المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تواصل استطلاعات الرأي التنبؤ بضربة قاصمة جديدة لحركة "شاس" الدينية المتزمتة (الحريدية) لليهود الشرقيين (السفاراديم)، بحصولها على 4 أو 5 مقاعد على الأكثر، في ما لو جرت الانتخابات البرلمانية في هذه المرحلة، بدلا من 7 مقاعد حاليا. إلا أن الاستطلاعات لا تفسر وجهة الأصوات التي ستخسرها "شاس" افتراضيا، ما يضع علامات سؤال على دقة هذه الاستطلاعات بالنسبة لحركة أظهرت ثباتا في الساحة السياسية، برغم الانشقاق الذي واجهته قبل ثلاث سنوات.

خلفية

كان الحريديم الشرقيون، حتى مطلع سنوات الثمانين، منخرطين أساسا في حركات "حريديم" لليهود الأشكناز، إلى أن بادر الحاخام الأكبر الأسبق لليهود الشرقيين، عوفاديا يوسف، في نهاية العام 1983 والعام 1984 إلى انشاء حركة "شاس"، التي انسلخ ناشطوها عن الكتلة البرلمانية للحريديم. ونجحت الحركة في أول انتخابات لها في العام 1984 بالحصول على أربعة مقاعد، وكانت تعد نتيجة كبيرة جدا، نسبيا، بسبب قلة أعداد "الحريديم" ونسبتهم من بين السكان في ذلك العام، وأيضا لأن نمط التصويت في إسرائيل كان يصب بغالبيته العظمى (أكثر من الثلثين) لصالح الحزبين الأكبرين: المعراخ الذي بات اسمه العمل، والليكود.

لكن يوسف، وخلافا للنهج القائم لدى الحريديم الأشكناز، اتجه إلى اليهود الشرقيين من خارج مجتمع "الحريديم" المنغلق، مستفيدا من كونهم في تلك المرحلة يشكلون القطاع الأكبر بين اليهود الفقراء، وحتى أنه حينما تقول "بلدات فقر"، أو "أحياء فقر"، تعني مباشرة اليهود الشرقيين. ورأت تلك الجماهير الفقيرة بحركة "شاس" عنوانا كبيرا لها، كون الحركة أغدقت عليها من خلال الجمعيات الخيرية، التي تغيث الفقراء في قوت يومهم، ومن ثم دمجت حركة "شاس" أعدادا كبيرة من أبناء الفقراء في شبكة المدارس الدينية التابعة للحركة، لما في هذه المدارس من دعم مادي واقتصادي.

ولهذا رأينا أن هذا ساهم في إحداث قفزات كبيرة في قوة "شاس" البرلمانية، وساعد في هذا أيضا تبدل القيادة السياسية فيها، في مطلع سنوات التسعين، ليتولاها آرييه درعي، المعروف بدهائه السياسي، ورؤيته بعدم زج الحركة في أي خانة سياسية، يمين متشدد أو معتدل، ولم يرفض الشراكة السياسية مع "اليسار الصهيوني"، كما حصل في حكومة إسحاق رابين في العام 1992، وحكومة إيهود باراك في العام 1999، طالما أن هذه الشراكة تضمن وتؤمن مصالح الحركة ومؤسساتها وجمهورها.

إلا أنه قبل أربع سنوات، بدأت "شاس" تواجه علامات سؤال على مستقبلها، بعد موت مؤسسها وزعيمها الروحي، الحاخام يوسف في شهر أيلول العام 2013، بعد ثمانية أشهر من انتخابات ذلك العام، التي كانت فيها كتلة "شاس" ذات رأسين: آرييه درعي، والوزير الأسبق إيلي يشاي، الذي استقال في بحر العام 2014، تمهيدا لانشقاق لاحق في الحركة، بإيعاز من حاخامين كبار، انشقوا هم عن مجلس "حكماء التوراة"، الذي يقود الحركة. وقد كان يوسف على مدى ثلاثة عقود الخيمة الجامعة والشخصية المهيمنة على كل أطراف اليهود المتدينين المتزمتين (الحريديم) الشرقيين، وحتى من حاول التمرد لم يلق حظوظا في الوصول إلى حيث سعى، مثل البرلمان.

انتخابات 2015 وما بعدها

في الانتخابات البرلمانية الأخيرة (2015) تلقت حركة "شاس" ضربة مزدوجة، أو لنقل بحركة مقص، أفقدتها أكثر من ثلث قوتها البرلمانية، إذ هبطت من 11 مقعدا حققتها في انتخابات مطلع العام 2013، إلى 7 مقاعد. وكانت الضربة الاولى هي انشقاق الوزير الاسبق إيلي يشاي، بإيعاز من أكثر من حاخام في مجلس "حكماء التوراة".

وقد أسس يشاي حركة "ياحد"، التي تحالفت في انتخابات 2015، مع حركة "عوتسما"، وهي الحركة المنبثقة عن حركة "كاخ" الارهابية، المحظورة على الورق في القانون الإسرائيلي، كما أنها محظورة في العديد من دول العالم، ومنها الولايات المتحدة الأميركية إلا أن ناشطيها يتحركون سياسيا بحرية تامة، وتمثلوا في الكنيست في العام 2009، ويحيون ذكرى زعيمهم المقتول مئير كهانا، في العلن دون أن يكون ثمة ما يمنعهم.

وحصلت حركة "ياحد" في الانتخابات الأخيرة على ما يلامس 3% من الأصوات، ولكنها لم تدخل إلى البرلمان، لكون نسبة الحسم 25ر3%، بمعنى أنها كانت بعيدة بأقل من 11 ألف صوت. وفي مراجعة لمصادر الأصوات، ومقارنتها مع انتخابات 2013، فإن هذه الحركة اقتنصت مقعدين من حركة "شاس". أما المقعدان الآخران، فقد حصل عليهما حزب "كولانو" بزعامة من بات وزيرا للمالية في الحكومة الحالية، موشيه كحلون، وهذه الأصوات حصل عليها في معاقل تقليدية لحركة "شاس" في بلدات وأحياء اليهود الشرقيين، من الشرائح الفقيرة، التي رأت بحركة "شاس" عنوانا لها.

وهذا المشهد بالذات، وخاصة من زاوية حزب "ياحد"، كان في خلفية اعتراض آرييه درعي الفوري على مبادرة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، التي اعلن عنها في الشهر الماضي، وتراجع عنها بعد 12 ساعة، وهي إعادة نسبة الحسم إلى 2%، بدلا من نسبة 25ر3%، التي تم رفعها عشية انتخابات 2015. فقد رأى درعي في تخفيض النسبة تهديدا لحركته، بتمثيل "ياحد" في الولاية البرلمانية المقبلة.

وقد أثبتت المجريات اللاحقة أن نتنياهو لم يكن جديا في مبادرته تلك، وإنما كانت خطوة ليستفز بها شركاءه في الحكومة، الذين اعترضوا على مشروع قانون يمنع اجراء تحقيق مع رئيس الوزراء جنائيا خلال ولايته البرلمانية. فلدى الإعلان عن نية رفع نسبة الحسم، على لسان "مقربين من نتنياهو"، اتجهت الأنظار بسرعة إلى "القائمة المشتركة"، التي تضم أربع قوى تنشط في شارع فلسطينيي الداخل، إلا أن هدف نتنياهو الأول من هذا هو خلق بلبلة عند ثلاثة من شركائه. وأول الشركاء تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي"، الذي يضم ثلاثة أحزاب، وتخفيض نسبة الحسم سيقود حتما إلى حل هذا التحالف. كذلك فإن تخفيضا كهذا قد يضرب كتلة "يهدوت هتوراة" للحريديم الأشكناز، التي تضم ثلاثة أحزاب. وأيضا يفسح المجال أمام حركة "ياحد" المنشقة عن حركة "شاس" لتتمثل في الكنيست، وهذا ما أقلق درعي. كذلك من شأن تخفيض نسبة الحسم أن يحل تحالف "المعسكر الصهيوني" المعارض.

إشكالية الاستطلاعات

الإشكالية في الاستطلاعات التي تنشر تباعا، وتتنبأ بغالبيتها خسارة حركة "شاس" من مقعد إلى ثلاثة مقاعد، مقابل اضافة محدودة لكتلة "يهدوت هتوراة" للحريديم الأشكناز (الغربيين)، التي لها حاليا 5 مقاعد، أن تلك الاستطلاعات لا تفسر وجهة عشرات آلاف الأصوات التي ستخسرها "شاس". فالغالبية الساحقة من "الحريديم"، لا يمكن إلا أن تصوت لقوائم تمثلها مباشرة، وطائفيا بالذات.

وهذا ما يثبته بحث الخارطة السياسية في مستوطنات الضفة والقدس 2013- 2015- برهوم جرايسي، الصادر عن مركز الابحاث "مدار" في رام الله. فقد أظهر ذلك البحث نتائج التصويت في كل واحدة من المستوطنات، وحسب مجموعات، ليظهر أن 95% من المصوتين في المستوطنات السبع الخاصة بالحريديم، للقوائم الثلاث التي مثلتهم مباشرة: قائمة يهدوت هتوراة 56%، ثم قائمة "شاس" 27%، وقائمة "ياحد" قرابة 5ر11%. أما بقية الأصوات فقد اتجهت 3% لقائمة "البيت اليهودي"، و5ر2% لحزب الليكود.

وبالامكان القول إن النسبة الحقيقية قد تعلو عن 95% بين الحريديم وحدهم، بعد الأخذ بعين الاعتبار أن في مستوطنتين اثنتين يوجد جمهور صغير من التيار الديني الصهيوني، وهما "موديعين عيليت" و"تل تسيون".

والتصويت في مستوطنات الحريديم هو نموذج يسري على كافة أحياء الحريديم في المدن والبلدات الإسرائيلية. وما يراد قوله هو أن "شاس" خسرت أصوات من اليهود الشرقيين من غير الحريديم، وباتت الغالبية الساحقة من أصواتها من الحريديم الشرقيين "السفاراديم"، وهؤلاء يتكاثرون سنويا بنسبة 8ر3%، كما هي لدى سائر "الحريديم"، وهي ضعفا نسبة التكاثر العامة. وما من شك في أن هذا سينعكس مباشرة على كمية أصوات "الحريديم" للكتلتين "شاس" و"يهدوت هتوراة"، وطالما لا توجد قائمة ثالثة تظهر في استطلاعات الرأي، فإن هذا سيبقى خللا في استطلاعات الرأي. وحينما نتكلم عن برلمان من 120 مقعدا فإن كل مقعد من شأنه أن يكون حاسما في موازين القوى بين المعسكرات.

أزمة درعي الشخصية

في الآونة الأخيرة بدأت تتحدث تقارير عن أزمة قيادة تواجه درعي في صفوف حركته، وكما يبدو أن في خلفيتها مسعى حاخامين في مجلس "حكماء التوراة" لرأب الصدع، ووقف حالة الانشقاق، وقد يكون هذا على حساب درعي ويشاي في آن واحد.

تقريبا هناك اجماع على دور آرييه درعي الحاسم في تحويل "شاس" من حركة ظل إلى قوة سياسية كبيرة في الساحة السياسية، فقد ترأس الحركة ابتداء من العام 1992، وفي ذات العام قفزت الحركة إلى تمثيل 6 مقاعد، ثم 10 مقاعد في العام 1996، و19 مقعدا في العام 1999، ولكن بعدها دخل درعي إلى السجن بتهم فساد، وأمضى هناك عامين ونصف العام، من أصل أربعة حكم بها.

وانعكست براغماتية درعي على شخص يوسف ذاته، الذي أصدر بعد اتفاقيات أوسلو الأولى فتوى تجيز "التنازل عن الأرض من أجل حقن الدماء"، بمعنى الانسحاب من الأراضي المحتلة منذ العام 1967، ورأينا الحركة تؤيد برلمانيا اتفاقيات أوسلو، وحتى أن شخصيات من الحركة انخرطت في ما تعرف "مبادرة جنيف للسلام"، الإسرائيلية الفلسطينية.

في العام 2011 انتهت السنوات العشر، التي كان على درعي أن يمضيها خارج الحلبة السياسية، وسبقت انتهائها سلسلة من التقارير التي تحدثت عن عزمه العودة إلى الحياة السياسية، بداية من خلال "شاس"، وسط تهديدات بأن صد الباب في وجهه سيقوده إلى تشكيل حركة بديلة، تهدد قوة "شاس" البرلمانية، واشتدت التهديدات في العام 2012، مع اقتراب موعد انتخابات مطلع العام 2013، إلى أن جاء قرار يوسف بتشكيل رئاسة ثلاثية لحركة "شاس"، مكونه من يشاي ودرعي، ومن كان وزير الاسكان أريئيل أتياس، المقرب من يوسف.

ونشير هنا إلى أن قيادات الحريديم، ومن ثم جمهورهم، اتجهوا في سنوات الألفين نحو اليمين المتشدد، بعد أن كانوا جمهورا خارج الجدل حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وتحوّل "البراغماتي" درعي إلى يميني متطرف آخر في الحلبة السياسية ومعه نواب كتلته.

في العام الأخير تفجرت من جديد شبهات فساد متورط بها درعي، الذي امتثل للتحقيق في الأشهر الأخيرة عدة مرات، وسط مؤشرات إلى أن ينتهي به الأمر بلائحة اتهام جديدة، قد تكون القاضية في حال اثبتت ما ورد فيها، نظرا لكونه "صاحب أسبقيات"، وكما في التهم الاولى فأيضا في الشبهات الحالية يجري الحديث عن حصوله على امتيازات وأموال غير مشروعة من عدة جهات.

بموازاة ذلك، وكما ذكر هنا حسب تقارير ظهرت في الاسابيع الأخيرة، فقد بدأ حراك في "شاس" بين "الحاخامين الكبار" لرأب الصدع.

ويقول الصحافي أهارون رافينوفيتش في تقرير له في صحيفة "هآرتس"، إن لقاء جرى في موسم الأعياد العبرية الشهر الماضي، بين رئيس مجلس "حكماء التوراة"، الحاخام شالوم كوهين، والحاخام مئير مزوز، أبرز شخصية دينية انشقت عن حركة "شاس"، وهو الزعيم الروحي لحركة "ياحد" التي أسسها يشاي. ويقول رافينوفيتش إن ذلك لم يكن لقاء عابرا، بل كما يبدو محاولة لتأسيس شيء. ويشير في تقريره إلى أن مكانة درعي مهزوزة داخل حركته، وأنه لم يعد في مكانة "الحاكم بأمره"، والقادر على اقناع مجلس الحكماء برأيه، كما كان على مدى سنين.

مع ذلك لحركة "شاس" نواة مصوتين صلبة، من جمهور "الحريديم" السفاراديم وأيضا من شرائح يهود شرقيين فقيرة ما تزال تعتمد على مؤسسات ومعونات حركة "شاس" في حياتها اليوم، ولذا فإن التقدير هو أن "شاس" باقية بعد الانتخابات المقبلة، ومن الصعب رؤية خسارة جدية لها في الأصوات والمقاعد، طالما لم يظهر عنوان بديل "للحريديم" السفاراديم.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات