المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في اواخر العام 2001 أصدر كمرلنغ كتابا جديدا بعنوان "موت سلطة الاحوساليم" ، وقد وردت الكنية اعلاه في تقديم غدعون سامط محرر السلسلة التي صدر في نطاقها الكتاب – "الاسرائيليون: السلسلة".

بقلم : محمد حمزة غنايم
عن "المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية" في رام الله صدرت هذه الايام الترجمة العربية لكتاب "نهاية الهيمنة الاشكنازية"، الذي وضعه بالعبرية العام الماضي عالم الاجتماع الاسرائيلي باروخ كمرلنغ. ترجمه للعربية نواف عثامنة وقدم له محمد حمزة غنايم، محرر السلسلة التي صدر ضمنها الكتاب.

الذي يحدث الآن

باروخ كمرلنغ هو "أحوسال" (مولود في ترانسيلفانيا، 1939): بروفيسور في علم الاجتماع في الجامعة العبرية بالقدس (مُعار ابتداء من هذا العام لجامعة تورنتو لمدة عامين)، وباحث معروف في المجتمعين الاسرائيلي والفلسطيني، وفي قضايا الصراع في الشرق الاوسط.

في اواخر العام 2001 أصدر كمرلنغ كتابا جديدا بعنوان "موت سلطة الاحوساليم" ، وقد وردت الكنية اعلاه في تقديم غدعون سامط محرر السلسلة التي صدر في نطاقها الكتاب – "الاسرائيليون: السلسلة"، حيث اتخذ من سيرة المؤلف مثلا في توضيح فكرة هذا الاصطلاح التجميعي الجديد – "احوسال". وعندما سألنا كمرلنغ اذا ما كان توصل الى ترجمة عبرية او انجليزية للكلمة لكي نتوصل بدورنا الى رديفتها العربية، رد علينا الكترونيا بأنه لا يجد. امام هذا الاشكال ايضا وقف الناشر في ترجمته للعنوان الى الانجليزية، فكتب: "موت سلطة الاشكناز"، وهو ما يرادف المصطلح الامريكي WASP (صفوة المجتمع البيضاء الانجلوسكسونية والمتنفذة)، الذي تمت ترجمته للعربية على انه "الزنابير".

"الاحوساليم" هم اذن هم الاشكناز. ولأن غرابة العنوان فرضت التوقف عند هذا الاشكال الاصطلاحي، سنذكر، بداية، ان "الاحوسال" بموجب كمرلنغ كلمة تجميعية للحروف الاولى من المفردات العبرية المرادفة لـ "اشكناز، وعلمانيين، وقدامي، واشتراكيين وقومويين" (او صهيونيين). وهي تنعكس عموما في المجتمع الاسرائيلي، كما ينوه المؤلف في "فرضيته الافتتاحية"، من خلال طبقة اجتماعية – اقتصادية متوسطة حتى عليا، ويميزها اصل إثنيّ غربي، ورغبة ذاتية برؤية نفسها جزءا من الثقافة الغربية.

مع ذلك، فإن "الاحوساليم" كما يصورهم المؤلف ليسوا مصنوعين من نسيج واحد: انهم طبقة غير محصنة، ومؤكد انها ليست غير قابلة للاختراق. حدودهم ايضا غير واضحة: "يمكنهم ان يكونوا منقسمين ومختلفين كما يجب فيما بينهم، يمكن لهم مثلا ان يكونوا "حمائم"، او "صقورا" في مواقفهم من النزاع الاسرائيلي – العربي واليهودي – الفلسطيني، وبينهم من يؤيد سياسة رفاه اجتماعي فعالة، ومن يدعم اقتصاد السوق والخصخصة المحافِظة الجديدة. من ناحية طبقية، الانتماء الى الطبقة يتقاطع بهذا الشكل او ذاك عند حدود الطبقة المتوسطة، وباعتبارها كذلك، فهي تضم ايضا شرقيين ومتدينين، شرط ان يكون هؤلاء قد تبنوا تصورات وانماط حياة متماثلة مع الظاهرة ومصالح القطاعية" (كمرلنغ: 11). (يكتب المؤلف في موقع اخر من الكتاب ان بعض الجماعات اليهودية الشرقية اصبحت جزءا من الطبقة المذكورة، فقط بعد ان تبنت ولو جزئيا الرموز الثقافية الاشكنازية الغربية – ص 16).

اذن، وبعد اكثر من نصف قرن من الهيمنة والتسلط، أفَلت طبقة "الاحوساليم – الاشكناز"، التي حكمت اسرائيل منذ اواسط القرن الماضي، وكانت "سيدة البلاد" بلا منازع، ليس قبل ان تصبح جزءا مما اعتـُبر انه "النظام الصحيح والمستقر" في المجتمع. ويقول كمرلنغ ان هذا الافول حقق مستويات جديدة في نتائج الانتخابات الاخيرة في اسرائيل (2001)، معتبرا اياها "الحلقة النهائية، على الصعيدين الرمزي والسياسي، في سيرة عائلة الاحوساليم" (ص 12).

بدأ تدهور سلطة "الاحوساليم" هذا بانتخابات 1977، التي اوصلت زعيم "حيروت" مناحم بيغن الى الحكم، متسببة بشرخ في حزب العمل، وبالتالي ظهور حركة "التغيير" بزعامة عالم الاثار والسياسي يغئال يدين. استقطبت هذه الحركة بقايا العائلة "الاحوسالية" المتفرقة، الا انها لم تكن سوى مشهد عابر فوق الحلبة السياسية الاسرائيلية، مع انها تكررت لاحقا تحت اكثر من صيغة واسم (هي ممثلة اليوم في البرلمان بستة نواب بقيادة الصحفي يوسف لبيد).

نجحت "ماحل" (قائمة "حيروت" الانتخابية) في التعبير عن التمييز الطائفي في المجتمع الاسرائيلي العريض، بعد ان حوّل الشرقيون اليهود مشاعر الغبن والتمييز بحقهم الى قوة سياسية، وفي الوقت نفسه عُرضت "اليهودية" كقاسم مشترك لجميع اليهود قبل قاسم "الاسرائيلية – الاحوسالية". تم ذلك بعد ان انتهت الاشتراكية كتصريح سياسي واجتماعي على الاجندة الحزبية والقومية (لدى حركة "مباي" في الاساس، ذات الشعارات الاشتراكية الشكلية)، بتأثير من المتغيرات التي شهدها الاقتصاد العالمي، والتي تحولت في نطاقها دول الغرب، واسرائيل بضمنها، الى اقتصاد السوق. في موازاة ذلك، ارتفع نجم القيادات السياسية والحزبية الشرقية، القادمة من الضواحي والمناطق النائية عن المركز (تل ابيب، وهو ما لم يكن "العمل" قادرا على السماح به بفضل تركيبته وطبيعته الاشكنازية)، الامر الذي اوصل الى مقدمة الحلبة اشخاصا من اصل شرقي مثل دافيد ليفي ومئير شطريت وموشيه قصاب (تدَرّجَ حتى صار رئيس دولة)، وفي مرحلة لاحقة: سلفان شالوم (وزير المالية في حكومة شارون) وشاؤول عمور ودافيد مغين. هذا ما حدث في "الليكود"، اما في حركة "العمل" فقد اضطرت هذه المتغيرات "مباي" التاريخية الى فتح الباب امام الشرقيين، وبالتالي امام وصول عدد كبير منهم الى الصف الاول، مثل بنيامين بن اليعيزر، وشلومو بن عامي، ورعنان كوهين، ورافي ادري، ورافي الول، وايلي بن مناحم وعمير بيرتس (رئيس "الهستدروت الجديدة") وغيرهم.

على رغم هذا الانفتاح "الشرقي" لدى الحزبين، الليكود والعمل، حافظ الجيل الانتقالي الاشكنازي فيهما على عدد من المراكز الاساسية. وبلغة المؤلف: "في الحزبين، تم امتصاص هذا الجيل الى داخل الثقافة الما بعد مادية المشتركة"، وهي الثقافة السياسية ايضا، التي صنعت باستمرار القواسم المشتركة لجميع حكومات "الوحدة الوطنية"، وبضمنها حكومة الوحدة الحالية التي يرئسها شارون. تم ذلك بعد ان تشوشت وطُمست الفوارق في الحزبين الكبيرين، اللذين اعتـُبرا كل الوقت حزبين سلطويين، الاول منذ اقامة اسرائيل سنة 1948 والثاني منذ 1977، بعد صعود "الليكود" لاول مرة الى الحكم فيها.

تكررت عملية تسلم "الليكود" زمام السلطة في اسرائيل منذ العام 1977 عدة مرات، وقد تم ذلك بفضل بقايا سلطة "الاحوساليم" التي طالت غرغراتها لتستمر قرابة عقدين من الزمن، تمكنت خلالهما من "تجديد شبابها" عبر تنصيب قياديين من الجيل التالي، مثل بنيامين نتنياهو (1996) وايهود باراك (1999)، وتسليمهما رئاسة الحكومة، الاول متغلبا على "الاحوسال العريق" ارئيل شارون في انتخابات حزبه الداخلية، والثاني متغلبا على "الاحوسال – الثعلب" شمعون بيريس: "حملت هذه الفترة من منتصف التسعينات تذكيرا بفصل سابق من التسلسل السياسي في اسرائيل. كان اسحاق رابين في فترة رئاسته الاولى، وكما هو الحال مع خلفيه، من الصابرا، وهو اشكنازي، علماني وقومي. لكنه فشل، الى ان تمكن من العودة. نتنياهو وباراك فشلا بدورهما، كأن ذلك تم لتوضيح حقيقة ان صراع جيل الدولة على احتلال السلطة لم يفتتح بالفعل" (ص 18).

فشل "جيل الدولة" في احداث الانقلاب المطلوب على طبقة "الاحوساليم" التاريخية المهيمنة، لكنه استفاد كل الوقت من التحولات الداخلية التي تفاعلت باستمرار تحت السطح، وخلخلت اسس النظام القديم، وإن كانت قد احتفظت ببعض رموزه في السلطة الى اليوم. بموجب هذا الاستنتاج، يمكن القول ان شارون وبيريس ينتميان الى هذا الصنف المتلاشي من "الاحوسالية السياسية والثقافية المتراجعة"، لكنهما، على غرار باراك، ليسا سوى وسيلة محفزة لقوى اجتماعية وسياسية وثقافية تزداد قوة، دون ان تتوصل الى الان الى الحجم المطلوب الذي يسمح لها بتنصيب ممثليها برأس الهرم. وتؤدي هذه الشخصيات "الاحوسالية" التي تنهي طريقها السياسي دور حلقة الوصل بين الماضي المشبع بالامجاد، لكن المكروه لدى الكثيرين، وبين المستقبل الذي يخفي بداخله عدة بدائل، بعضها متناقض تماما.

ابعد باراك ونتنياهو، "الاحوساليَّين" الشابين والموهوبين، عن الحلبة، ليس نتيجة خلل في تصرفاتهما الشخصية فحسب، بل لأنهما لم يكونا مؤهلين للعب حسب اصول اللعب الجديدة الاخذة بالتبلور في الدولة". (ص 12).

العرب و "الاحوسالية"

كان اختلاف اصول اللعب على الحلبة السياسية – الحزبية الاسرائيلية تعبيرا لازما عن التحولات العميقة التي شهدتها اسرائيل في السبعينات (اولا دروس "محدلة" اكتوبر المؤلمة سنة 1973، ثانيا اتفاق سلام منفرد مع اكبر دولة عربية هي مصر، بعد سنتين على تولي مناحم بيغن رئاسة الحكومة)، وما زال بعضها في مراحل تبلوره الى اليوم. وسط عدم اليقين تجاه عدد كبير من التطورات الداخلية، بقي شيء واحد اكيد: "ان الاحوسالية، بشكلها القديم، ولـّت الى غير رجعة".

مهما يكن من امر هذه الطبقة ومصيرها، لا احد يشك بوجود ظاهرة تقليدية اخرى ما تزال متشبثة باسمها: اللا مساواة، التي سادت منذ البداية، وما تزال تقدم المزيد من المؤشرات القوية على وجودها، باعتبارها "طرفا قويا" في الصراع الثقافي على تعريف الهوية الجمعية الاسرائيلية الجديدة، في "حرب ثقافية" متواصلة، تحولت الى جزء ثابت من المشهد الاسرائيلي في هذا المكان: "هذه صراعات متعددة الابعاد – يكتب كمرلنغ – اقتربت في بعض الاحيان الى حد الحرب الاهلية. وقد وصلت ذروتها بمقتل اسحاق رابين، الذي تحول في حياته – وبالذات بعد مماته – الى النموذج الاعلى للاحوسال، وتحققت هذه الذروة ايضا في انتخابات 1996" (ص 14 – 15).

وعليه، فإن ما يبدو اليوم من منظور الالفية الثالثة حتميا، نجم عن حرف الصراع السياسي الداخلي، او كما يقول المؤلف: "ليس كل ما حدث كان لازم الحدوث او ان نهايته كانت معروفة سلفا". لكن هذا "الحتمي"، من موقعنا هنا والان، يبدو في الوقت ذاته جزءا حقيقيا من صراع اوسع على مستقبل الدولة الاسرائيلية: هويتها، دلالاتها ورموزها. وفي ذلك تحس كل جماعة سكانية انها مهددة من جانب الجماعات الاخرى، "وكلما اشتد هذا الاحساس، كلما ازداد الاستعداد لاستخدام العنف الكلامي والجسدي تجاه الداخل او الخارج على السواء. على هذه الارضية وقع الانفجار العنيف في اوساط العرب في اسرائيل في اكتوبر 2000، وفوقها نشأ رد الفعل الاعنف من جانب الشرطة عليه" (ص 15).

تأخرت اسرائيل جراء هذا الصراع الى الوراء كثيرا، وذلك بعد ان تفجرت لديها قضايا من خارج دائرة الصراع القومي، اشغلتها عن "مهماتها الصعبة": صُنع المستقبل في ظل سلام مع شعوب المنطقة، والاستقرار فيها، كمقدمة لقبولها في "اسرة الشرق الاوسط". بدلا من ذلك، تفجرت قضايا التمييز الطائفي واللامساواة، وانحرفت سريعا نحو الدائرة القومية، وانهكتها. وفي ذلك يجد كمرلنغ قاسما مشتركا بين العرب الفلسطينيين في اسرائيل واليهود "الحرديم" (الاشكناز والسفاراديم على السواء)، ويقول: "يحس العرب بالتمييز ضدهم، وبحق، ليس نتيجة فائض الامتيازات السياسية والاقتصادية والثقافية الممنوحة لليهود والحقوق الاساسية المحجوبة عن العرب، وحسب، بل لأن صوتهم ومشاكلهم لا تعد مشروعة في دولة تعرّف نفسها بأنها "يهودية" في قانونها الاساس. ويحس "الحرديم"، والى حد ما المتدينون القوميون ايضا، بأنهم محيَّدون لأن الدولة التي تدعي انها يهودية ما تزال تعطي افضلية سياسية وثقافية – وإن لم تظل استثنائية – للعليّات فيها، وللانماط والقيم الاساس والنظام الاجتماعي والسياسي اللذين ما زالا احوساليين في جوهرهما.." (ص 19).

اصبحت اللا مساواة كما اسلفنا طرفا في "الحرب الثقافية" في اسرائيل، التي ظلت تحتفظ – بموجب كمرلنغ – بثلاثة انواع منها:

الاول: اللامساواة الكامنة في الفوارق المتسعة في توزيع المدخولات والخيرات المشتركة. الثاني: لا مساواة مدنية – سياسية ناجمة في الاساس عن كون اسرائيل مجتمع مهاجرين، وتستصعب الانفصال عن المصادر الدينية للقومية الاسرائيلية.

الثالث: لا مساواة ثقافية تنعكس في تعدد الثقافات، ولكن ليس في التعددية الثقافية، أي: من دون الاعتراف بشرعية الاختلاف الثقافي وما يترتب على هذا الاعتراف: "تستصعب مشكلة اللامساواة – يكتب كمرلنغ – ان تترجَم الى مصطلحات سياسية واجتماعية حادة بسبب التلامس الجزئي بين انواعها الثلاثة. فقد تم قبول اللامساواة المدنية – حتى الاونة الاخيرة على الاقل – باعتبارها امرا مفهوما ضمنا لدى السواد الاعظم من الاغلبية اليهودية. من هنا يأتي هذا التشويه الكبير لمصطلح "الديمقراطية" عندنا، أي: تعريفها بانها سلطة الاغلبية على الاقليات، دون الانتباه لضرورة تطبيق حقوق المواطنة والمساواة المدنية لمختلف الاقليات (وبخاصة العرب والنساء) في مواجهة عَسَف الاغلبية المتخيَّلَة".

يتوسع المؤلف في تعداد اوجه اللامساواة والتمييز في اسرائيل على اساس قومي وطائفي، ويكتب انها صنيعة "صهيونية احوسالية"، توصلت الى نهجها هذا من خلال دمج مختلف الوسائل السياسية والاقتصادية والثقافية بشكل خاص، وقامت بايجاد هستوريوغرافيا (تأريخ) وميثولوجيا وتفسيرات علمانية للنصوص الدينية، من خلال تسييد اللغة العبرية في الاساس. كان ايجاد التأريخ الصهيوني الرسمي شكلا من اشكال ايجاد القومية ذاتها. وقد تم ذلك نتيجة الدور الذي لعبته "فئات يهودية عليا ذات مصالح طبقية ومادية واضحة" (ص 20).

"شرعنة" الاستيطان

علاوة على العرب الفلسطينيين في اسرائيل، الذين رفضوا الانسجام مع نهج التهميش الرسمي لهم كما املته سياسة التمييز الرسمية، انضمت فئات اخرى من المجتمع الى التمرد الكبير على سلطة "الاحوساليم". وخلافا للعرب، الذين كانوا ضحية هيمنة "احوسالية" اشترك في صنعها الشرقيون والاشكناز على السواء، كانت الجماعات الدينية – القومية – الصهيونية من ابناء "جيل الدولة" اول من ادار ظهره لهيمنة الفئات العليا التقليدية وللنظام الاجتماعي القائم. ويكتب كمرلنغ ان "الجماعات الدينية القومية الجديدة تمردت ايضا على الصهيونية العلمانية، وحسب تفسيرات الراب يتسحاق هكوهن كوك، هناك مشروع الهي في نطاقه انتهى منذ امد بعيد دور العلمانيين في بناء الدولة اليهودية الخصوصية" (ص 33).

حصل اتباع الراب كوك من انصار الاستيطان في الاراضي المحتلة على فرصتهم الكبرى مع الازمة الايديولوجية التي حلت بالسلطة في ضوء نتائج حرب 1967: "اعيد فتح المناطق الحدودية، التي بدا انها تتبلور في اعقاب حرب 1948، امام الاستيطان اليهودي... تسلمت غوش امونيم لفترة طويلة قيادة الايديولوجية في المجتمع الاسرائيلي، وطالبت لنفسها بمكانة طليعية في تحقيق تطلعات القومية وامتلاك بقية مناطق ارض اسرائيل، بعد تخليصها.." (ص 35). اذن، لم يكن غياب نظرية سياسية تخص مستقبل المناطق المحتلة وسكانها امرا مصادفا، ويقول كمرلنغ انه غياب تغلغل عميقا في بنية الدولة نفسها كمجتمع مهاجرين مستوطنين، ما زال يحمل معه تطلعات اقليمية وتوسعية. وفي ذلك يستذكر كمرلنغ كيف لعبت هذه التطلعات كل الوقت دورا حاسما في "تحريك" حدود الدولة اليهودية نحو الخط النهائي: "انعكس ذلك على سبيل المثال في اعلان "مملكة اسرائيل الثالثة" لدى بن غوريون مباشرة بعد احتلال سيناء 1956. فوق هذه الارضية الايديولوجية اعيد بناء التدين القومي العقائدي، المتشكل بعد 1967: فقد وفر صيغة متجددة لتلك الرموز والشيفرات الثقافية والنظريات السياسية التي استخدمتها الجماعات اليهودية في فلسطين قبل حرب 1948 وحتى قبل ارساء الدولة السيادية" (ص 34).

في سبيل ذلك نشأت ضرورة تعزيز الاسس الدينية – الايديولوجية في ما بدا انه القومية اليهودية المتجددة، وقد كان ذلك متصلا بابراز مصطلحات مثل الارض، والدم وقبور الاباء. كانت بداية "غوش امونيم" في تفكك حركة الاحتجاج "الاحوسالية" التي قامت بعد اتضاح نتائج حرب اكتوبر 1973، وهي حرب مفاجئة هزت المجتمع الاسرائيلي برمته، وكان اول المتضررين فيها هذه الطبقة "الاحوسالية" المهيمنة. ومع ان بدايات هذه الحركة الدينية – القومية كانت في مطلع السبعينات، الا انها في نهاية ذلك العقد فقط نجحت بتحريك مشاريعها الاستيطانية في الضفة الغربية، بعد صعود مناحم بيغن للحكم. وفقط في اواخر السبعينات، التي شهدت نشاطا كولونياليا واضحا، تمأسست "غوش امونيم" واحتل "مجلس المستوطنات في يهودا والسامرة وقطاع غزة" مكانها.

لم تكن عمليات الاستيطان الكولونيالية في الضفة والقطاع ثمرة مبادرات الطبقة "الاحوسالية" المتأزمة، بل رغما عنها. ويسهب كمرلنغ في شرح الارضية التي نشأت فوقها محاولات بناء "هستوريوغرافيا واركيولوجيا بديلتين" كنوع من عملية قلب ظهر المجن للثقافة الاشكنازية القديمة.

انصب الاهتمام في هذين المجالين على "ايجاد اماكن مقدسة متصلة بشخصيات من الميثولوجيا التوراتية مثل "قبر يوسف" في نابلس (وهو بناء اسلامي من القرن الثاني عشر) وقبر يهوشع بن نون وكلب بن يفونه في كفل حارس، وقبر نتان النبي في حلحول ومغارة عوتنيئيل بن كناز في الخليل. لا تعد فائدة هذه المواقع لثقافة التمرد العقائدي رمزية فحسب، بل جاءت ايضا لضمان السيطرة اليهودية على المدى (...) وهكذا فإن الاركيولوجيا العقائدية تواصل الى حد كبير طريق الصهيونية العلمانية، التي ارست تقاليد اضفاء الشرعية على الاستيطان اليهودي في البلاد" (ص 44).

لم يكن نجاح "غوش امونيم" مقصورا على "تخليص الارض" فحسب، بل انعكس في تبني اليسار الصهيوني (بقايا "الاحوسالية" المتلاشية) لما ترَتب على هذا "الخلاص" من واقع استيطاني جديد خارج خطوط هدنة 1948: "تفسر هذه الظاهرة الى حد كبير بعض جوانب التدهور في الخطاب العام وفي التفكير السياسي في اسرائيل، والتفوق الذي تتمتع به كتلة اليمين فوق الحلبة السياسية" (ص 44).

تطلبت "النشوة" الاستيطانية عقدا من الزمن على الاقل ليكتشف اليسار الصهيوني استحالة التحكم بشعب اخر، خصوصا في ضوء اعمال الاحتجاج والمقاومة الفلسطينية، التي وصلت ذروتها في انتفاضة 1987 – 1992، كاشفة القناع عن وجه "الاحتلال المتنور"، الذي سرعان ما تحول الى احتلال وحشي وقمعي للفلسطينيين في مختلف ارجاء الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي ذلك يكتب كمرلنغ ان استمرار سلطة الاحتلال اوضح ان اسرائيل تستصعب الصمود في امتحان "وحدة البلاد"، ليس فقط بالمصطلحات الاخلاقية والايديولوجية: "وهكذا تحول الجيش الاسرائيلي الذي كان من المفروض ان يتحضر لما اسمي بساحة القتال المستقبلية الى جيش قامع لانتفاضة مدنية، من خلال الخوض في حروب خاسرة سلفا ضد المجموعات الفلسطينية المنتفضة". (ص 76).

كانت تلك نتيجة مريرة اخرى لتمرد الثقافة اليمينية الاسرائيلية على سلطة "الاحوساليم"، التي وضعت بنفسها الاساس لما سيصير لاحقا "بوميرانغ" يضرب في كل الاتجاهات، وبالاساس – في اتجاه المجتمع الاسرائيلي نفسه، الذي ما زال يدفع ثمنا باهظا لذلك "التمرد" حتى يومنا هذا.

خيار القوة: السقطة التالية

خيار القوة عادة "أحوسالية"، يبدو انها لم تسقط بعد من الحسابات الاسرائيلية المتقلبة، وقد تم التعبير عنها بوضوح في الخفة التي تميز بها لجوء شرطة البروفيسور والباحث في الحركات الفاشية (؟!) شلومو بن عامي (الشرقي "المحوسل" الذي اشغل منصب وزير الامن الداخلي في حكومة ايهود باراك، و "طلّق" الحياة السياسية مؤخرا لصالح الاكاديميا "احتجاجا على مواقف حزبه داخل حكومة الوحدة الوطنية)) على زناد الاسلحة التي اودت بحياة ثلاثة عشر عربيا فلسطينيا مواطنين في اسرائيل، خلال ما عرف لاحقا باسم "هبة اكتوبر" في صفوف العرب في الداخل.

وقد سبق ان اشرنا في بداية هذا العرض الى التشخيص الخارق للحال الاسرائيلي الراهن في سياقه الاجتماعي – التاريخي، كما يرتسم في الاصدار الجديد لكمرلنغ، الذي افرد فيه صفحات مطولة لمناقشة علاقة السلطة الاسرائيلية بالعرب مواطني اسرائيل، في ضوء الشرخ الحاصل بينهما بعد احداث اكتوبر 2000، والناجم الى حد كبير عن الجوء الى "خيار القوة" في تعامل هذه السلطة معهم. هنا يقرأ المؤلف الوقائع بصورة مختلفة، ودائما داخل سياقاتها الصحيحة، ويقوم بانتاج وجهات نظر جديدة في قضايا المجتمع والدولة في اسرائيل، اصبحت تشكل "صدمة" للبعض، بينما يعتبرها البعض الاخر "شعاع نور" في هذا الديجور الاسرائيلي السحيق، الذي يهدد بالتهامنا جميعا، والقضاء على احتمالات خروجنا من "عنق الزجاجة" الذي ادخلتنا اليه طبقة "الاحوساليم".

بعد اكثر من خمسة عقود على نجاح "الاحوسالية" الاشكنازية بانشاء دولة اسرائيل، وفي ذات الوقت فشلها في اقامة المجتمع المدني الاول، ومن موقعه في الاكاديمية الاسرائيلية، يخلص كمرلنغ الى استنتاجه الاهم، ويكتب ان "الاحوسالية" ماتت كقيادة سياسية، لكنها لم تمت كطبقة اجتماعية، وانما يتم التعبير عن وجودها وتطلعاتها بحدة اكثر، وهي ما تزال تؤدي الكثير من الادوار المهمة في اسرائيل في مطلع الالفية الثالثة: "هل الاحوسالية مقضي عليها كطبقة اجتماعية؟ الاجابة في نهاية المطاف هي النفي. انتهت سلطتها فقط، وهي لم تنته. ما زالت تمسك برأس المال البشري الاكبر ولديها خبرات اجتماعية وسياسية كبيرة" (ص 106).

جَرَّ انهيار الطبقة في اعقابه المزيد من الفوضى الى الحياة السياسية الاسرائيلية، ولم يتحول الى رافعة لاخراج البلاد منها. وهي تنعكس بكل وضوح اليوم كما دائما عبر حقيقة وقوف "الدولة اليهودية" امام مفترق طرق تاريخي، يستدعي ان تتخذ سلسلة من القرارات السياسية المصيرية، لتحديد وجهة المسار الذي تمضي فيه. لكن هذه الدولة لا تحسم في اهم الاسئلة حتى الان، وتمضي فوق ساحات الصراع مدمرة ومحطمة لكل الاحتمالات، وتعيد نفسها وغيرها الى البداية من جديد.

في اسرائيل مطلع الالف الثالثة يتم الحسم سلبا في مختلف اوجه الصراع، وفي ذلك ما يسهم بمزيد من التأخير في الوصول الى تأسيس المجتمع المدني فيها، وهو مجتمع يحمل في طياته الكثير من الحلول لمشاكلها العويصة، وبرأسها مشكلتها مع المليون الفلسطيني العائش داخل حدودها من العام 1967. يقول كمرلنغ ان تبني روح مقولة "دولة كل مواطنيها" سيعني بالتأكيد انجاز خطوة نوعية مهمة نحو انشاء هذا المجتمع المدني. ولكن، يبقى السؤال المفتوح: كيف يمكن ان تبدأ اسرائيل تأسيس مجتمعها المدني ما دامت لا تملك صيغة نهائية لحدودها السياسية، بل تحقق المزيد من الابتعاد عن هذه الصيغة – تواصل التخبط في "وحل المناطق المحتلة"، وتهيء للمزيد من الاستيطان والتوسع فيها.

متحفظا بشدة ازاء هذا الجرف اليميني الاستيطاني الذي تشهده البلاد، وما يعنيه من تمسك للفئات الدينية اليهودية القوموية المتطرفة والمتنفذة سياسيا بالارض، يرى كمرلنغ "اننا عبرنا نقطة اللا عودة فيما يتعلق بادراكنا لحتمية الخروج من المناطق، والسؤال الذي بقي مفتوحا يخص الثمن الذي ستضطر اسرائيل والفلسطينيون لدفعه الى ان يستكملا التسوية بينهما" (ص 103). ولديه فإن "حق تقرير المصير" لليهود لا يجب ان يكون سببا في الحاق الاذي بالاقليات الاخرى (ص 94) وفي ذات الوقت فهو يرى ان اصلاح الغبن التاريخي اللاحق بالفلسطينيين لا يجب ان يتم بواسطة "التنكر التام لحق الدولة اليهودية المطلق في الوجود": "بات واضحا اليوم، من دون ادنى شك، ان ميلاد الدولة اليهودية كان متصلا بآثام اقتلاع مئات الالاف من السكان الفلسطينيين وقسما من مجتمعهم. لكن الاعتراف الكامل بهذه الحقيقة لا يبرر سلب الدولة القومية اليهودية الحق المطلق في العيش في المكان الذي اقيمت فيه – وذلك ليس لاسباب تاريخية او دينية مشكوك بصلاحيتها (وان كانت مشروعة وسارية المفعول بنظر المؤمنين بها) بل لاسباب اخلاقية.

اصبحت دولة القومية اليهودية حقيقة قائمة ولا يوجد أي تبرير لشطب ظلم واقع بظلم اخر جديد. القرى والبيوت وحقول الفردوس الفلسطيني المفقود ورائحة الليمون في البيارات التي يستنشقها سكان مخيمات اللاجئين، هي حقا جزء مشروع من الذاكرة الفردية والجماعية الفلسطينية. لكن هذه كلها لم تعد قائمة. الزمن التاريخي، خلافا لما هو الحال عليه مع الزمن الاسطوري، لا يتجمد في داخل فقاعة. هذه حقائق على الطرفين ادراكها عندما يطالبان بحقوق تاريخية معينة" (كمرلنغ: 93).

تأسيسا على هذا الاستنتاج في مراعاة حركية الزمن التاريخي والاستفادة منها في تشخيص ما حدث ويحدث كل الوقت منذ بدايات التشرد واللجوء الفلسطيني في العام 1948، كانت طريق كمرلنغ قصيرة لكي يتوصل الى لب المأساة الان: مأساة اللاجئين الفلسطينيين، التي يعتبر حلها مقدمة للتوصل الى اتفاق. وفي ذلك يؤيد كمرلنغ، مثل قلة متزايدة من بين الاسرائيليين اليهود "العقلاء"، حق عودة الشعب الفلسطيني "المشروطة" الى وطنه، "في قسم من فلسطين التاريخية". لكنه يكتب - ليس كفيلسوف بل كعالم اجتماع - ان هناك جوانب اخرى للمأساة ليست اخلاقية فحسب، وانما هي عملية ايضا وتحتاج الى تأويل وتحليل ومراعاة: "الى جانب ذلك، لا يجب الخلط بين مسألة وجود الدولة القومية اليهودية في قسم من فلسطين التاريخية وبين مسألتين اخريين: الاولى هي حق تقرير المصير والسيادة للشعب الفلسطيني في مناطق فلسطين التاريخية ايضا، وحقه في الامن والحصول على ظروف تجعله قادرا على التطور كمجتمع جدير بالحياة وقادر على ان يستوعب بقرار منه ابناء شعبه العائدين من الغربة وتحقيق حق عودتهم الى ارضهم – دولتهم. لغرض تنفيذ هذه العودة من الشتات، يجب على اسرائيل مدّ يد المساعدة الشاملة للدولة الفلسطينية، كجزء من اعترافها بالمسؤولية المباشرة وغير المباشرة عن الاقتلاع، ومنح التعويضات الشخصية عن الممتلكات التي صادرتها اسرائيل في حينه، في نطاق اتفاق شامل مع الدولة الفلسطينية، وباضافة مساعدات دولية". (ص 92).

لم تكن هذه الاستنتاجات والحلول المقترحة على المستوى الاكاديمي الاسرائيلي لقضية اللاجئين غائبة عن الوعي البحثي الاكاديمي الاسرائيلي، حتى قبل ان تسقط الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الاحتلال، ويتوحد الوطن الفلسطيني في شرط تاريخي عجيب غريب. لكن الجهر بها اليوم اخرج اصحابها من دائرة التشخيص والتحليل والاستفسار، الى دوائر التأثير وصنع القرار.

تطور تأثير الاكاديمية الاسرائيلية في مجتمعها الى حد اننا بتنا نقرأ ابحاثا ترسم سياسات في بعض الوزارات الحكومية، بل ان جنرالات في الجيش او ساسة من الصف الاول لم يترددوا مؤخرا في التجول في ميادين البحث الاكاديمي المغرض (في ام الفحم ومناطق التماس) الذي قام به البروفسور ارنون سوفر من جامعة حيفا في موضوع "الخطر الديموغرافي" المهدد بقلب حسابات الدولة العبرية رأسا على عقب.

وما يصلح في مأساة اللاجئين على صعيد البحث الاكاديمي على الاقل، يصلح ايضا في ضبط العلاقة مع العرب في اسرائيل على نفس الصعيد، لكن المشكلة ان هذه القضايا ليست مجرد سؤال اكاديمي ننتهي منه بالاجابة عليه. هذه قضايا مصيرية تلامس في بعض جوانبها مسألة صراع البقاء، بعد ان نزلت عن الصعيد الاخلاقي وتجسمت بشكلها المادي الحاسم والثقيل فوق المسار. ولأن اسرائيل مجتمع طوائف واعراق ومهاجرين من مختلف اصقاع الدنيا، تشوشت الحدود بين هذه المستويات، ما ادى الى "جرّ" اكثر من محور مصيري فوق الظهر عشرات السنين. يضاف الى ذلك كله ما يصفه كمرلنغ بأنه نموذج "الديمقراطية التوفيقية" التي قيست اسرائيل بموجبها كل الوقت. لكنه النموذج المضلل من اساسه، "في غياب دستور رسمي يعرّف اسرائيل انها كذلك". سحبت الطبقة "الاحوسالية" على ظهرها عشرات السنين من الصراع، موجهة طاقاتها كلها نحو صناعة التاريخ وفبركته في صالحها وخدمة لمصالحها السياسية في الاساس. لذلك "تفتقد اسرائيل اليوم اجهزة سياسية ممأسسة لادارة المفاوضات على التوصل الى تسويات وفرضها، وبخاصة في ضوء استبعاد العرب (في اسرائيل) من التسوية" (ص 96).

ادى افول الهيمنة "الاحوسالية" الى وقوف اسرائيل كلها (بما في ذلك المستوطنون في الاراضي المحتلة بعد العام 67) امام "سؤال الهوية والمصير"، في واقع يأبى الاعتراف بصدقية الرموز والشعارات والادبيات الاسطورية حول ما حدث، تمهيدا لحسم وجهة "ما يجب ان يحدث". ما حدث معروف ولن تمحوه رموز او شعارات او اساطير او غيبيات، ومواصلة التنكر له وللاعتراف بالمسؤولية عن صنعه، تسهم في اذكاء نار الصراع وشده نحو مهاويهِ الدامية.

والاعتراف بالمسؤولية هنا ليس غاية بحد ذاتها، بل مقدمة ووسيلة للخوض في مختلف جوانب الحل الذي يجعل من وجود كيان يهودي في هذا الشرق "طبيعيا" وليس مفروضا بقوة الذراع.

لكن اسرائيل لن تتوصل الى مثل هذا الوضع "المثالي"، قبل ان تتحول الى ديمقراطية ليبرالية حقيقية، تعترف بحقوق الانسان والمواطن، وبالمساواة للافراد والاقليات: "اذا اصبحت اسرائيل ديمقراطية توفيقية حقيقية – يكتب كمرلنغ – ربما يصبح ممكنا ترميم هوية عليا اسرائيلية. يمكن لهذه ان تكون ذات مميزات تقوم على تعدد الثقافات والاديان والمذاهب الدينية، والمجموعات الاثنية وحتى تعدد القوميات، من خلال اعطاء الفرصة لتطور مجتمع مدني متعدد ومتنوع. الى هذه الفسيفساء يجب ان نضيف اعترافا بحقوق ومتطلبات مجموعات خاصة مثل مثليي ومثليات الجنس، والعائلات الاحادية الاب، والمعاقين جسديا او نفسيا، وبالاساس – اعطاء مكانة متساوية لجميع التيارات في اليهودية" (ص 96).

*

على امتداد صفحات كتابه الـ 128 يفتح عالم الاجتماع باروخ كمرلنغ اسئلة اسرائيل الحقيقية في مطلع الالف الثالثة، يشخصها ويحللها، لكنه لا يحسم في قدرة اسرائيل وقياداتها السياسية والامنية على الاجابة عليها، حتى عندما يقترح حلوله ومخارجه "الاكاديمية".

لكن المثقف باروخ كمرلنغ، الذي لا اخاله راغبا بلعب دور ليس له او من خارج عالمه الثقافي، يوظف هذا الغموض فيما يخص قدرة اسرائيل على ان تتغير، او ان تسقط من حساباتها "خيار القوة" مثلا في فرض حلول من عندها ومخارج من الورطة التاريخية المزمنة. لذلك وجدناه يختتم كتابه الهام هذا (صدر بالعربية هذه الايام عن "المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية" في رام الله) بالكلمات التالية:

"احد دروس هذا الكتاب يجب ان يكون قدرة اسرائيل على التغير. اذا كانت الاحوسالية بشكلها القديم قد انتهت – بعد ان ادت دورها – وصار بامكانها الذهاب، ففي ذلك بالذات علامة على وجود فرص للتغيير في هذه البلاد".

طوبى للمؤمنين!!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات