المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أخذ الأدب المختص في حل النزاعات يقبل بالتمييز بين تسوية النزاعات، وبين المصالحة، بإعتبارهما عمليتين تختلفان في طبيعتهما وتقودان الى تحقيق أهداف مختلفة في المفاوضات بين أطراف إثنية وقومية موجودة في صراع فيما بينها. والمصالحة مصطلح جديد نسبيا شائع في الخطاب السياسي، أخذ يصبح موضوع إهتمام من جانب الباحثين. وجاء إتساع دائرة إستعماله أساسا بفعل التطورات كبيرة الأثر على الساحة الدولية، والتي طرحت قضايا العدل ومحاسبة النفس تاريخيا في صلب جدول الأعمال الإجتماعي في بلدان كثيرة ورفعت مستوى الإدراك الدولي لأهمية حل النزاعات الإثنية..

بقلم: البروفيسور نديم روحانا
أخذ الأدب المختص في حل النزاعات يقبل بالتمييز بين تسوية النزاعات، وبين المصالحة، بإعتبارهما عمليتين تختلفان في طبيعتهما وتقودان الى تحقيق أهداف مختلفة في المفاوضات بين أطراف إثنية وقومية موجودة في صراع فيما بينها. المصالحة مصطلح جديد نسبيا شائع في الخطاب السياسي، أخذ يصبح موضوع إهتمام من قبل الباحثين. جاء إتساع دائرة إستعماله أساسا بفعل التطورات كبيرة الأثر على الساحة الدولية، والتي طرحت قضايا العدل ومحاسبة النفس تاريخيا على قلب جدول الأعمال الإجتماعي في بلدان كثيرة ورفعت مستوى الإدراك الدولي لأهمية حل النزاعات الإثنية. هذا ما حدث مثلا في الدول التي خاضت عملية الإنتقال من العيش تحت وطأة أنظمة مركزية، انتهكت بفظاظة حقوق الانسان لمواطنيها، الى أنظمة ديموقراطية تخطو خطواتها الاولى، وفيها أصبحت قضايا متعلقة بما يسمى "عدل المراحل الإنتقالية" (transitional justice) قضايا مركزية (مثل في السلفادور، الارجنتين، تشيلي، غواتيمالا، ودول أوروبا الشرقية). وعلى هذا المنوال بدأت عدد من الدول الديموقراطية بفحص المظالم والشرور التي أرتكبت في الماضي، كإبادة الشعوب الأصلية، والرق، وجرائم الحرب، (كالولايات المتحدة واستراليا واليابان) فيما بدأت دول أخرى بفحص أسباب تعاون شرائح سكانية من أبنائها مع محتلين ومضطهِّدين، أو فحص أسباب عدم إحتجاج شرائح سكانية على سياسات إبادة شعب ما. فبعد سقوط سور برلين مثلا إعتذر عدد من رؤساء دول اوروبا الشرقية للشعب اليهودي عن تعاونهم مع مشروع الإبادة النازي أو عدم محاولاتهم منع تنفيذه. وأصبحت المطالبة بالإعتذار جزءاً مقبولاً من الحوار بين الشعوب والجماعات التي مرت بنزاعات، وعانت من إنتهاكات لحقوق الانسان. كما أن التحول الدرامي في جنوب افريقيا من نظام التفرقة العنصرية (ابرتهايد) الى نظام ديموقراطي، والدور الذي أدّته لجنة "الحقيقة والمصالحة" في جنوب افريقيا في عملية التحول هذه، شّكل حالة خاصة ذات مقياس مميز لها، ورفع بالتالي مستوى الإدراك الدولي لدور عملية المصالحة في تغيير وجهة النزاعات الإثنية. صحيح أن أكثر من 20 لجنة مشابهة أسست في كافة أنحاء العالم لكن حالة جنوب افريقيا تبرز في الوعي الدولي باعتبارها حالة لمحاسبة النفس على المظالم التي أرتكبت في الماضي، وحالة لعبت المصالحة فيها دورا مركزيا في الإنتقال، بطرق سلمية، من الإضطهاد الشديد الى التحرير الشامل، وفي التغيرات التي طرأت على العلاقات بين الجماعات المتنازعة فيما مضى.

الاستخدام الشائع لمصطلح المصالحة، والتجديد الكامن في استخدامه في الخطاب الأكاديمي والسياسي، والعلاقة بينه وبين مصطلحات أخرى مثل الإعتذار والمسامحة (forgiveness) تشحنه بمعان كثيرة ومع ذلك تساهم في مغايرته في معانيه الدقيقة. لكن المصالحة التي كانت هدفا مركزيا من وراء تأسيس لجان الحقيقة والمصالحة، والتي ظهرت أساسا في المجتمعات غير الغربية أصبحت الآن معرضة لخطر بناء مفهوم غربي جديد لها عبر استعمال مختلف المعاني الدينية والادعاءات الثقافية الأخرى. فتحت تأثير الثيولوجيا (علم اللاهوت) المسيحية مثلا، ارتبط مفهوم المسامحة، ذو المعاني الدينية العميقة مع مصطلح المصالحة. فالمسامحة وفقا للثيولوجيا المسيحية التقليدية هي الخطوة الاولى في عملية المصالحة. كما أن فرض النموذج العلاجي الذي تؤسسه مصطلحات مثل، علاج، تراوما، والشفاء، يهدد بتقليص نطاق عملية هائلة القوة بين مجموعات مختلفة لها استحقاقاتها الواضحة في إعادة البناء السياسي والاجتماعي الى عملية سيكيولوجية داخلية تركز على العلاقات بين الافراد. يتجاهل مثل هذا النموذج، مركزية الهويات الجماعية التي تبلورت على امتداد أجيال من النزاع بفعل موازين القوى، والسيطرة، والاضطهاد، والاستغلال الجماعي. ولا يقف هذا النموذج عند خطأ النقل لمحور التحليل من انماط العلاقات بين المجموعات التي هي نفسها نتيجة لبنى القوة التي تؤيدها الدولة الى انماط التجارب الفردية التي تفرزها هذه العلاقات، وانما يقوم بطمس المنطق السببي في عملية تأثير العلاقات بين المجموعات على تجربة الأفراد بصورة تجر انعكاسات نظرية وأخلاقية خطيرة. زد على ذلك فبعد إعطاء مصطلح المصالحة صبغته الغربية، الاميريكية في الأساس، فإنه يُفرض بقوة على أناس هم كمجموعة واحيانا كثيرة منذ عدة أجيال، الضحايا ومنفذي الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان.

* تسوية النزاعات، وحل النزاعات، والمصالحة

احد سبل المساهمة في توضيح مصطلح المصالحة كعملية بحد ذاتها، وحالة مرجوة، يكون اولا وقبل كل شيء بتمييزه عن مصطلحين آخرين، يتم تداولهما كثيرا: تسوية النزاعات، وحل النزاعات. تختلف هذه العمليات الثلاث عن بعضها البعض في طبيعتها، وبالتالي فإنها لا تستهدف تحقيق الغاية نفسها. إن تسوية النزاعات وحل النزاعات والمصالحة تختلف عن بعضها البعض من حيث أهداف الإتفاق، وأطراف الإتفاق، وطبيعة العلاقات التي يتطلع الطرفان اليها، ومن حيث أهمية القبول المتبادل وأهمية العلاقات المستقبلية بين الاطراف. تسعى "تسوية النزاعات" الى التوصل الى إنهاء رسمي للنزاع استنادا الى مصالح مشتركة، تتمثل بالتوصل الى إتفاق بين أطراف متنازعة، يعكس ميزان القوى ميدانيا. ولا تعكس التسوية بالضرورة الإحتياجات العادلة للأطراف، كما أنها وفي أحيان كثيرة لا تعكس المصالح بعيدة المدى للطرف الضعيف. في تسوية النزاعات تقوم النخب بوضع الإتفاق بين الطرفين. ولا يتناول مثل هذا الاتفاق بالضرورة مسألة العلاقات بين المجتمعات كما أنه لا يتطرق الى مسألة الاعتراف المتبادل والصادق بين الأطراف. وعليه يكون السلام بين الأطراف المتنازعة باردا أو ملتهبا طالما كان يعكس مصالح الطرفين وطالما تمتع الطرفان بتعايش محتمل. يشكل الاتفاق الموقع بين ايران والعراق عام 75 بشأن نزاعهما الحدودي مثالا لتسوية نزاع. فقد عكس الاتفاق موازين القوى في ذلك الوقت، لكنه خُرق مشعلا أحد أكثر الحروب دماراً في المنطقة.

مقابل ذلك فإنه عند حل النزاعات تجري محاولة للتوصل الى إتفاق يستند الى عوامل النزاع. أي محاولة للتوصل الى تسوية تاريخية. وتتم بلورة الإتفاق بهدف تحقيق إحتياجات انسانية أساسية للطرفين، بدون علاقة بماهية ميزان القوى بينهما. وتتم معالجة الاحتياجات الاسياسية للطرفين بنفس المستوى وليس وفق موازين القوى بينهما وانما في إطار بناء علاقات جديدة تعزّز المساواة والعلاقات المتبادلة. وعلى الرغم من أن النخب هي التي تتوصل الى هذا الإتفاق، فإنه يهدف الى بناء علاقات سلمية بين المجتمعات ويمثّل قبولا متبادلا عند الطرفين. هذا الاتفاق لا يسعى فقط الى تحقيق التعايش وإنما الى التعاون المشترك الذي يمثّل سلاما ساخنا. ينهي هذا الاتفاق حالة النزاع دون ان يتمكن أحد الأطراف من توجيه أي إدعاء ضد الطرف الآخر بعد ذلك. في هذا السياق ترى اسرائيل في الإتفاق الموقع مع الاردن عام 95، حلا للنزاع وإن كان فشل العملية السلمية مع الفلسطينين لاحقا، أضعف التأييد الشعبي للإتفاق، من الجانب الاردني على الأقل.

المصالحة بطبيعتها عملية مختلفة تهدف الى إرساء علاقات تعتمد على الشرعية المتبادلة بين الطرفين. وتصبح الشرعية المطلقة والعلنية على أساس اجتماعي، هي ذروة العملية، صفة تعرِّف العلاقات بين الطرفين وحجر الزاوية للاعتراف المتبادل والأمن الحقيقي. من هنا فإنه على الرغم من أن المصالحة لا تنفي نشوء توتر، أو وقوع خلافات بين الطرفين مستقبلا، فإنها تشكل درعا في مواجهة إنقلاب في العلاقات أو وضع تصبح فيه شرعية الآخر موضع شك من جديد. بهذا المفهوم تضع المصالحة حدا للنزاع الوجودي بين الطرفين، لأن طابع العلاقات بين المجتمعين يتغير في عملية ترافقها تغييرات سياسية بنيوية واجتماعية وسيكيولوجية. ولا زالت حالة جنوب افريقيا تشكل مثالا ظاهرا للعيان، لعملية مصالحة ناجحة.

حتى تكون المصالحة حقيقية، تستند الى ركائز ثابتة، يجب معالجة اربعة قضايا رئيسية: العدل؛ الحقيقة؛ المسؤولية التاريخية؛ وهيكلة جديدة للعلاقات الاجتماعية والسياسية بين الطرفين.

اولا: المصطلح الذي يشكل المنظور الاساسي للمصالحة هو العدل، وهو محور مركزي في المصالحة، ولا يشكل اليوم جزءاً من الخطاب التطبيقي أو النظري لحل النزاعات. ومع أن حلول النزاعات الدولية لا تفتقر الى ضرائب الكلام حول العدل في سياق الاتفاقيات، لكن الواقع هو أن موازين القوى، وليس العدل، هي التي تحدد بشكل عام نتائج الاتفاقيات. وحتى أدبيات حلول النزاع نفسها وبضمنها ورشات حل النزاعات تعاني من النقص بالنسبة لكل ما يتعلق بالعدل. وما عدا إستثناءات قليلة نجد تجاهلا شبه مطلق لمسألة العدل .

تعتبر المصالحة مسألة العدل إطارا للعلاقات الجديدة بين الاطراف. وإن كان الادعاء القائل بأن العدل أمر صعب التعريف، لأنه غير ممكن أو أنه يمكن تحقيقه بثمن غبن جديد لا يزال قائما، إلا أنه لا يمكن لهذا الادعاء أن يبرر تجاهل الموضوع. بل إن بعض الأدبيات الجديدة المهتمة بالمصالحة تدرس مكانة العدل في العلاقات الجديدة، هل يمكن تحقيقه وكيف؟ وتقارن عدل التعويض (retributive justice) مقابل عدل التأهيل (restorative justice)، العدل المطلق مقابل العدل الممكن، وهل يمكن إصطلاح "نوع اخر" من العدل؟ إن تحقيق العدل هو أمر مركزي لعملية المصالحة وللوضع المنشود من المصالحة بين الجماعات المتنازعة.

ثانيا: تولي علية المصالحة أهمية خاصة للحقيقة التاريخية، وخصوصا الحقيقة المتعلقة بإلحاق الغبن. ومع أن أدبيات حل النزاعات تتهرب عن سابق قصد من معالجة القضايا المتعلقة بالحقائق التاريخية، بدعوى أنها موضع إختلاف شديد بين الاطراف، وعليه يجب الامتناع عن الخوض فيها، إلا أن الحقيقة هي أمر مركزي في المصالحة، وعلى الطرفين الإعتراف بها لضمان إستمرار العملية. وبالفعل تظهر كلمة الحقيقة في الأسماء الرسمية للجان التي انشغلت بالمصالحة. الإدعاء هنا أنه يجب تحقيق ماهية الحقيقة ونشرها على الملأ، وأن هناك طرق معقولة كثيرة تفي بالغرض. وفي هذا السياق فإن القول أن للمجموعات المختلفة حقائق مختلفة لا يستند الى أسس قوية .

تميز الأدبيات في هذا الخصوص بين ثلاث مستويات للحقيقة: "حقيقة التشخيص الجنائية" المتعلقة بالوقائع الراسخة لإنتهاكات حقوق الانسان، و"الحقيقة العاطفية" المتعلقة بالتأثيرات النفسية والجسدية على الضحايا، والحقيقة العامة التي تتطرق للتفسيرات الممكنة وللطرق الكثيرة المؤدية الى الوصول للحقيقة حتى عندما تكون آراء المجموعات المختلفة منقسمة على نفسها كما هو الحال في الجهد الطلائعي الذي تبذله لجنة المصالحة والحقيقة للبوسنة والهرسك. الهدف الحقيقي للجنة في هذه الحالة هو وضع تقرير تاريخي حول أعمال الغبن، عبر تشكيل لجنة حقيقة تضم في صفوفها أعضاء من جميع المجموعات الإثنية لخلق تاريخ متفق عليه.

ثالثا: من الضروري لعملية المصالحة أن يتفق الطرفان على تحديد المسؤولية التاريخية عن المّس بحقوق الانسان. على الطرف المتورط بالعنف الجسدي والثقافي على نطاق جماعي واسع، مثل إستعمار، احتلال، إبادة شعب، تطهير عرقي وإضطهاد بمباركة الدولة، أن يواجه بصورة لا لبس فيها مسؤوليته التاريخية ودوره في انتهاك حقوق الانسان. يجب الاعتراف بالانتهاكات التي وقعت في الماضي وتحمل المسؤولية عنها. في كثير من الأحيان تكون مهمة لجان الحقيقة منع النسيان (كما هو الحال في السلفادور وغواتيمالا). فقد ركزت لجنة توضيح التاريخ في غواتيمالا على سبيل المثال، عملها على مسؤولية المؤسسة وبضمنها مسؤولية الدولة والجيش والولايات المتحدة، فيما حمّلت لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب افريقيا نظام الابرتهايد المسؤولية..الخ. اذا وعلى الرغم من أن عملية فحص المسؤولية الخاصة في كل عملية من عمليات انتهاك حقوق الانسان والتعامل معها في الدول التي تعيش المرحلة الانتقالية، اختلفت من حالة لأخرى، إلا أن الاعتراف وتحمل المسؤولية كانا في صلب عمليات المصالحة في كافة الحالات.

تكتسب الحقيقة والمسؤولية التاريخية أهمية قصوى ليس فقط لأنها تعطي مصداقية لتجارب الضحايا، وإن كان هذا الامر ضروريا لشحن الضحايا بقدرة تخطيّ السيطرة والتنكيل، اذ أن لها أهمية حاسمة ايضا في تحديد الخطوات المطلوبة مستقبلا لإصلاح الغبن وتخطيط المستقبل وطمأنة الضحايا بأن الغبن الذي لحقهم في الماضي لن يتكرر.

رابعا: بعد تحديد المسؤولية التاريخية بوضوح، فإن عملية المصالحة مرهونة بتغيير سياسي وبنيوي يوجهه عدل ما (وليس موازين القوى، ولا الاتفاق المبرم في المفاوضات في المفهوم المتداول). وعليه فمن شأن التغييرات البنيوية والسياسية أن تكون درامية، تحددها المقايس العالمية للمساواة وكرامة الانسان، عبر تجاهل النتائج التي قد تنجم عن عملية إعادة البناء الهيكلي على الامتيازات التي اكتسبها منفذو الغبن على مر الزمن أو على امتيازات الهوية السائدة. وفي إطار عملية إعادة البناء من جديد، وعند تحديد مؤسسات سياسية وإجتماعية جديدة تُؤخذ بالحسبان أعمال الغبن التي وقعت في الماضي ونتائجها. ويتحول السلوك السياسي والمأسسة الجديدة، مع إعادة البناء المجدد ليصبح محور العلاقات المستقبلية بين الاطراف، على أن يتم تأسيسها على المساواة واحترام حقوق الانسان. تخلق عملية إعادة البناء المجدد الظروف التي تمكّن تحقيق الاحتياجات الانسانية، والتعايش باحترام، وتعاون بين مختلف الاطراف المتنازعة. يجب الانتباه الى أنه وفق هذا التحليل، ليس هناك ضرورة لتوفر المسامحة والعلاج كأسس لعملية المصالحة. إذا كان العدل والحقيقة وتحمل المسؤولية التاريخية عن أغبان الماضي، وإعادة الهيكلة السياسية مجددا أمورا ضرورية لعملية المصالحة يصبح إعتذار المعتدين جزءاً طبيعياً من العملية، من شأنه ان يسرِّعها ويعمّقها. لكن الامر ذاته لا ينطبق على مسألة المسامحة، إذ أنه ليس على المعتدي أن يتطلع الى الحصول عليه أو أن يقوم الضحية بعرضه. فهذا هو عامل شخصي في عملية المصالحة، يحق لأفراد مختلفين في كل طرف التعامل معه كل وفق إختياره بدون إكراه من تعليمات دينية ومراسم اجتماعية. وكذلك يصبح العلاج عملية اجتماعية وعملية شخصية نتيجة للتغيير البنيوي والثقافي وليس بديلا عنه. ويكتسب العلاج معناه الحقيقي في العلاقات بين المجموعات من تغييرات سياسية كهذه. لا أنوي القول هنا بأن العمل الفردي مع الضحايا التي مرت بتجارب هدامة ليس مهما، بل هو مهم ولكن السياق الاجتماعي الاوسع للعلاج، يتحقق عبر إسراء مفعول الحقيقة الجماعية وتحديد مسؤولية المعتدين، فيما يتحقق العلاج الفردي للاشخاص بواسطة العلاج في عيادات أصحاب الاختصاص الذين تأهلوا للعمل مع أفراد معنيين بذلك. التركيز على العلاج الفردي بدون معالجة السياق الاجتماعي والسياسي الأوسع ليس إلا إضاعة للهدف يصبح من نصيب أولئك الذين يسمحون لأنفسهم بالتنكر والتهرب وتجاهل الحاجة الى التغيير السياسي وأبعاده الاجتماعية.

تقود كافة المركبات الاربع المشروحة أعلاه- عدل، حقيقة تاريخية، تقبل عبء المسؤولية التاريخية، وإعادة الهيكلة السياسية والاجتماعية من جديد- الاطراف الى نوع من العلاقات، حاول تحقيقه رواد حل النزاعات الذين طوروا عملهم في سياق الحرب الباردة، حيث سادت النزاعات بين الدول. لكن هؤلاء الرواد تجاهلوا الحاجة للمركبات الاربعة المذكورة أعلاه حين استهدفوا الوصول الى علاقات متبادلة بين أطراف النزاع تعتمد على الاعتراف والثقة والشرعية وتحقيق الامن الوجودي المرتكز الى الاعتراف بأن الوجود الجماعي للطرفين ليس موضع شك من جديد. كذلك عندما يكون النزاع داخل الدولة نفسها، حيث تتحول منطقة جغرافية معينة لمحور الهوية لكلا الطرفين ويكون أحد الطرفين أو كلاهما متورطاً في الغبن التاريخي لا يمكن تحقيق مصالحة صادقة بين الطرفين قبل المرور بالعمليات المذكورة أعلاه.

ليس صحيحا أنه يتعين على الطرفين في كل نزاع تحقيق المصالحة. فوفقا لنوع النزاع ونوع العلاقات المنشودة يمكن للطرفين السعي الى تسوية النزاع، حل النزاع أو المصالحة. من شأن تسوية النزاع ترسيخ نوع من علاقات العمل بين الدول التي لايكون النزاع بينها اجتماعيا، وانما نزاع تكون جذوره في جملة من الخلافات في الرأي، كالخلافات حول الحدود أو خلاف على مصادر المياه أو الشروط المناسبة لاتفاق تجاري. ويعطي أدب الوساطة الدولية أمثله عديدة على تسويات لنزاعات كهذه. حل النزاعات يلائم أكثر في الحالات التي تكون فيها النزاعات بين المجتمعات نفسها كما في النزاعات الاجتماعية المستمرة أو ما يسمى أحيانا بنزاعات الهوية حيث يجب معالجة حاجات الهوية، والاعتراف، والأمن للطرفين للتوصل الى حل. اما في النزاعات التي إنشغل طرفاها في الماضي بالحاق الضرر والغبن التاريخي، من الممكن أن تصل الى نقطة "انهاء النزاع" بين المجتمعات في طرفي النزاع فقط عبر عملية مصالحة مرهونة بالمركبات المذكورة أعلاه.


* العوامل المؤثرة على انخراط الاطراف في المصالحة

يرتبط الاستعداد للإنخراط في عملية المصالحة بعدة عوامل تحدد مدى إهتمام كل طرف من الاطراف بمحاولة المصالحة. ولعل العامل الأكثر أهمية هو ميزان القوى بين الطرفين، ومدى عدم التكافؤ في القوة. بالنسبة لكل طرف وبحسب موقعه في شبكة موازين القوى، فإن المصالحة تحوي بداخلها مخاطر مختلفة تتمثل بتهديد الهوية القومية ولحمة الرواية القومية وبإعادة البناء الهيكلي سياسيا وبخسارة سياسية ثابته. وتكون المخاطر التي تهدد المجموعة الأقوى أكبر لأن تصحيح الغبن من حيث مجرد تعريفه مرهون بزعزعة الوضع القائم وإنهاء سيطرة المعتدين. من هنا فإن تكاليف مثل هذه العملية ليست متوازية هي الأخرى، ولكن بصورة معكوسة، فالمجموعة متفوقة القوة تدفع ثمنا أكبر من المجموعة صاحبة القوة الأضعف. لذلك تحاول المجموعة الأقوى الإمتناع عن خوض عملية كهذه، فيما تفتقر المجموعة الأضعف، حتى عندما تكون معنية بذلك، الى الوسائل اللازمة لفرض المصالحة. عامل حاسم آخر في المصالحة هو إمكانية إصلاح الغبن وماهية الآثار المترتبة على ذلك على الطرف المسيطر. اذ لايمكن إعادة رجل قتل الى الحياة ولكن غبن سرقة بيت وهدم بيت قابلة للاصلاح عبر إعادة البيت المسروق لاصحابه وإعادة بناء البيت المهدوم من جديد. على الصعيد الجماعي فإن محو مجموعة إثنية هو أمر لا يمكن إصلاحه ولكن الطرد والتطهير العرقي من خلال الطرد الجماعي، يمكن إصلاحه. ويبدو أن تقبل المسؤولية عن الحالات التي يمكن تصحيح الغبن فيها ولو جزئيا كما في حالة وجود مجموعة إثنية تطالب بالعودة أصعب من الحالات التي لا يمكن فيها إصلاح الغبن الواقع كما في حالات الجماعات الإثنية التي أبيدت أو كادت تُباد. وتكون المصالحة أصعب بطبيعة الحال في الحالة الاولى بسبب الإنعكاسات المترتبة على إلقاء المسؤولية على المعتدين. ومن شأن هذه الانعكاسات على المعتدين أن تكون سياسية (بالمفهوم الواسع، وبضمن ذلك القضائي) وسيكيولوجية. في حالات التطهير العرقي كما في يوغسلافيا السابقة، قد تصل هذه الإنعكاسات الى حد تقاسم السلطة، وتغييرات سياسية وإعادة لاجئين. وعادةً تُأطّر المجموعة المعتدية هذه النتائج، في محاولة لتفاديها، في مفاهيم التهديد الوجودي على الهوية والأمن القومي. اما في الحالات التي تُباد فيها مجموعة إثنية أو يتقلص عددها، كما في حالة السكان الأصليين الاميريكيين، فإن تحمل المسؤولية ليس مرهونا بدفع ثمن مشابه.

الإنعكاسات السيكيولوجية للغبن القابل للاصلاح أشّد خطورة ايضا. ففي حالة عدم إستعداد المعتدين إصلاح الغبن القابل للاصلاح، سيكون للاعتراف بالغبن آثار سيكيولوجية واضحة على الهوية القومية وعلى لُحمة الرواية القومية وعلى الاساطير التاريخية والتصّور الذاتي. وعندما يكون الغبن مثل إبادة شعب غير قابل للاصلاح، فإن المعتدين لن يعترفوا بالجرم ولن يتحملوا المسؤولية التاريخية ما لم يُفرض ذلك عليهم. فلا زالت تركيا حتى يومنا هذا ورغم مرور85 عاما تتنكر مجتمعا ودولة لقتل الشعب الأرمني.

عامل آخر هو وضوح الغبن والقضايا الاخلاقية المتعلقة بالنزاع. إن أهمية المُركبات الأخلاقي حتى لو تم التقليل منها في العلاقات الدولية، كبيرة الى أبعد حد بالنسبة للطرف الذي وقع عليه الغبن. فحتى يتم دفع الطرف المعتدي الى دخول عملية المصالحة يجب أن يكون الإدعاء الاخلاقي واضحا ليس فقط للضحية وانما ايضا للمجتمع الدولي. يقوم الطرف الاقوى بتطوير مجموعة متماسكة من شبكات وآليات الدفاع النفسية ضد الحجج الأخلاقية، ويكون أفراده اخر من يمكن إقناعهم بإدعاءات ضحاياهم. فبدون الدعم الدولي للحجة الاخلاقية للطرف الادنى قوة، يفقد هذا الطرف أحد الوسائل القليلة المتوفرة لديه لتصحيح ميزان القوى المختل. ويرافق ضعف القوة عادة قدرة أقل على الوصول الى وسائل الإعلام الدولية وقلة في الموارد المادية والبشرية التي يمكن توظيفها في العلاقات العامة. وعليه يكون الطرف الاقوى حرا في التلويح بروايته للنزاع ك"حقيقة ناجزة". وتلجأ المجموعة الأضعف في أحيان كثيرة الى الارهاب، سلاح الضعفاء، للاحتجاج على الغبن أمام المجتمع الدولي. ولكن ذلك يؤدي وبصورة متناقضة الى إسدال ستار من الضباب على وضوح الادعاء الاخلاقي. فكم كان واضحا مثلا الادعاء الاخلاقي للكونغرس الوطني الافريقي (ANC) في جنوب افريقيا ضد نظام التفرقة العنصرية "الابرتهايد" للمجتمع الدولي، مقابل البلبة التي ترافق إدعاء "التاميل" في سيريلنكا، أو إدعاء الفلسطينيين ضد المشروع الكولونيالي الاسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة (ناهيك عن الحديث عن المشروع الكولونيالي الاصلي). فبمقدور الموقف الاخلاقي للمجتمع الدولي ضد الغبن أن يشكل ضغطا جوهريا على المجموعة المتفوقة القوة للانخراط في المصالحة.

وأخيراً، يمكن لصعود جيل جديد، ناشىء في المجموعة الحاكمة، جيل لم يرتكب الغبن الأصلي لكنه يقطف ثماره، أن يزيد من إستعداد المجموعة الاقوى لدفع ثمن المصالحة، ربما لان ذرية المعتدين لا تحمل نفس العبء النفسي الذي يحمله آباؤهم. صحيح أن هذا العبء لايختفي، إلا أنه يكون أقل وطأة من عبء منفذي الغبن الفعليين. وكلما مر وقت أطول يكون أسهل على الاجيال الناشئة مواجهة المسؤولية التاريخية، إلا اذا كان هذا الغبن مشروعا متواصلا تشارك فيه الاجيال الناشئة بصورة متجذرة، وإن كانت غير مباشرة كالاستعمار المستمر.

يمكن الإجمال والقول أن إحتمالات إنشغال الطرف الأقوى في عملية المصالحة وقبوله دفع الثمن السياسي والنفسي تزداد كلما قلت الانعكاسات النفسية والسياسية لاصلاح الغبن، وكلما كانت الحجة الاخلاقية للضحايا أكثر وضوحا، وكلما كان التأييد الدولي لهدفه اكبر، وايضا كلما زاد الفاصل الزمني عن تاريخ تنفيذ الغبن.


* نماذج تاريخية في المصالحة

يمكن أن نجد في التجارب التاريخية القائمة للمصالحات أربعة نماذج أساسية قبل فيها المعتدون أو أرغموا على مواجهة المسؤولية على الظلم التاريخي. لكن أيَّا من هذه الحالات، التي سنوردها بإختصار فيما يلي، لا ينطبق على حالة يكون فيها إختلال قصوي في موازين القوى لصالح الطرف المعتدي.

اولا: تصبح المصالحة ممكنة عندما تَهزم قوة خارجية أو داخلية جهاز المعتدي، وتقيم نظاما ديموقراطيا (هزيمة المانيا في الحرب العالمية الثانية، أو انهيار النظام في رومانيا في عصر ما بعد الشيوعية). تجب الاشارة هنا الى أن إلحاق الهزيمة بدون تغيير النظام القائم ليست كافية (كما في حالة يوغسلافيا المهزومة بقيادة ميلوسوفيتش، او العراق المهزومة بقيادة صدام حسين). وكذلك الأمر فإن إنهيار نظام وإبداله بنظام ديموقراطي ليس كافيا. يجب أن تهزم المؤسسة لاسباب تتضمن موضوع غياب العدل ايضا.

ثانيا: تصبح المصالحة ممكنة عندما يواجه نظاما مضطهدا هزيمة حتمية قادمة، عبر إجراء تغيير سياسي واجتماعي جذري (جنوب افريقيا على سبيل المثال). ففي هذه الحالة توصّل النظام الجائر الى استنتاج، بأنه قد ينهار وقد تتضرر مصالح المجموعة الحاكمة بشكل لا مجال لاصلاحه، اذا لم تجر التغييرات الجذرية المترتبة على المصالحة.

ثالثا: تكون المصالحة ممكنة عندما يُباد الطرف الضعيف أو يُقلّص الى وضع لا يستطيع فيه أن يهدد بصورة ملموسة النظام الاجتماعي والسياسي القائم (كما في حالة السكان الاصليين في اميريكا وكندا واستراليا). ففي حالة كهذه يكون ثمن المصالحة الذي تدفعه المجموعة القوية منخفض جدا لأن التغييرات في لحمة الرواية القومية لا تُلزم بالضرورة إعادة هيكلة البناء السياسي بصورة ملموسة، اذ لا يُطلب من نخب المجوعة القوية التي تقود التغييرات وتضع المعايير أن تتنازل عن شيء من الأرباح التي كسبتها على حساب أولئك الذين أبيدوا أو قُلِصّوا عددا. وتقوم الاجيال الجديدة (وليس الاجيال التي ألحقت الغبن) بتبني القيم والمعاييرالجديدة مقابل تطهير ذاتها نفسيا بثمن زهيد.

رابعا: تتطور ظروف المصالحة التاريخية تدريجيا في نظام ديموقراطي ألحق غبنا بمجموعات عرقية أو إثنية، تعيش داخل نفوذ منطقة السيادة التابعة له. وتتكوّن هذه الظروف عادة بفعل نضال الضحايا لتمثيل متساوٍ داخل الجهاز نفسه. الظلم التاريخي المتمثل بالعبودية داخل الديموقراطية الغربية الاكبر لم يصل أبدا الى موضع مصالحة مطلقة، ولو من منظور ذرية العبيد على الاقل. فقد نضجت ظروف المصالحة تدريجيا من خلال عملية طويلة غيّرت ملامح المجتمع والدولة الاميريكية، ومكان المجموعة الافريقية-الاميريكية فيها. ومع ذلك فإن الجدل حول الإعتذار للمجموعة الافريقة-الاميريكية، والتعويض المناسب على الخسائر المادية والسيكيلوجية التي تكبدوها لم يبدأ إلا الآن، أي بعد مرور 150 عاما على النهاية "السياسية" الرسمية للعبودية.

تشتمل الحالة الاسرائيلية –الفلسطينية على بعض الخطوط المشابهة للنموذجين الثاني والرابع. على أية حال، هنالك فروق هائلة، تضع الحالة الاسرائيلية- الفلسطينية خارج كل واحد من النماذج المذكورة أعلاه، وتسهم في إشكالية التحليل والتحدي الكامن في التفكير في سبل الوصول الى مصالحة صادقة.


* المصالحة الاسرائيلية –الفلسطينية

تطرق تحليلي حتى الآن الى المصالحة باعتبارها عملية وحالة منشودة. وكعملية فالمصالحة مرهونة بأن يعترف طرفا النزاع الذي تخللته انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان (مثل إبادة شعب والمذابح واعمال القتل والتطهير العرقي ومصادرة الاملاك والاحتلال) بالحقائق التاريخية بشأن هذه الإنتهاكات، وأن يقرّا بمسؤولية الطرف المعتدي. وترتبط هذه العملية بإعادة البناء من جديد اجتماعياً وسياسياً بحيث تقود الى تسوية سياسية يتحدد وفقها إطاراً جديداً، يهدف الى إصلاح الغبن الواقع في الماضي، ويضمن المساواة وحقوق الانسان لكافة المجموعات والافراد. وكحالة منشودة تعني المصالحة - توصُّل الطرفين الى إعتراف متبادل وإتفاقية سلام يعتبرها الطرفان عادلة الى حد معقول، وتعامل جدِّي مع جذور النزاع، يؤدي الى إنهاء النزاع بينهما. وعليه يوافق الطرفان على العمل للوصول الى مستقبل سلمي عبر تعاون إجتماعي .

هناك عائق حقيقي في تطبيق هذا التحليل على النزاعات المستمرة في حالات من عدم الإتزان الفظ في موازين القوى كما في النزاع الاسرائيلي الفلسطيني. وتنبع الصعوبات من الفرق الهائل بين الحالات التي جرت فيها محاولات لتحقيق مصالحة، وبين نزاعات مستمرة يجد فيها الطرف الأقوى بإستمرار محفزّات سلبية تحول دون الإنخراط في عملية كهذه، فيما لا يستطيع الطرف الاضعف أن يفرض إطارا من المصالحة على سبل النزاع أو حتى على خطاب تحليل النزاع.

عندما تتشكل لجان الحقيقة والمصالحة لتتقصى الاعمال التي ارتكبها أحد الاطراف في الماضي أو عندما يقدِّم أحد طرفي النزاع إعتذاراً فإن المعنى الواضح لمجرد هذه الاعمال أنّ الطرف الذي كان متورطا في انتهاك حقوق الانسان تم وصمه محلياً ودولياً بإعتباره المسؤول عن الانتهاكات. إلقاء مسؤولية واضحة و/أو الإعتذار يتمان عندما تكون هوية المضطهِد والمضطهَد، المعتدي والضحية، واضحة.

في المقابل، في النزاعات المستمرّة طويلا، وبضمنها النزاع الاسرائيلي-الفلسطيني، فإن الطرف الأقوى يتنكّر لدوره في أعمال الغبن التاريخية، ولدوره كمنفذ انتهاكات حقوق الانسان وتتنكر هذه الأطراف في أحيان كثيرة لمجرد عدم المساواة في موازين القوى. بل إنها في أحيان كثيرة تنظر الى موازين القوى على أنها عكسية. في مثل هذه النزاعات، من شأن دراسة عملية المصالحة بدون الأخذ بالحسبان لموازين القوى، أو عبر الافتراض خطأً أن موازين القوى بين الطرفين متكافئة، أن تؤدي الى استنتاجات خاطئة. وفي أحيان كثيرة، وسواء تحت غطاء الحياد أو بسبب عدم الانتباه البسيط الى دور عدم التكافؤ في موازين القوى يتم تحليل نزاعات دون الأخذ بالحسبان عدم التكافؤ في موازين القوى أو الهوية الجماعية للاطراف، التي يتأثر تبلورها الى حد كبير بالسيطرة والقوة والعنف والمقاومة.

يجب أن تشكل موازين القوى القائمة نقطة إنطلاق لكل تحليل لعملية المصالحة لأنه تكمن بداخلها حقيقة الواقع للحاكم والمحكوم، المضطهِد والمضطهَد، المطهِر العرقي والمطهَر عرقيا. هذا الواقع في إختلال موازين القوى، هو الذي يحدد التجربة الإنسانية لأعضاء المجموعات في النزاع، والأساس السيكيولوجي لتجاربهم. ويحدد أيضاً سياق العنف المتبادل، وأسسه الاخلاقية، العدل كما يراه كل طرف، معنى المصالحة، والأهم من ذلك يحدد إستحقاقات المصالحة الحقيقية بين الاطراف. وحتى أكثر العمليات عمقا في تدرجها، والتي تعتبر متوازية في النزاع، مثل التنكر المتبادل للآخر أو القوالب السلبية المتبادلة، تكون مختلفة في طبيعتها في النزاعات غير المتكافئة. فهناك معنى مختلف، عند طرفي نزاع غير متكافئ، لأمور مثل الحاجة بالاعتراف، بالأمن، بالهوية وغيرها، لأنها ناجمة عن تجارب جماعية مختلفة بشكل حاد، وبسبب علاقات مختلفة عند الطرفين، تجاه المجموعة الأخرى. إن تحليل الحالة بصورة متكافئة ينقض المركبات الأساسية لعملية المصالحة ذاتها: تحقيق العدل؛ الحقيقة؛ المسؤولية التاريخية؛ والتغيير السياسي.

سأتناول فيما تبقى من هذا المقال الحالة الاسرائيلية-الفلسطينية وسأفحص مركبات المصالحة الأساسية التي شخصتها أعلاه: عدل؛ حقيقة؛ مسؤولية تاريخية وتغيير سياسي، في سياق موازين قوى غير متساوية، وسأقوم بتشخيص شروط المصالحة، وأناقش فرصها.


* الحقيقة والمسؤولية التاريخية في الحالة الاسرائيلية –الفلسطينية

تجاهل أسلوب حل النزاعات الجدل حول الحقائق التاريخية، والمسؤولية التاريخية بدعوى أنه ليس معقولا التوصل الى حل للخلافات في الرأي حول هذه القضايا في النقاش، وأن الطرفين حساسين جدا لهذه القضايا، بدعوى أن مثل هذه المناقشات من شأنها فقط أن تعمق من الاحساس بأن النزاع غير قابل للحل. ويستند هذا الادعاء الى الفرضية القائلة بأن لكل طرف في النزاع روايته الخاصة به، ورؤيته الخاصة للتاريخ، وإحساس قوي بأنه هو نفسه الضحية. كذلك يقوم كل طرف بدمج الحقائق التاريخية في رواية النزاع المتوفرة لديه، وعليه فستؤدي مناقشة الحقائق التاريخية فقط الى صدامات بين روايات مختلفة لايمكن حلها، بل العكس ستزيد الإحساس بالفروق وتبقي الاطراف محبطة.

هذا إدعاء له قيمته. مع ذلك فإن حقيقة إحتفاظ الطرفين برواية خاصة، وإحتفاظ كل منهما بإحساس قوي بأنه الضحية، ليس من شأنها أن تبرر القول بأن الروايتين صالحتين بنفس الدرجة أو شرعيتين بنفس الدرجة. يجب فحص هاتين الروايتين بما في ذلك الإحساس بالضحية في سياق موازين القوى غير المتساوية. فمثلا كان للبيض في جنوب افريقيا روايتهم الخاصة بهم، وشعروا بأنهم هم أيضا ضحايا وذلك في الوقت الذي واصلوا فيه إنتهاج أحد أكثر النظم السياسية إجحافاً وقهراً في التاريخ الحديث. وعلى غرار ذلك يشعر المستوطنون الجمهوريون في ايرلندا الشمالية والصرب في البوسنة، الذين إنتهكوا حقوق الانسان بفظاعة، بأنهم مهددون وضحايا، وهم يقومون ببناء رواية تبرر سلوكهم. صحيح أن رواية كل منهما حقيقية لحامليها، ولكن رواية الضحية ورواية المعتدي لا يمكن ان يأخذا نفس الوزن الاخلاقي. فقد تكون هذه الرواية، مبدئيا، مبنِيَّة على التشويه، والأساطير والإنكار. جميع هذه المواضيع لها شرعية الدراسة والمناقشة وخصوصا في سياق، الإحتلال، والسيطرة والإستغلال. انا أدّعي أن الفشل المدوي لخطوات السلام في الصراع العربي الإسرائيلي يكمن في غياب الإعتراف بحقائق أساسية، وبالمسؤولية التاريخية. والى أن يقف الطرفان في مواجهة هذه الحقيقة فلن يمّكن غياب التوازن الحالي بين قوى الطرفين إجراء مصالحة لأن رواية الصراع لدى كل واحد من الطرفين والتي توجه سلوك كل طرف، لا تمَّكن إتخاذ خطوات سياسية تقود نحو التقدم الى حلول. ولكن بسبب كون موازين القوى غير متكافئة، سيكون لكل طرف عبء تاريخي، يختلف في الكم والنوع، لمواجهته، وسيكون العبء الاكبر هو العبء الاسرائيلي.

تتطلب المصالحة من الاسرائيليين الاعتراف اولا بحقيقة تاريخية بسيطة: عندما بدأ المشروع الصهيوني في المرحلة المفصلية في القرن التاسع عشر، كانت فلسطين وفيها شعب يعيش (أو مجموعة في طريق تكوِّنها الى شعب كمعظم مجموعات المنطقة). وبإعتبارهم المجموعة الأصلية فقد كانت فلسطين وطنهم بحق. اذا كان الامر كذلك، فقد سعت الصهيونية الى إقامة دولة لليهود فقط في فلسطين فيما كانت مجموعة أخرى من الناس تعيش فيها. لقد كان تحقيق هذا الهدف ممكنا فقط بواسطة القوة لأن بناء دولة يهودية في فلسطين كان مرهونا بالضرورة بإقتلاع السكان الأصليين. وإلا كيف كان بمقدور مهاجرين وصلوا من مناطق بعيدة وغريبة من شتى أنحاء العالم إقامة دولة خاصة بهم في وطن شعب آخر. زيادة على ذلك كيف كان يمكن إقامة دولة يهودية خالصة في فلسطين بدون إقتلاع الفلسطينين من مكانهم أي تحويلهم الى لاجئين؟ أقتُلِع الفلسطينيون سواء لإعتبارهم محتلين في أرضهم وأجانب وغرباء، وسواء لأنه تم إعتبارهم مواطنين غير قانونيين في الدولة اليهودية المستقبلية، أو باسم حق أسمى على البلاد أعطي للشعب اليهودي من الله. هذا الادراك لم يلائم المشروع الصهيوني فحسب، بل كان شرطا أوليا لتحقيقه. مسؤولية اسرائيل عن ضائقة اللاجئين التي يمكن تتبع جذورها حتى ذلك الإدراك المُوّجه هي المسؤولية التي يتعين على اسرائيل تحملها. تخبرنا الرواية الاسرائيلية المركزية أن الدول العربية باشرت الحرب ضد اسرائيل عام 48، وأن اللاجئين فروا بمحض إرادتهم. بهذه الطريقة ترفض اسرائيل تحمل مسؤولية أخلاقية لمشكلة اللاجئين (ولذلك لم تقطع المفاوضات في كامب ديفد شوطا بعيداً). ولكن حتى لو غادر اللاجئون بمحض إرادتهم، لماذا لم يُسمح لهم بالعودة؟ ما هو الأساس الاخلاقي الذي يمنع عودتهم الى وطنهم على الرغم من قرارات الأمم المتحدة المتكررة المؤيدة لعودتهم. صحيح ان هناك مؤرخين إسرائيلين يصفون طرد الفلسطينين بإعتباره مشروع تطهير عرقي ولكن وعلى الرغم من أهمية الجدل الدائر في اسرائيل حول عدد الفلسطينيين الذين طردوا وعدد الفلسطينيين الذين غادروا من هول الحرب، على الرغم من أهمية هذا الجدل، إلا أنه لا يجب أن يؤثر على حقهم الأساسي في العودة الى وطنهم ولا الى مسؤولية اسرائيل عن ضائقتهم. السؤال مهم فقط من حيث علاقته بطبيعة المسؤولية التي على اسرائيل تحملها، وليس بسبب علاقته بحقهم الاساسي بالعودة.

لمواجهة هذه القضايا، إنعكاسات أخلاقية وقضائية وسياسية مهمة بالنسبة لاسرائيل ولجوهر الهوية الاسرائيلية. وحتى تتفادى هذه الانعكاسات الاخلاقية، طورت اسرائيل جهازا متشعبا ومتطوراً من وسائل الإنكار والتبرير متعدد المستويات للتعايش مع تاريخها. اذ تضطر اسرائيل الى التنكر سواء للوسائل التي تمت بواسطتها إقامة الدولة اليهودية على وطن شعب آخر أو لنتائج إقامتها على الشعب الفلسطيني.

إضافة لذلك، كان على اسرائيل، على مر السنين، تذويت ثقافة تعتمد القوة والسيطرة. إحتلال الضفة الغربية وغزة عام 67، ومشروع الاستيطان اليهودي المستمر في هذه المناطق واستمرار الاحتلال تحققت مرة أخرى بواسطة القوة المفرطة وسط قمع وإنتهاك حقوق الانسان بفظاظة. وأصبحت هذه العملية المستمرة جزءاً لا يتجزء من علاقات اسرائيلين كثيرين مع الفلسطينيين، وربما جزء من هويتهم المجردة لأن وجودهم الجماعي أصبح يعرَّف بواسطة القوة الممارسة ضد الآخر– الآخر الأكثر أهمية في تجربتهم الجماعية الحديثة. إن نظرتهم الى الفلسطينين وكذلك الحال بالنسبة لنظرتهم تجاه أنفسهم تتحدد بواسطة السيطرة بفعل القوة والتبرير المشوِّه الناجم عنها. من هنا فإن اسرائيل عندما تفاوض الفلسطينيين فهي لا ترى بهم المجموعة السكانية الأصلية لفلسطين، صاحبة الحقوق الطبيعية في وطنها، والتي يجب التوصل معها الى تسوية تاريخية. بل إن اسرائيلين كثيرين يعتبرونهم غرباء معادين وخطرين يجب ابعادهم وفصلهم عن الدولة اليهودية. وهم يشعرون أن أي تنازل تقدمه اسرائيل هو تحصيل حاصل لكرمها ولذلك يجب قبوله بعرفان. وهذا منطق نابع من مكانتهم كمسيطرين وكمقتلعين لأصحاب الوطن. هذا هو بالضبط المنطق الذي يجب رفضه من الاساس قبل أن يكون ممكنا التفكير جديا بالمصالحة.

الفلسطينيون ايضا سيضطرون الى إجراء حساب تاريخي مع الذات، ولكن بطريقة أخرى. فللمحكومين عبء ثقيل، لكن طبيعته تختلف. لقد عارض الفلسطينيون المشروع الصهيوني، الذي كان هدفه العلني، السيطرة على وطنهم. رفض الفلسطينيون باستمرار ولا زالوا يرفضون اليوم ايضا الاعتراف بالمطلب الصهيوني في الحق بإقامة وطن يهودي في فلسطين. لذلك رفضوا عام 47 قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين وإقامة دولتين فيها، واحدة يهودية وواحدة عربية. وقد خسر الفلسطينيون في الحرب التي إندلعت عام 48 مع القوات اليهودية وخسروا ايضا كامل وطنهم بعد أن إحتل الاسرائيليون الضفة الغربية وقطاع غزة عام67. نشأت حركة المقاومة بين الفلسطينيين في المناطق المحتلة، ولكنهم شاركوا أساسا في المقاومة التي جاءت من خارج الحدود. في عام 87 بدوءا انتفاضة شعبية استمرت عدة سنين. لايوجد أدنى شك أن الفلسطينيين استخدموا على مر السنين تكتيك الارهاب. يجب فحص ودراسة هذه التكتيكات ليس فقط وفق انجازاتها التكتيكية أو الاستيراتيجية، وانما ايضا وفقا لمقاييس اخلاقية. خلال هذه العملية تنكر الفلسطينيون لوجود اسرائيل على مدار زمن طويل وحتى سنوات الستين من القرن العشرين استخدم بعضهم تعابير متطرفة مثل "القضاء على اسرائيل". وحتى سنوات الثمانيين من القرن العشرين أنكر الفلسطينيون حق اسرائيل في الوجود، ورفضوا الاعتراف بها. صحيح أن الفلسطينيين يعترفون الآن باسرائيل، لكنهم يرفضون جوهر الصهيونية: بأن للشعب اليهودي الحق باقامة دولة يهودية في فلسطين.

الحقائق التاريخية والمسؤولية التاريخية التي يتوجب على الفلسطينين الاعتراف بها تجاه اسرائيل، هي أسهل بكثير. سيتعين على الفلسطينيين أن يواجهوا حقيقة استخدام دلالات بلاغية متطرفة واستخدام الارهاب، وإن كان يجب تعريف الارهاب في إطار يتلائم وموازين القوى بحيث لا يتم تصنيف مقاومة المحكومين الشرعية للاحتلال، والعمليات التي يعبرون بواسطتها عن إرادتهم كارهاب. لكن الفلسطينيين لا يعترفون بحق شعب آخر، أيا كان، بإقامة دولة في وطنهم. هذا الرفض ليس نفيا بل هو رفض لإمكانية منح وطنهم لمجموعة أخرى أرادته لنفسها فقط، ورفض لنفي ذاتهم. الحقيقة المرة التي يتعين على الفلسطينيين مواجهتها هي حقيقة من نوع اخر: الحقيقة التاريخية هي أنه على جزء كبير من وطنهم تقوم اليوم ليس دولة فقط وانما أمة تبلورت على مدار أكثر من خمسين عام منذ أقيمت اسرائيل وطورت كل رموز كونها أمة. زد على ذلك أنه سيتعين عليهم الاعتراف ليس فقط بالواقع القائم وانما الاعتراف بحق الشعب اليهودي الاسرائيلي وإن كان هذا الحق أكتسب بفعل القوة. يختلف هذا الامر عن الاعتراف بالحق الاخلاقي أو القانوني للشعب اليهودي ببناء وطن قومي في فلسطين منذ البداية – الذي يوازي الاعتراف بالصهيونية نفسها. مطالبة الفلسطينيين أو توقع إعترافهم بحق كهذا هو أمر مشكوك فيه أخلاقيا على الأقل لأنه ينطوي على مطالبتهم بنفي ذاتهم. (لا يكفي من وجهة النظر الفلسطينية حصر أسباب رفض الصهيونية بمسألة نفي الذات لأن معنى ذلك أنه من المقبول أن يعتبر الآخرون الصهيونية شرعية اذا لم تهددهم بنفي الذات.)

على الرغم من كل ذلك فإن انعكاسات المصالحة على الفلسطينين خطيرة جدا. فالشرط المسبق والأصعب، هو الاعتراف بحق الشعب اليهودي الاسرائيلي – وهو حق مكتسب. وسيكون على الفلسطينيين التمييز بين رفضهم لقبول الصهيونية (أي، الادعاء بحق اليهود باقامة دولة في فلسطين) وبين الحق المكتسب للاسرائيليين اليهود –وليس الشعب اليهودي – بحق تقرير المصير.


* العدل والتغيير السياسي

يرتبط بروز أهمية العدل لأطراف النزاع ارتباطا وثيقا بميزان القوى فيما بينهم وفي مسألة وجود أحد الطرفين في الجانب المتلقي للغبن. ويكون الانسان أكثر إدراكا لأهمية العدل اذا كان هو أو افراد جماعته ضحايا الظلم. وبما أن المجموعات الاقوى صاحبة الاحتمال الاكبر بأن تكون منفذة عمليات الظلم مثل التطهير العرقي وإبادة شعب والاستعمار والاحتلال، فإنها ستكون أقل إهتماما بطرح قضايا العدل، بسبب إنعكاساتها الاخلاقية والعملية. يصبح الغبن جزءا من كل نزاع مستمر يمر أحيانا كثيرة بمراحل من العنف الشديد والتحولات الهدامة التي يتورط خلالها الجانبان باعمال غبن وعنف. ولكن يجب تذكر الفرق بين اعمال الظلم التي هي من أسس النزاع، مثل التطهير العرقي أو الكولونيالية التي نفذتها المجموعات الاقوى وبين اعمال الظلم التي قامت بها المجموعة الاضعف نتيجة لهذه الاعمال أو ردا عليها. إن مساواة هذين النوعين من الاعمال مشكوك فيها اخلاقيا ونظريا. فاذا كان هذان النوعان من الاعمال متساويان، فسيواجه الطرفان نفس الصعوبة في مواجهتها كجزء من عملية المصالحة. لكن الامر ليس كذلك، فالظلم الذي سببته المجموعة الاضعف يكون مُبرَرا عادة باعتباره دفاعا عن النفس، نتيجة للظلم التاريخي الذي سببته المجموعة الاقوى وردا عليه. ويتم بلورته في الوعي الجماعي بإعتباره مقاومة تعترف بها المجموعة علنا وتفاخر فيها عادة. ويكون أسهل على المجموعة مواجهة غبن كهذا، والاعتذار عن المبالغات التي وقعت في إطاره والاعتذار عن الألم الذي سببه للآخر. ليس هذا هو الحال مع المجموعة الاقوى. لأن مواجهة نتائج الظلم التاريخي تصبح جزءاً عضوياً من تصورها الذاتي وهويتها-عن وعي أو بدونه-كإضطهاد وسيطرة ولأن من شأن تحمل مسؤولية ذلك أن يكون مرهون بدفع ثمن أخلاقي وإقتصادي وسياسي باهظ. لا تملك المجموعة الاقوى أي محفز يدفعها لمواجهة الظلم التاريخي أو القبول بإدخال عناصر من خطاب العدل لحل النزاع دوليا. ليس صدفة غياب العدل من الجانب النظري والتطبيقي لحل النزاع لأن المجموعات الأقوى هي عادة التي تُنظر وتطبق النظريات.

لا يشذ النزاع الاسرائيلي- الفلسطيني عن هذه القاعدة. فمن وجهة النظر الفلسطينينة، فإن الظلم قائم في صلب النزاع وعليه فإن تحقيق نوع من العدل هو أمر مركزي لحل النزاع، سواء عُرِّف هذا العدل بالتزام القانون الدولي أو تم تعريفه وفق مقاييس عالمية أخرى. ويؤكد الفلسطينينون والعرب عموما أن "سلاما عادلا ودائما" هو هدف العملية السلمية بين الاسرائيلين والفلسطينيين. على عكس ذلك تماما يرفض الخطاب السائد في اسرائيل كليا مسألة العدل أو الظلم تجاه الفلسطينيين ويبرز الأمن والسلام بدرجات مختلفة من التأكيد على الامن وفصل الفلسطينيين عن اسرائيل.

الادعاء المركزي وراء عدم إدراج العدل، هو أن العدل مصطلح ذاتي وسيؤدي إدراجه في المفاوضات الى فتح باب جديد لمواجهة إضافية. كما أشار الى ذلك بار سيمان توف من الجامعة العبرية: "بما أن الانصاف والعدل ليسا مصطلحات موضوعية تعرف ذاتها، فمن شأن الاطراف مواجهة المصاعب للتوصل الى إتفاق حول ما هو منصف وما هو عادل. يتأثر تعريف العدل والانصاف كثيرا بالمصلحة الذاتية. وقد يؤدي تناقض وجهات النظر الناجم عن ذلك تحديد ماهو الحل العادل والمنصف والى وضع عراقيل أمام تحقيق السلام والعلاقات السلمية". وعليه لم يدرج موضوع العدل حتى الآن في مساعي حل النزاع في الحالة الاسرائيلية - الفلسطينية. وقد اوصل إطار المفاوضات السلمية الحالي المفتقر الى إعتبارات العدل والمُوَّجه وفق موازين القوى، الاطراف الى طريق مسدود، استراتيجياً، وادخل على النزاع ديناميكيات غير مسبوقة من التصعيد يلازمه تهديد وجودي للطرفين.

الإدعاء بأنه يجب الامتناع عن التطرق الى مسألة العدل، لأنه مصطلح يبنيه المجتمع، هو أسهل الطرق للتهرب من إدراج موضوع العدل في النزاع الاسرائيلي-الفلسطيني في الخطاب السياسي العام في كلا الطرفين وفي مساعي حل النزاع. إن حقيقة كون العدل مصطلح يتشكل مجتمعيا ليست كافية لاسقاط إمكانية التوصل الى إتفاق واسع النطاق بين الاطراف حول تعريف ماهية الظلم وفق مبدأ اساسي ما من العدل. وحتى اذا إعتمد الطرفان مفهوما للعدل ليس مرتبطا بخطوط اخلاقية عامة موجهة، خارجية وواقعية، فإنه يبقى هناك متسع في إطار التعامل الذاتي غير الموضوعي للتوصل الى إتفاق حول بعض المركبات للعدل، لأنه بدون حد أدنى من إتفاق كهذا لايمكن أن يقوم اتصال بين الافراد والجماعات باعتبارهم أعضاء في نفس المجتمع العالمي والانساني.

يتم إدخال عنصر العدل الى النزاع الاسرائيلي الفلسطيني فقط في سياق المصالحة: العملية التي تؤدي الى إتفاق يضع حدا للنزاع الدائر بينهما منذ مئة عام واكثر، ويُشكل تسوية تاريخية تستند الى كل مركب من مركبات المصالحة المذكورة آنفا. ولكن اذا تحول موضوع العدل الى الموضوع المركزي في مساعي السلام العربي- الاسرائيلي، فإن المسائل الذاتية والتشكيلات المجتمعية لمصطلح العدل ستعود لتأخذ كامل مفعولها: ما هو العدل؟ ومن يعرف العدل؟ واي نوع من العدل هو الضروري؟ هذه اسئلة صعبة ولكنها ليست عديمة الجواب في إطار عملية مصالحة تستند الى الاعتراف بالتاريخ والمسؤولية التاريخية وفق ما ذكرناه أعلاه. ففي مسألة حق العودة الفلسطينية على سبيل المثال-التي هي لب النزاع، يقول الفلسطينينون إن طردهم من وطنهم ومن مدنهم وبلداتهم في حرب العام 48 هو غبن ويقتضي العدل أن يعود اللاجئون وبضمنهم أولئك الذي فروا من هول الحرب (وإن لم يطردوا بصورة مباشرة). هل يُمكن دراسة هذا المطلب في إطار عدل ما؟ ام أن حقيقة كون العدل مصطلح يُشكلّه المجتمع تُسقط من مصداقية الاستعانة به؟ والخلاف الاسرائيلي الفلسطيني لا يدور حول العدل أو الغبن الكامنين في هذا الادعاء لأن مسألة عودة اللاجئين لم تطرح في إطار كهذا على المجتمع الاسرائيلي. في المقابل فإن الإطار الوحيد التي بحثت فيه هذه المسألة في المجتمع الفلسطيني كانت في إطار موضوع العدل.

لقد امتنع الاسرائيليون عن تناول هذا الادعاء، ليس فقط في إطار موضوع العدل ولا عبر الاستعانة بذاتية مفهوم العدل. فهناك إجماع في اسرائيل على أنه لا يمكن القبول بحق العودة لّلاجئين وهناك حظر شبه مطلق على مناقشة مسألة الّلاجئين سياسيا بحيث لا يتعدى النقاش الرأي الشائع بأن ذلك سيجلب لاسرائيل الخراب. وقد أصبح الرد اليهودي الاسرائيلي الفردي والجماعي على حد سواء على المطلب الفلسطيني بالعودة هو الرفض القاطع اوتماتيكيا. ويتم، بحجة تهديد وجود المجموع اليهودي (وحتى وجود اليهود كأفراد). ويطرح هذا الرفض كرد فعل طبيعي وغريزي يأتي للحفاظ على الوجود الفردي والجماعي. ولأن المجتمع اليهودي يعتبر هذا الرّد تابعاً لنمط الردود التلقائية أو أنماط مشابهة لها، فهو يخرجه من مجمل الاعتبارات الاخلاقية السارية والمتعلقة بالارادة الحرة للانسان. ويبني المجتمع اليهودي هذا الرد -انكار حق العودة- وكأنه رد طبيعي غرائزي حتى يحرر نفسه من الاعتبارات الاخلاقية. إلا أن هذا الرد يتحرك بفعل الإرادة الحرة وليس ردا تلقائيا. وبالتالي فهو يتبع لفئة القوانين الاخلاقية.

يلزم إدراج العدل على المساعي الرامية لتحقيق سلام إعادة تأطير السؤال من جديد بشكل يلزم تغييرا في الوعي ليس وفق السؤال "هل من المستحسن للجانبين استعمال إطار من العدل"؟ وانما وفق السؤال "أي إطار عدل يجدر بهم استعماله"؟ فطالما غاب العدل من حلبة حلول النزاعات الاقليمية، فلا عجب في عدم الاجابة على السؤال والأنكى من ذلك عدم إثارته.

في غياب جواب على السؤال: أي إطار من العدل يجدر بالجانبين استخدامه يمكن دائما العودة الى الخيار القائم: التقليد الايجابي الذي يحدده القانون الدولي في مسألة اللاجئين ومطالبهم بالعودة الى أوطانهم. ويقدم القانون الدولي عددا من الاجابات على هيئة قرارات شتى للامم المتحدة. ويقبل الفلسطينيون بهذا الحل كخيار فيما يرفضه الاسرائيليون. اذا، في إطار من العدل، سيكون العبء المفروض على الاسرائيلين هو إقناع محاوريهم الفلسطينيين لماذا يجب أن يرفض العدل المقترح من القانون الدولي وقرارات الامم المتحدة. بالاضافة لذلك عليهم إقتراح مصطلحات بديلة في إطار نوع ما من العدل. وأيا كانت مصطلحات العدل التي سيطرحوها يجب ان تكون المصطلحات قادرة على مواجهة لاجيء في لبنان وغزة والقول له بلغة من العدل ما هي حجتهم في رفض حقه بالعودة كما جاء في قرارات الامم المتحدة، لأن المصالحة ستبقى مجرد خداع للبصر إلا اذا والى أن يشعر غالبية اللاجئين الفلسطينيين في داخلهم أن عدلا قد تحقق. التسوية الوحيدة التي يمكن تحقيقها في غير هذه الحالة تكون فقط بالقوة.

تشكل الانعكاسات الاخلاقية الناجمة عن القبول بإطار من العدل عاملا رادعا لدى المجموعة الاقوى يمنعها من قبوله بإرادتها الحرة. اذ سيترتب على المجموعة الأقوى في هذه الحالة الطعن في مركبات جوهرية في تصورهم الذاتي وهويتهم الجماعية. لكن الانعكاسات العملية لقبول إطار من العدل على مجتمعهم نفسه أكبر بكثير. اذ أن تفكيك جهاز الاحتلال الاسرائيلي في المناطق الفلسطينية المحتلة، والقبول بالعمل وفق المقايس الدولية للقانون والعدل والقبول بمبدأ المساواة الكاملة للمواطنين اليهود والعرب في داخل اسرائيل نفسها، يعني إعادة هيكلة الدولة اليهودية من جديد. وأيا كانت الصورة التي ستكون عليها عملية إعادة الهيكلة الجديدة، سيكون هذا التغيير مرهونا بإعادة تقسيم الموارد المحسوسة منها وغير المحسوسة، وبوضع مقاييس جديدة وعادلة للدستور ستكون بالضرورة على حساب المجموعة الاقوى. نظريا، من شأن عملية إعادة الهيكلة هذه أن تذهب بعيدا كما حدث في جنوب افريقيا. فمعنى إعادة الهيكلة هو فقدان مكانة التمّيز والامتيازات، وفقدان الهوية الإستثنائية (exclusive) للدولة اليهودية - بدون أي ضمان للبقاء الجماعي والآمن. وخلافا لجنوب افريقيا، فلم تنجح المجموعة الاضعف حتى الآن بانتاج وبلورة بديل يعتبره، على الاقل، يعتبره جزء من المجتمع الاسرائيلي عادلا.

ولكن لن يكون ممكنا تحقيق المصالحة بدون عملية إعادة هيكلة اجتماعية وسياسية واسعة كهذه. لايوجد أي مثال في التاريخ لمصالحة بدون أن ترافقها تغييرات درامية في النظام السياسي القمعي الذي ساد. فاذا كانت جنوب افريقا هي قدوة المصالحة التاريخية، فذلك يعود الى أن التغييرالسياسي الذي طرأ على الدولة كان هائلا تماما مثل التغيير السيكيولوجي- الاجتماعي. ومحاولة تحقيق الامر الثاني بدون الاول هي محاولة عديمة الفائدة. بامكان تسوية تاريخية تتوافق والمصالحة كما ذكر أعلاه، في السياق الاسرائيلي الفلسطيني أن تأخذ أشكالا سياسية عديدة . ولا يتسع المجال هنا لفحص هذه الاشكال بالتفصيل. يكفي أن نقول أن العبء الملقى على اسرائيل هو عبء مواجهة تاريخ أخذ مكان الفلسطينيين والاعتراف بحقهم في العودة، في المقابل على الفلسطينيين الاعتراف إعترافا كاملا بالحق المكتسب للشعب اليهودي الاسرائيلي بالعيش بأمان في فلسطين. ومن شأن هذه التسوية أن تكون على هيئة دولتين، وفق الحدود الموضوعة في قرارات الأمم المتحدة وعلى أساس جميع قرارات الأمم المتحدة بهذا الخصوص-دولة واحدة للفلسطينيين ودولة للاسرائيليين (والمقصود مواطني اسرائيل). ومن شأن التسوية أن تكون عبر حل يقترح دولة ثنائية القومية مبنية على العيش معا للاسرائيليين اليهود والفلسطينيين على كامل تراب فلسطين الانتدابية؛ أو الحل القائل بإقامة دولة علمانية ديموقراطية على كامل أرض فلسطين وفق قاعدة صوت واحد لكل انسان انطلاقا من المساواة بين اليهود والعرب .

اذا أخذنا الواقع الميداني والتغيرات التي تفرضها المصالحة، وخصوصا من جانب الاسرائيليين بالحسبان، فمن غير المحتمل تحقيق مصالحة في ظل موازين القوى القائمة بين الطرفين إقليمياً، ودولياً. ويتعزز هذا التقدير بفعل نماذج المصالحات التاريخية المذكورة أعلاه. فالصراع الاسرائيلي –الفلسطيني لا يتناسب مع أي نموذج من هذه النماذج المذكورة. زيادة على ذلك أنه عندما نطبق على الحالة الاسرائيلية الفلسطينية العوامل المؤثرة في النزاعات المرهونة بغبن تاريخي يبدو أن احتمالات المصالحة تتضائل. فهناك، (1) إنعدام التوازن الجوهري في القوة لصالح اسرائيل، (2) غياب أي محفز ايجابي لدى اسرائيل لاحداث تغيير حقيقي، (3) والثمن السياسي بالنسبة لاسرائيل اليوم كبير جدا وله انعكاسات سيكيولوجية بالغة الأثر على الهوية الجماعية وعلى لحمة الروايات القومية، (4) يفتقر المجتمع الدولي الى الوعي المكثف بالظلم التاريخي الواقع على الفلسطينيين، (5) يتواصل تورط الاجيال الاسرائيلية الجديدة في مشروع الكولونيالية المستمر في المناطق الفلسطينية المحتلة. زد على ذلك عدم نجاح الفلسطينيين بطرح خطة مشروع تشرح حلمهمبحيث يتسع للايجابة على السؤال كيف وأين يدرج الكيان الاسرائيلي الجماعي مع حق العودة وفي إطار عادل.

سيتغير الواقع بصورة حادة واذا فشلت اسرائيل بتحرير ذاتها من المناطق المحتلة وعندما يتطور جهاز سيطرتها الى نظام جديد من أشكال الفصل العنصري (ابرتهايد). هذا السيناريوا وإن كان ليس بغير معقول إلا أنه ليس أكيدا. بصورة متناقضة من شأن عملية مصالحة أن تكون معقولة أكثر في مثل هذه الظروف لأن استحقاقاتها ستتأطر في هذه الحالة داخل الدولة الواحدة وفق معايير اخلاقية واضحة من المساواة في داخل الدولة.

يبدو أنه لا يمكن تجاوز العراقيل الماثلة أمام مصالحة اسرائيلية –فلسطينية في السياق السياسسي الحالي. وهذا هو سبب سعي الاطراف الى تسوية النزاع أو حله – وأحيانا يتأرجحون بين الأمرين- ولايسعون الى مصالحة. ويظل السؤال المطروح: هل يستطيع طرفا نزاع تتخلل علاقتهما اعمال الغبن التاريخي وإنعدام التكافؤ في موازين القوى، كما هو الحال في النزاع الاسرائيلي الفلسطيني، التوصل الى حل للنزاع بدون مصالحة مطروحا على النظرية والتاريخ.


انتهى

المصطلحات المستخدمة:

دورا, الصهيونية, حق العودة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات