيّل وسيلة إعلام يهودية مع محلّل عربي لـ"الشؤون العربية"، أو تخيّل معلّم عربي يُعدّ طلابه لامتحان الثانوية العامة (البجروت) باللغة العربية، أو مفتّش عربي لمادة اللغة العربية في جهاز التربية والتعليم، أو محاضر عربي متخصص في دراسات أحد بلدان الشرق الأوسط. بالإضافة إلى وجوب كونهم يهوداً، اعتاد الجمهور اليهودي في إسرائيل على اعتبار هؤلاء الوسطاء عرّافين ملّمين بكلّ شيء، أبطالاً قادرين على اختراق "العقل العربي" وحلّ "اللغز"، معتقدين أنّ بإمكانهم أن يشرحوا بجملة واحدة فقط الرواية التاريخية، الواقع الاجتماعي، الطموحات السياسية والحالة النفسية للشعوب العربية. ومن منظور إسرائيلي، يُعتبر هؤلاء الخبراء أيضاً "موضوعيين" وغير منحازين لأنّهم لا يربطون الواقع الذين يستعرضونه بالتدابير السياسية التي تتخذها دولة إسرائيل، وتحديداً لعدم كونهم عرباً. بكلمات أخرى، تبلورت بين اليهود في إسرائيل وبين وسطاء "الشؤون العربية" اتفاقية يتم بحسبها تسخير الوسائل والقنوات المقبولة لغرض نقل المعلومات التي يمكن تصنيفها بحسب الفئات المعهودة: الهدف المتفّق عليه هو نقل وتعميم المعرفة ضمن حدود الخطاب الإسرائيلي، وضمان مسافة آمنة- فجوة مزدوجة استشراقية على نسق إدوارد سعيد- بين "اليهود" و"العرب"، بين "الخير" و"الشر"، بين "المنطقي" و"غير المتوقع" وبين هؤلاء الذين يريدون العيش وأولئك الذي لا يأبهون بالموت.

2مقال في كل صهيوني مستعرب صغير

الاستعراب، الصهيونية والهوية الإسرائيلية

في هذا الصدد، كان "المستعربون" جوهر هذه الشريحة واردة الذكر: فهُم جنود، رجال، أبطال، "يعرفون العرب"، يهود، يتجولون في المناطق العربية ويحملون في جعبتهم قصصاً مجهولة، يحدقّون بنا بأعين لامعة خلف الكوفية، إنّهم الأقرب إلى العرب ونقيضهم المطُلق- زُبدة الكيان الإسرائيلي. لم يرسم المستعربون لأنفسهم هذه الصورة، فقد سعت الحركة الصهيونية منذ مطلع فجرها إلى التخلي عن ارتباطها بالمنفى الشرق- أوروبي وتحويل المهاجرين إلى سكان محليين. وكان الفلاح الفلسطيني مصدر إلهام لطلائعيي حركة بيلو، الظاهرين في صور تعود إلى نهاية القرن الـ19 وهم يتناولون طعامهم وسط حقل ما، ولنشطاء منظّمة "هشومير" الذين يظهرون بجلابيات وسيوف لم يحضروها معهم من روسيا. لم يختلف عنهم نشطاء البلماح الذين خاضوا شتى المعارك ضد العرب: فقد أدخلوا العربية إلى لغتهم، وكلّما أجادوا اللغة العربية، وربطوا على أعناقهم كوفيات أكثر "أصالة" وأنتجوا منتجات "بلدية"- كلّما كانوا أكثر ارتباطاً بهوية البلماح. بكلمات أخرى، كلّما كانوا أقرب إلى "العرب" كلّما ازدادت أحقيتهم باستبدالهم وأخذ مكانهم، تقديراً منهم لأهل البيت. إحدى مقاتلات البلماح نتيڤا بن يهودا تستذكر المعاملة تجاه العرب في أربعينيات القرن الماضي فتقول: "لقد كانوا بنظرنا نموذجاً لأبناء الأرض، أما نحن... فأردنا أن نبدو كالعرب [...] كلّ من أجاد بضع كلمات عربية كان قديراً جداً، وكلّ من رافق عرباً كان ملكاً، ملكاً حقيقياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. يكفي مرافقة [صديق] بدوي واحد، أو حتى حوراني بائس، ناطور في ميناء يافا. وكلما عرف الفرد منّا المزيد عن العادات العربية، وكلّما تمكّن من الاندماج بينهم، التصرّف مثلهم وخلق لغة مشتركة معهم- كلّما اتّسم بنظرنا بصفات إلهية (نتيفا بن يهودا، 1948 – بيّن الحيّزين: رواية عن بداية الحرب، القدس، كيتر، 1981، ص 176).

هذه هي قصة البلماح الذي تبلورت على نسقه روح الجيش الإسرائيلية والدولة التي ولد فيها معظم الإسرائيليين. لقد ضم البلماح أيضاً العديد من المستعربين، ليس كهؤلاء الذين نعرفهم اليوم- الذين يتعلمون العربية لبضعة أشهر، أو يظهرون في أفلام مصورة وهم يكشفون عن مسدّس وسط مظاهرة، الذين يشعرون بالراحة القصوى في خضّم "الشغب" والمعروفين أساساً بالاعتقالات العنيفة التي يمارسونها- إنهم يهود ناطقون بالعربية في منشأهم. خلافاً للوضع الحالي- حيث يتعلّم المستعربون اللغة العربية في الجيش أساساً، والذي يربط تأهيلهم "الاستعرابي" بالتدريبات الجسدية أساساً، ويتعرفون إلى الفلسطينيين لأول مرة وهم يخبّئون تحت ملابسهم شتى أنواع الأسلحة- ترعرع مستعربو البلماح مع العرب، عاشوا معهم وتحدثوا العربية منذ صغرهم. لقد كانوا يهوداً-عرباً، ولكن لهذا السبب تحديداً، وعلى ضوء الصراع العربي- الفلسطيني، اضطروا لإثبات نشاطهم وولائهم طوال الوقت، وفي نهاية المطاف، عملوا ضمن إطار تعود منطلقاته وتنتمي غالبية صنّاع القرار فيه، كما هو الحال في الحركة الصهيونية، إلى يهود أشكناز.

4مقال في كل صهيوني مستعرب صغير

 

في كتابه مستعربو البلماح (1986)، يستحضر تسڤيكا درور شهادات حول علاقات القوى التي سادت في تلك الوحدة، وحدة البلماح. فقد انعكست في هذه الوحدة علاقات قوى واضحة بين المؤسسة الإسرائيلية وصنّاع القرار الأشكناز الأوروبيين من جهة، وبين اليهود الشرقيين من جهة أخرى. ويورد درور مقطعاً من تقرير كتبه يغئال ألون، قائد وحدة المستعربين، وجاء فيه أنهم "حاولوا في حينه تحديد النموذج البشري الملائم لهذه المهمة: أسود داخلياً وأبيض ظاهرياً". وسميّت الوحدة بـ"السود" (هَشحوريم باللغة العبرية). وفقط بعد أن أدركوا أنّ هذه التسمية تحقيرية، طلب منهم تغييرها إلى "الفجر" ("هشاحر" باللغة العبرية(. وتضمن مسار التأهيل تعليمهم كيف يتصرف العربي، وكما كتب ألون: "يجب أن تتعلّم كيفية الجلوس على الكرسي أثناء تدخين النرجيلة، كيفية إطلاق الشتائم أثناء لعبة الطاولة، كيفية دخول المنزل ومناداة النادل، كيفية الدفع وتنظيف الحذاء [...] يجب التأقلّم لمصطلحات الفلاحين، اعتياد النوم على الأرض، التعوّد على القمل".

كان مستعربو البلماح عرباً- يهوداً ولدوا وترعرعوا في صنعاء، دمشق، الخليل، بغداد ومدن أخرى. المعرفة التي اكتسبوها أثناء تأهيلهم في الوحدة تطرقت أيضاً إلى السلوكيات المعتمدة بين البالغين في العالم العربي، بما في ذلك الشؤون الدينية (كيفية أداء الصلاة لدى العرب المسلمين أو العرب المسيحيين)، الثقافة (الأغاني الوطنية الفلسطينية المعاصرة) والأوضاع الراهنة في البلدان العربية. ولكننا لا نستطيع التغاضي عن حقيقة أنّ ما تعلّموه في هذه التدريبات، أي آلية التنكّر التي تجذرت فيهم، كانت بمثابة الضربة القاضية لكيان مختلف كامن فيهم. فتجاربهم التي سبقت تجنيدهم للوحدة-لغتهم الأم، الأماكن التي ترعرعوا فيها، القيم والثقافة التي اكتسبوها في طفولتهم- كانت تحمل في طياتها أملا للحياة المشتركة بين اليهود والعرب، أما صداقاتهم الأولى، فكانت تُبشّر باحتمال الحفاظ على همزة الوصل بين الثقافتين العربية واليهودية. ولكن منذ لحظة تجنيدهم وتفويضهم من قِبل الحركة الصهيونية للاندماج في المجتمع العربي- ولكن بشخصيات وهمية وقصص تغطية- قُطعت همزة الوصل هذه. فور انتحالهم للشخصية العربية، تجذّر نهائياً توجّه الصهيونية الأوروبية التي تفصل وتميّز بين اليهود والعرب. فإنِ تظاهر اليهودي- العربي بأنّه عربيّ، لا يوجد إثبات أفضل من ذلك لعدم كونه عربياً. وبهذا تلقى مستعربو الوحدة الضوء الأخضر لإنشاء الثالوث غير المقدّس: التقرّب من العرب، إيذاء العرب وعدم الانتماء للعرب، وقد شكّل ذلك لاحقاً تذكرة دخولهم إلى "فئة أبناء إسرائيل"، ويطلق عليهم بالعبرية تسباريم.

الاستعراب كوجهة نظر إسرائيلية

تتعدد أصول كلمة "مستعربين"، فـ"مستعربون" هي تسمية لمجتمعات يهودية قديمة جداً (اليهود المستعربة) الذين كانوا يقطنون في مختلف أرجاء الشرق الأوسط، بما في ذلك هذه البلاد، تحدثوا العربية وكانوا جزءاً لا يتجزّأ من الثقافة العربية السائدة. "المستعربون" هي أيضاً تسمية نٌسبت للمجتمعات المسيحية mozárabes)) التي خضعت للحكم الإسلامي في الأندلس، وهذه إحدى الإمكانيات الواردة لأصل الكلمة، التي تربط بين المصطلح العبري الحديث وبين اللغة العربية، نسبةً للفعل "استعرب"، أي "تكيّف مع العادات العربية". لكن يوجد أيضا احتمالان إضافيان، ناتجان عن دمج بين كلمتين باللغة العبرية. الأول هو الدمج بين كلمتي "هستاعر - أي انقضّ" و"عربيّ"، ويكون التركيز بذلك على عملية "الانقضاض/ الهجوم"، خاصة في الأراضي المحتلة. الاحتمال الثاني هو الدمج بين كلمتيّ "هستافا - أيّ تستَّر" و"عربيّ"، ويكون التركيز بذلك على التنكّر والتشبّه بالعرب.

في كلتا الحالتين، يبدو أنّ المستعربين في المفهوم العبري الحديث كانوا جزءاً من الحمض النووي الإسرائيلي الأمني والمدني أيضاً. على المستوى الأمني، نخص بالذكر وحدات المستعربين الإسرائيلية السابقة والحالية، ومن بينها سرية شاكيد في قطاع غزة في سنوات السبعين، وحدة شمشون في قطاع غزة في سنوات الثمانين والتسعين، دوڤديڤان - الوحدة المركزية من بين وحدات المستعربين الحالية في الجيش الإسرائيلي، وحدة حرمش في الضفة الغربية في سنوات التسعين، وحدة المستعربين في حرس الحدود، هاغيدعونيم (وحدة المستعربين في شرطة إسرائيل)، متسادا (وحدة المستعربين في مصلحة السجون الإسرائيلية( ووحدات إضافية في جهاز الاستخبارات والمهمات الخاصة (الموساد) وجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، التي اشتمل نشاطها السري على التخفي والتنكّر.

7مقال في كل صهيوني مستعرب صغير

ويجدر تسليط الضوء أيضاً على تغلغل سياسة الاستعراب هذه في المجالات المدنية. فليس صدفة أن يحظى مسلسل تلفزيوني عن المستعربين بعنوان "فوضى" بشهرة واسعة، ناهيك عن المشهد الذي يغني فيه المستعربون في الفيلم أغنية بالعربية بعنوان "تملي معاك"، إذ يظهر شبّاننا الأخيار وهم يؤدون أغنية حزينة، يعزفون على الغيتار، تتجلى في أعينهم سمات نبيلة، وينجحون في تحويل اللغة العربية إلى لغة إنسانية، محاولين "إنقاذها" من مخالب البرابرة الذين يمتلكونها. ليس صدفة أن تحظى أغنية المستعربين هذه بنصف مليون مشاهدة على قناة يوتيوب، لتتفوق النسخة العبرية-المستعربة بذلك على الأغنية الأصلية للمطرب المصري عمرو دياب. أجهل رد فعل المنتجين المصريين على هذه الخطوة، وماهية الاتفاق حول حقوق التأليف والنشر، ولكن الانتشار الواسع لهذه "العروبة- المستعربة" تحمل في طياتها شيئا من "الطبيعة الإسرائيلية": فكرة اليد الممدودة من أجل السلام، والتقرب من العدو العربي مع الحفاظ على الحدود الجسدية، السياسية والنفسية.

ويبدو أن الإسرائيليين يحبون أبطالهم المستعربين. كما يبدو أنّ القناة العاشرة أدركت ذلك، عقب نجاح سلسلة حلقات الاستعراب لتسڤي يحزقيلي (محلل القناة للشؤون العربية). لا أعلم كم شخصا ممن قابلهم يعتقدون بأنه لاجئ فلسطيني مقيم في مخيم ما، ولكن هذه السلسلة لم تهدف إلى الاستماع للعربيّ، إنّما إلى مخاطبة اليهودي. هذه اللحظات "المخيفة" التي مرّت بالإسرائيلي الجالس في الطيارة بحوار سيدة محجّبة، أو بإيلي الذي يلف حول عنقه كوفية ويسافر إلى تركيا، منتحلا شخصية وهمية- هي دلالة على ماهيتنا نحن كمجتمع، على كيفية تصورنا للشرق الأوسط وعلى اختياراتنا حيال ما نريد رؤيته وسماعه. 

استنادَا إلى الأرض الخصبة في "فيللا وسط غابة" يمكنني الادّعاء أنّ المستعربين وسياسة الاستعراب- كعملية عسكرية أو كمصدر فخر واعتزاز- تجاوزا منذ زمن بعيد حدود الوحدات الأمنية، ولم يعودا مرتبطين فقط بجذور الصهيونية وبالعقيدة العسكرية التي تبلورت بعد ثورة البراق وكذبات مستعربي البلماح، أو بوحدات المستعربين التي تنشط منذ ذلك الحين، أو بالكتب الشهيرة والمسلسلات التلفزيونية والأغاني الحزينة التي يرافقها العزف على الغيتار، بل تأصّلا في الحياة اليومية لدى الغالبية العظمى من اليهود في إسرائيل. على سبيل المثال، عند التجنيد لصفوف الجيش الإسرائيلي، في مرحلة "التحقيق الأمني"، والتي يعرف خلالها الجندي/ة بماذا يجب الرد عندما يُسألان ما إذا كان لديهما أصدقاء عرب: عامة لا يكون لديهما أصدقاء عرب، وإن وجدوا فهما يعلمان أنّه يفضّل عدم الإشارة إلى ذلك. إنّه استعراب من نوع آخر. في حالة أخرى، المواطن الذي تعلّم العربية في إطار عسكري أو أمني سيتجنب السؤال الذي يطرحه العربيّ "أين تعلمت العربية". هنا أيضاً يتراكم غبار الاستعراب.

تجدر الإشارة أيضاً إلى الاستعراب الشيق والمثير، الذي اقتصر سابقاً على زيارة البتراء والعودة بسلام، وتطور بعدئذ إلى حلم "تناول الحمّص في دمشق". وقد تعززت هذه التصريحات المجازية حتى عام 2007، حين تلقى رئيس الوزراء في حينه، إيهود أولمرت، هدية من القصر الرئاسي لبشار الأسد: حمّص طازج من دمشق، كإرسالية من المبعوث الأميركي أثناء تواجده هناك. وقد أفاد أولمرت في وقت لاحق: "أمرت بإدخال الصندوق إلى ديواني دون أن يخضع للفحص الأمني". كلّ ما أردناه هو العودة إلى موطننا بسلام. ولكن ذلك لا يقتصر على رئيس الوزراء الأسبق: في الواقع، كلما قَدِم الحمّص الذي يزين مائدتنا من قرية عربية نائية، أو من مدينة فلسطينية يحظر على الإسرائيليين الدخول إليها، كلّما كان مذاقه أفضل. إنّه مجرد صحن من الحمّص، ولكنه يخاطب نبضات القلب التي تُرعش الروح الإسرائيلية، روح المستعربين الصغار.

أزيلوا الكوفية عن أعينكم

طالما تعززت النظرة الإسرائيلية السائدة حيَال العالم العربي ولم يتغير الوسطاء الإسرائيليون للشرق الأوسط، وطالما استمر قمع الشرقيّ باسم الصهيونية والكيان الإسرائيلي، وطالما تعلّمنا اللغة العربية كموضوع اختياري لغرض الاندماج في خدمة الاستخبارات، وطالما اتسّم كل لقاء عربي- يهودي بجو من القلق والسرية، بالبطولة والرجولة، بالأمن المفرط والشعور بالغربة، وبالإثارة والرومانسية، ستبقى لعنة المستعربين جاثمة فوق صدورنا.

9مقال في كل صهيوني مستعرب صغير

يبدو لي أحياناً أنّ أولئك الذين "يعرفون" العرب بشكل رسميّ في إسرائيل هم تحديداً المساهمون في القضاء على الاحتمال الأخير للعيش المشترك. فهم ينذرون العرب واليهود على حد سواء باتخاذ الحيطة والحذر من بعضهم البعض. العالم الوحيد الذي يسعون إلى تجذيره وتأصيله بيننا هو ذاك الذي يعزز وساطتهم، وفي إطاره تبقى إسرائيل جسماً غريباً في العالم العربي. بسبب عدسات "الغرابة" التي يلصقونها على أعيننا جميعاً، لا يمكننا رؤية الفرص الماثلة أمامنا: بدلا من رؤية العربي- اليهودي، نرى عميلا محتملا أو جاسوساً، بدلا من رؤية اليهودي الناطق بالعربية، نرى مجنّد المتعاونين، بدلاً من رؤية سوق أو متحف، نرى مغامرة مثيرة، وبدلا من رؤية الإنسان نرى خطراً وجودياً. بذلك يتبقى لدينا احتمالان: الاستعراب أو الحياة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات