المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
إسرائيل وإيران: مواجهة لم تُحسم بعد (وكالات)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 34
  • عبد القادر بدوي

منذ انتهاء الحرب الإسرائيلية- الأميركية على إيران، لم تتوقف النقاشات الإسرائيلية حول ما حقّقته هذه الحرب في ما يتعلّق ببرنامجي إيران النووي والصاروخي، حيث شكلت الحرب نقطة تحوّل استراتيجية في مواجهة التهديد النووي الإيراني، من وجهة النظر الإسرائيلية، وحيث لم تقتصر الحرب على إضعاف البنية التحتية النووية الإيرانية فحسب، بل كشفت أيضاً عن قدرات إيران الحقيقية (خاصة الصاروخية) في مقابل حدود منظومة الردع التي راهنت عليها إيران سابقاً في مواجهة إسرائيل.

في هذه المساهمة، نستعرض الجزء الأول من تقرير موسّع أعدّه راز تسيمت وتامير هايمن لمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في جامعة تل أبيب بعنوان: "بين التسوية والإنفاذ: إسرائيل والبرنامج النووي الإيراني بعد الحرب"، يتناول وضع البرنامج النووي الإيراني في أعقاب الحرب الإسرائيلية- الأميركية ومدى تضرّر المشروع النووي بحسب التقديرات الإسرائيلية، وأبرز الخيارات والبدائل الاستراتيجية المتاحة أمام إسرائيل من حيث العيوب والمزايا التي أفرزتها نتائج الحرب، والتي ستعتمد، من بين أمور أخرى، على قرارات إيران وعملية التقييم والمراجعة التي بدأت بإجرائها في أعقاب انتهاء الحرب مع إسرائيل. هنا، نستعرض الجزء الأول من المساهمة، مع الإشارة إلى أن المصطلحات الواردة أدناه مصدرها التقرير ولا تُعبّر عن وجهة نظر مركز مدار أو مُعدّ المساهمة، حيث سيتم نشر الجزء الثاني في مساهمة لاحقة.

وضع برنامج إيران النووي في أعقاب الحرب

ينطلق التقرير من افتراض مفاده أن الحرب الإسرائيلية- الأميركية على إيران قد أعادت برنامج إيران النووي إلى الوراء بدرجة كبيرة، حيث لم تعُد إيران دولة على عتبة النووي كما كانت عشية الحرب (أي دولة تمتلك القدرة على استكمال تخصيب اليورانيوم الذي بحوزتها إلى مادة انشطارية بدرجة 90%، المطلوبة للسلاح النووي، خلال أقل من أسبوعين من اتخاذ القرار). ومع ذلك، ما تزال لإيران قدرات متبقية، قد تُستخدم لاحقاً في مساعيها لاستعادة البرنامج، وربما حتى لاختراق نحو امتلاك سلاح نووي، حيث يمكن لإيران أن تعود إلى مكانة دولة على عتبة النووي خلال سنة إلى سنتين في حال اتخذ زعيم إيران قراراً بالاختراق نحو القنبلة (وفي حال عدم وجود تدخل خارجي في العملية).

يستعرض التقرير الأضرار التي ألحقتها الهجمات الإسرائيلية- الأميركية على المنشآت المركزية المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني (بعضها غير قابلة للترميم كما يدّعي) على النحو التالي:

  1. منشأة التخصيب في نطنز: الموقع المركزي للتخصيب في إيران والذي كانت تعمل فيه آلاف أجهزة الطرد المركزي من الجيل القديم وكذلك أجهزة طرد مركزي متقدمة، تضررت بشدة. بحسب التقرير، يبدو أن هذه الأجهزة قد خرجت عن الخدمة تماماً وأن نحو 15,000 من أجهزة الطرد المركزي العاملة التي كانت في المنشأة قد دُمّرت بالكامل.
  2. منشأة التخصيب تحت الأرض في فوردو، والتي نُصبت فيها أجهزة طرد مركزي متقدمة وتم فيها تخصيب حتى درجة 60%، تضرّرت هي الأخرى بشدة بواسطة ست قنابل أميركية.
  3. مركز التكنولوجيا النووية في أصفهان: تضرّر بشدة وعلى ما يبدو خرج من العمل. كان المركز يُستخدم لتحويل مركّبات اليورانيوم إلى غاز UF6 – المادة الخام المطلوبة لعملية التخصيب، وللتحويل العكسي من UF6 إلى يورانيوم معدني، يُستخدم لصنع نواة انشطارية للسلاح النووي.

يدّعي التقرير أن المحصلة النهائية للاستهداف تشير إلى أنه قد تم تدمير معظم أجهزة الطرد المركزي النشطة، كما تضررت قدرات إنتاج أجهزة الطرد المركزي (يؤكّد التقرير أنه لم يتم المساس بالمعرفة والخبرة الواسعة التي تمتلكها إيران في هذا المجال). ومع ذلك، لا شك في أنه بقي بحوزة إيران على الأقل بضع مئات من أجهزة الطرد المركزي، من بينها تلك التي تم إنتاجها ولكن لم تُنصب بعد في منشأتَي التخصيب قبل الحرب، ويُشار هنا، إلى أنه منذ شباط 2021، لم تسمح إيران برقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) على إنتاج أو تخزين أجهزة الطرد المركزي.

  1. مخزون المادة المخصّبة: ليس من الواضح ما إذا كانت 408 كغم من اليورانيوم المخصب لدرجة 60%، التي كانت بحوزة إيران قبل الحرب، قد أُخرجت من المواقع النووية المشار إليها، فُرّقت ونُقلت إلى أماكن اختباء أو بقيت في موقع واحد أو أكثر تضررت في الهجمات، وكذلك ما هي القدرة على استخدام ولو جزء منها. علاوةً على ذلك، من المفترض أنه بقيت كميات إضافية من اليورانيوم المخصب لدرجات أدنى. في هذا السياق، يُشير التقرير إلى تقدير مسؤول إسرائيلي كبير في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" قال فيه إن جزءاً على الأقل من المادة الانشطارية نجا من الهجمات ولكنه دُفن تحت نطنز وفوردو، وقال: "لم يتم تحريك أي شيء". وأعرب عن ثقته بأن أي محاولة إيرانية لاستخراج اليورانيوم سيتم اكتشافها بدرجة احتمالية عالية، مما سيؤدي إلى هجوم إسرائيلي إضافي على إيران.
  1. مفاعل الماء الثقيل في آراك تضرر بشدة: كان الهجوم على المفاعل، الذي أُعدّ لاستخدامه في إنتاج بلوتونيوم بدرجة عسكرية يُستخدم لصنع سلاح نووي، يهدف إلى منع إمكانية إعادته إلى مسار عسكري في المستقبل، ومن غير الواضح بعد آثار الحرب على التقدم في إنتاج آليات التفجير. في المقابل، يؤكّد التقرير أن قد تم استهداف عدد من المنشآت المرتبطة بمشروع التسلّح، أي تصميم الرأس الحربي النووي، بما في ذلك المجمع في بارشين ومقر SPND (منظمة الابتكار والبحث الدفاعي) في طهران، ولكن لم تتضح درجة الضرر أيضاً فيها، قد يؤدي الضرر في مرحلة واحدة من برامج التحويل إلى السلاح إلى تعطيل السلسلة بأكملها، لكن ليس واضحاً كم من الوقت يستغرق التأخير.
  1. اغتيال أكثر من عشرة من علماء الذرة (البرنامج النووي): يؤكّد التقرير أن لجوء إسرائيل إلى اغتيال خبراء بارزين في المجالات المرتبطة بالسلاح النووي، والذين كانوا مراكز معرفة في مجالات مرتبطة بالتسلح، ذو تأثير كبير على المعرفة النووية في مجالات محددة، وربما أيضاً على القدرة على تجنيد علماء نوويين مستقبلياً لبرنامج السلاح (رغم أنه قد تكون هناك رغبة ودافعية من جانب العلماء للانضمام إلى خدمة النظام وبرنامج النووي بسبب الولاء للنظام أو للدولة). وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن هناك احتياطياً من القوى العاملة في المجالات ذات الصلة، يمكنهم أن يكونوا بديلاً للعلماء الذين تمّت تصفيتهم، ولكن من المحتمل أنهم يفتقرون للخبرة والتخصص المماثلين. كذلك، فإن الضرر في أرشيف البرنامج النووي في طهران قد يشكل عاملاً معطلاً هاماً في مجال المعرفة النووية أيضاً، وهو ما يُكسب عمليات الاغتيال التي نفّذتها إسرائيل قوة أكبر في تأخير البرنامج.

البرنامج النووي ومكانته في الاستراتيجية الإيرانية

يؤكّد التقرير أن هدف الحفاظ على النظام يُعدّ هدفاً أسمى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويشكّل محوراً مركزياً في تصوّرها الأمني، بما في ذلك توجهها نحو تطوير برنامج نووي، الذي بدأت نواته في عهد الشاه، لكنه جُمّد بعد الثورة الإسلامية بأمر من الخميني لاعتبارات دينية، إلا أن الحرب مع العراق، وما تخللها من استخدام أسلحة كيميائية ضد إيران، دفعت النظام إلى إعادة إحياء البرنامج في الثمانينيات. رغم تصريحات طهران المتكررة بأنّها لا تسعى لامتلاك سلاح نووي، وأنه محرّم شرعياً، فإن القيادة الإيرانية، وعلى رأسها علي خامنئي، ترى في الوصول إلى "العتبة النووية" وسيلة ردع فعالة وبوليصة تأمين لبقاء النظام، كما تعتبر أن الضغوط الغربية لا ترتبط بالبرنامج نفسه بل تهدف لتغيير نظام الثورة.

من ناحية أخرى، يُشير التقرير إلى أن الأحداث الإقليمية منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة، أثارت شكوكاً في طهران بشأن فاعلية أدوات الردع الإيرانية، لا سيما "محور المقاومة" ومنظوماتها الصاروخية. من ناحية أخرى، يؤكّد التقرير أن فشل إيران في منع إسرائيل من ضرب مصالحها كشف عن محدودية قدراتها، ما دفع بعض الأصوات في الداخل إلى الدعوة لتغيير العقيدة النووية وفحص خيار التسلح النووي الفعلي. برزت هذه الدعوات مع مطالبة نواب في البرلمان، في تشرين الأول 2024، بمراجعة استراتيجية إيران النووية، وهو ما ظهر في تصريحات بعض المسؤولين التي قالت إن إيران قد تغيّر عقيدتها إذا واجهت تهديداً وجودياً، مؤكداً امتلاكها القدرات التقنية لإنتاج سلاح نووي، وأن موقف القائد هو العائق الوحيد.

في المقابل، وكنتيجة للحرب، فإن تصاعد النقاشات الداخلية، رغم غياب قرار رسمي من خامنئي بشأن التسلح، يشير إلى تزايد التأييد لفكرة "الاختراق النووي" كخيار استراتيجي محتمل في مواجهة التحديات التي تهدد المصالح الإيرانية.

البدائل المتاحة أمام إيران

يُشير التقرير إلى أن إيران ما تزال تُظهر، في هذه المرحلة، أنها لم تُنجز بعد عملية تقييم الأضرار (BDA) الناجمة عن الحرب، ولا تزال تحاول فهم مدى خسائرها وقدراتها المتبقية، مما يجعلها حذرة في اتخاذ قرارات حاسمة بشأن خطواتها المستقبلية. كما أن عملية اتخاذ القرار في النظام الإيراني معقدة ومنظمة وتستغرق وقتاً. رغم ذلك، تزداد لدى إيران الرغبة في الحصول على سلاح نووي استناداً إلى دروس الحرب وفشل تصور الردع لديها أمام إسرائيل والولايات المتحدة.

تواجه إيران عدة بدائل رئيسية بحسب التقرير: أولها التخلي عن البرنامج النووي، وهو احتمال ضعيف للغاية بسبب اعتقاد القيادة بأن البرنامج هو حق طبيعي وبوليصة تأمين لبقاء النظام، ويبدو أن الحرب عززت هذا الموقف. البديل الثاني هو الاستعداد لاتفاق نووي جديد، لكن إيران مترددة في العودة إلى مفاوضات قد تفرض عليها تنازلات كبيرة كالتخلي عن التخصيب وفرض رقابة مكثفة من وكالة الطاقة الذرية التي تتهمها بالتعاون مع أعدائها. قد يوافق خامنئي على تسوية سياسية بشروط محددة لإزالة التهديدات العسكرية وتخفيف العقوبات، لكنه غير واثق من الإدارة الأميركية.

الخيار الثالث هو إعادة تأهيل إيران كدولة عتبة نووية تحافظ على الغموض النووي، ربما مع فرض قيود على رقابة الوكالة أو الانسحاب من معاهدة NPT وهذا الخيار يثير خلافات داخلية بين دوائر محافظة ترى فيه ورقة ضغط مهمة، ودوائر معتدلة تخشى أن يؤدي إلى تشديد العقوبات أو تجدد الحرب، خاصة وأن إيران لا تستطيع إخفاء تقدمها النووي من استخبارات الأعداء.

الخيار الرابع هو الاختراق نحو السلاح النووي في مسار سري، وهو خيار يتزايد دعمه بعد الحرب لكنه محفوف بالمخاطر بسبب احتمال الرد العسكري الغربي والاستخبارات المتغلغلة. إيران قد تخطئ في تقدير نوايا وقدرات أعدائها كما حصل سابقاً.

من المحتمل ألا تعيد إيران تأهيل منشآت التخصيب المتضررة، لكنها قد تخصب اليورانيوم عسكرياً بنسبة 90% في مواقع سرية باستخدام عدد محدود من أجهزة الطرد المركزي (100-200)، الأمر الذي يمكن إنجازه خلال أسابيع إذا كانت قد أعدت برنامج طوارئ مُعجّل في مواقع موزعة مسبقاً. كذلك، قد تعيد تحويل اليورانيوم إلى شكله المعدني في مواقع بديلة مجهزة مسبقاً، ما يستغرق عدة أشهر.

إنتاج السلاح النووي أكثر تعقيداً، مع تقدم كبير في تركيب آلية التفجير البسيطة (Gun-type)، التي تتطلب كميات أكبر من المادة الانشطارية ولا يمكن إطلاقها عبر الصواريخ الباليستية بسهولة، ما يجعل استخدامها محدوداً لعرض القوة وليس تهديداً عملياً. قد تختار إيران مساراً سريعاً أقل أماناً، لكن القدرة على تطوير منظومة كاملة صاروخية نووية غير متاحة على المدى القريب.

رغم إمكانية نقل نظام نووي جاهز من كوريا الشمالية أو باكستان، فإن هذا الاحتمال ضئيل بسبب اعتماد إيران على الذات في قدراتها الاستراتيجية. قد تطور إيران أيضاً أسلحة نووية كهرومغناطيسية غير قاتلة، متوافقة مع فتوى المرشد الأعلى التي تحرم الأسلحة النووية القاتلة.

الغاية الاستراتيجية بالنسبة لإسرائيل

يؤكد التقرير أن منع إيران من امتلاك سلاح نووي كان وما يزال، حتى بعد الحرب، الهدف المركزي لضمان الأمن القومي لدولة إسرائيل وتعزيزه، حيث لا يمكن لإسرائيل أن تتقبل بأي شكل من الأشكال وجود سلاح نووي في أيدي "نظام راديكالي" يسعى إلى تدميرها والقضاء عليها. وفي أعقاب النتائج التي أفرزتها الحرب، يؤكّد التقرير أن هناك حاجة إلى غاية استراتيجية جوهرها إزالة قدرة إيران على تطوير سلاح نووي، سواءً من خلال تسوية تحرمها من القدرة على تطويره، أو عبر إنفاذ بالقوة (بوسائل عسكرية أو سرية) يمنع أي جهد إيراني جديد لإعادة تأهيل البرنامج النووي، وبالأحرى التوجه نحو السلاح النووي. كل ذلك، مع الحفاظ على القدرة على مواصلة "الحملة الشاملة ضد إيران لإضعاف النظام"، والحد من نشاطه الإقليمي، وتقليص قدراته الصاروخية التي يمتلكها.

وعليه، يقترح التقرير جملة من الأدوات العملياتية المطلوبة من إسرائيل في مواجهة البرنامج النووي الإيراني:

  1. قدرات جمع معلومات واستخبارات للتعرّف على التقدم النووي السري لإيران.
  2. تنويع وتوسيع العمل السري لاختراق وتدمير القدرات الصناعية النووية الإيرانية.
  3. قدرة إسرائيلية مستقلة على تنفيذ هجمات عميقة تحت الأرض لتدمير المنشآت النووية.
  4. تعميق قدرة اختراق منظومة الدفاع الجوي الإيراني مع الحفاظ على التعاون الأميركي.
  5. كشف ومنع المساعدات الخارجية لإعادة تأهيل القدرات النووية الإيرانية بالتعاون الدولي.
  6. تحسين قدرات التحذير وإحباط الإرهاب المحتمل كجزء من رد الفعل الإيراني.

 

الخيارات الاستراتيجية في المستقبل (سيتم استعراضها بالتفصيل في الجزء الثاني من هذه المساهمة)

  1. اتفاق نووي جيد (سيتم تفصيل مزاياه وعيوبه في المساهمة اللاحقة).
  2. هجوم عسكري "وقائي" واسع النطاق: أي هجوم مشترك إسرائيلي- أميركي لتدمير الأصول المتبقية في إيران وزعزعة أسس النظام، بما في ذلك احتمال تنفيذ عمليات برية.
  3. واقع بدون اتفاق وبدون هجوم وزيادة الضغط الدولي على الجمهورية الإسلامية بهدف إضعافها وعزلها.
المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات