المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
تظاهرة حاشدة في تل أبيب داعية لصفقة تبادل في 9 الجاري. (إ.ب.أ)
  • كلمة في البداية
  • 43
  • أنطوان شلحت

ليس مبالغة بتاتاً أن معارضة الداخل الإسرائيلي لخطة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو التي تنصّ على احتلال غزة تبدو أوسع، وقد تكون أبعد مدى، من معارضة أي من الخطط السابقة التي تضمنتها حرب الإبادة والتدمير التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وهي معارضة تشمل أيضاً "رموز" المؤسسة الأمنية وفي طليعتهم رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي الجنرال إيال زامير.

وبحسب ما أوردت صحيفة "يسرائيل هيوم"، على لسان محللها العسكري يوآف ليمور، فإن الجهة الوحيدة التي لم تؤثر في قرار المصادقة على خطة احتلال غزة الذي اتخذّه المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر للشؤون السياسية والأمنيّة ("الكابينيت") فجر يوم الجمعة الماضي (8/8/2025)، هم رؤساء المنظومة الأمنية، الذين عارضوه بالإجماع، وحصلوا حتى على دعْم نادر من رئيس مجلس الأمن القومي، تساحي هنغبي، الذي خرج هذه المرة عن صفوف جوقة التشجيع لنتنياهو.

وبحسب ما يؤكد ليمور، وكذلك جيش من المحللين السياسيين والعسكريين، ناهيك عن قادة عسكريين سابقين، فإن احتلال قطاع غزة ذو تبِعات بعيدة الأثر على دولة إسرائيل، بدءاً بالتبعات السياسية، وانتهاء بالتبعات الأمنية ومنها زيادة الأعباء على الجيش الإسرائيلي ولا سيما على الجنود وتشكيلات الاحتياط، مروراً بالتبعات الاقتصادية. وقد ركّز أغلب هؤلاء على ما صرّح به زامير بشأن خطة نتنياهو ومؤداه أنها يمكن أن تكون "فخاً مميتاً"، ليس فقط للأسرى الإسرائيليين، ولعدد كبير من الجنود، ولآلاف الفلسطينيين، بل أيضاً يمكن أن يكون فخّاً مميتاً لإسرائيل التي باتت توصف بأنها غارقة في "متاهة غزة" ولا تنوي أن تُنهي الحرب، مثلما كتب ميخائيل هرتسوغ، السفير الإسرائيلي السابق في الولايات المتحدة ("يديعوت أحرونوت"، 7/8/2025). 

وينبغي القول إن هذا الموقف المعلن لرئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي تسبّب بسيل من التعليقات التي تشدّد على ما يتعيّن عليه أن يقوم به من دور في كل ما يتعلّق بمواقف القيادة السياسية. وقبل أن نمضي في تسليط الضوء على مجمل ما قيل بهذا الصدد حتى الآن، يجب التنويه بأن جوقة التهليل لنتنياهو وحكومته سرعان ما انتقلت، في ضوء موقف زامير هذا، إلى اعتباره متهماً بـ "التمرّد ومحاولة انقلاب عسكري، على غرار جمهوريات الموز في أميركا الوسطى في سبعينيات القرن العشرين الماضي"، وفق ما لمّح أحد المقرّبين من رئيس الحكومة في شبكات التواصل الاجتماعي. وخلصت بعض التعليقات من ذلك إلى أن الحكومة عندما صادقت على تعيين زامير في منصبه هذا خلفاً لسلفه هرتسي هليفي كانت تتطلع أكثر شيء إلى أن يكون مُجرّد ختم مطاطي لرغباتها ونزواتها، مثلما كتبت مثلاً صحيفة "هآرتس" في افتتاحية خاصة أنشأتها لهذا الغرض تحت عنوان "العدو الجديد: إيال زامير" (6/8/2025). وأضافت تقول: يبعث بنيامين نتنياهو وشريكاه بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير رسالة إلى العالم مفادها أن رئيس هيئة الأركان العامة، في نظرهم، ليس قائداً للجيش، بل هو روبوت يتم التحكّم فيه عن بُعد. إنهم لا يهتمون برأيه المهني، ويعتقدون بأنهم يعرفون كل شيء أكثر من الجميع. وفي نظرهم، وظيفة رئيس هيئة الأركان العامة ليست عرض الواقع، بل تقديم الصورة المعدلة بـ"الفوتوشوب" التي تريدها الحكومة. وإذا لم يكن زامير مستعداً للردّ على الحكومة بطاعة عمياء وصامتة، بل تجرأ على عرض الأثمان والنتائج الحقيقية لخططها، فإنهم يوجهونه إلى الباب للخروج؛ "إذا كان هذا لا يناسب رئيس هيئة الأركان العامة، فليستقِل" (حسبما نُقل عن "مصدر سياسي" إسرائيلي رفيع المستوى).

في غمرة ذلك كله في مكنتنا أن ننوّه بما يلي لدى متابعة ما تناولته شتى المقالات والتحليلات الإسرائيلية في هذا الموضوع على وجه التحديد:

أولاً، ثمة من يؤكد أن موقف الجنرال زامير يثبت أنه استوعب حقيقة أن هناك رئيس حكومة تكمن مصلحته العليا في استمرار الحرب إلى ما لا نهاية، حتى لو تناقض الأمر جذرياً مع مصلحة الدولة التي يترأس حكومتها من جهة، ومن جهة أخرى أنه لم يكن هناك من قبل هذا الكم من الوزراء الذين يجمعون بين جهلٍ فادح وخطابٍ أجوف وبعضهم يحمل رؤية دينية مسيانية. وهذا ما أكده عضو الكنيست السابق ورئيس برنامج الأمن في "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب عوفر شيلح (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 6/8/2025).

ثانياً، انهمك كثيرون في ما الذي يجب على الجنرال زامير القيام به في مثل هذه الحالة. وتمثلت خلاصة هذا الانهماك بالأساس في نتيجتين: الأولى، مطالبة زامير بالاستقالة، كما كتب اللواء في الاحتياط إسحق بريك ("هآرتس"، 11/8/2025) وغيره. والنتيجة الثانية أنه لا يحقّ لزامير الاستقالة من منصبه، وعليه أن يبقى، وأن يأخذ على عاتقه مهمة "حارس التخوم"، وهذا ما أكدّه على سبيل المثال اللواء في الاحتياط نمرود شيفر، الذي شغل منصب رئيس شعبة التخطيط في هيئة الأركان العامة ومنصب رئيس قيادة سلاح الجو ومنصب المدير العام للصناعات الجوية، والذي شدّد على أن هذه هي لحظة الحقيقة بالنسبة إلى إيال زامير، ويقصد لحظة وضع حدّ للقيادة السياسية المتطرفة وغير الشعبية، وعلى أن من واجبه أن يقول "بوضوح لا لأيّ مهمة جوهرها الترحيل، أو الإبادة الجماعية للمدنيين؛ وأن يقول لا لكل مهمة لا تهدف إلى حماية إسرائيل، وأن يقف إلى جانب الإسرائيليين كجدار حصين في مواجهة حكومة فقدت بوصلتها" (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 4/8/2025). أما الباحث والأكاديمي المتخصّص في موضوع العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري ياغيل ليفي فذهب إلى أبعد من ذلك حين كتب يقول: من واجب رئيس هيئة الأركان العامة أن يُعبّر علناً عن معارضته خطوات الحكومة في ظل الأوضاع الخاصة التي نشأت والتي تعني دفْع الجيش نحو ارتكاب جرائم حرب إضافية، لا تهدّد فقط صورة إسرائيل، بل أيضاً تُغيّر هوية الجيش نفسه. وذلك إلى جانب خطر التمرد الواسع، والتدهوُر الحاد في جهوزية الجيش، وسقوط عدد كبير من القتلى إذا ما استمرت الحرب.

وبرأي ليفي، فإن انعدام الجدوى من استمرار الحرب، وتراجُع الدعم الشعبي لها، والاشتباه المُبرّر بأن الحرب تخدم بقاء الحكومة السياسي، كلها عوامل تُبرّر رفْع الصوت، وخصوصاً في وقت أصبح فيه الإشراف البرلماني على الجيش أضعف من أي وقت مضى، إذ خضع رئيس لجنة الخارجية والأمن عملياً إلى الحكومة، ومنذ كانون الثاني الفائت، لم تستمع اللجنة إلى أي إحاطة من رئيس هيئة الأركان العامة بشأن الحرب. والأهم من ذلك أنه من المشكوك فيه أنه من حق السلطة السيادية أن تُنفذ حكم الإعدام بمواطنيها، والمقصود في هذه الحالة الأسرى، لكنّ قراراً كهذا لا يمكن أن تتخذه الحكومة بمفردها. لذا، فعلى رئيس هيئة الأركان العامة أن يُعبّر عن موقفه علناً، وإذا تم رفْضه، عليه أن يُواجه ضميره بشأن كيفية الاستمرار ("هآرتس"، 7/8/2025).

ثالثاً، ثمة نقطة مهمة أثارها ياغيل ليفي هي التحذير من استمرار الصمت على آخر المستجدّات، عادّاً إياه خصوصاً من طرف الجنرال زامير "موقفاً سياسياً يمنح شرعية" لمواقف الحكومة. وقبل ليفي أكد عالم الاجتماع يهودا شنهاف- شهرباني أن الذين يراقبون وقائع الحرب على قطاع غزة ويقفون موقف المتفرّج هم شركاء سلبيون فيما تفعله إسرائيل اليوم بالفلسطينيين. وتابع قائلاً: نحن شركاء سلبيون في أعمال الانتقام في غزة، والتجويع المؤسّس، والخطاب عن نكبة جديدة، والتطهير العرقي الذي كان يزحف والآن أمسى يندفع في أراضي الضفة الغربية. نحن المتفرّجون لأننا نعرف كل ذلك، ونعرف بشأن نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، والدعوات إلى التسوية، والحسم، والاحتلال، التي تُصاغ بلغة مموّهة تفوح منها رائحة "العبرية الجديدة": لغة نظيفة ظاهرياً، ولكن مشبعة بالرموز. نحن نعرف، ونختار الصمت. لسنا مجرّد شهود، بل أيضاً شركاء، إن لم يكن بالفعل، فبالصمت أو بالكلام! ("هآرتس"، 5/8/2025). وهذا ما ينطبق فعلاً على مواقف الرأي العام في إسرائيل في معظمه والذي لا تنفكّ أقسام منه تشارك في حراك ضد استمرار الحرب سعياً لتجنّب الخطر على حياة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة، في حين أن قيمة حياة الإنسان الفلسطيني الذي يتعرّض لإبادة لم تتجاوز أسفل سلّم قيَمهم، بل يكاد يستحيل العثور عليها.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات