في وسع من يراقب آخر المستجدات، على مستوى التحليلات الإسرائيلية المتواترة حول واقع الحرب التي تستمر إسرائيل في شنّها على قطاع غزة منذ يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أن يلاحظ أن هناك استنتاجين آخذين في الترسّخ أكثر فأكثر في أوساط أصحاب هذه التحليلات وربما في صفوف الرأي العام الإسرائيلي: الاستنتاج الأول، أن الحرب استنفدت نفسها ولم تعد تمتلك القدرة على الوصول إلى أهدافها مثلما صاغتها الحكومة الإسرائيلية ومثلما يُحدّدها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. والاستنتاج الثاني، أن هناك تراجعاً جوهرياً في مكانة إسرائيل الدولية على خلفية الحرب وما ترتكبه خلالها من ممارسات ولا سيما سياسة التجويع.
وفي ضوء هذين الاستنتاجين، ولدى الاستماع إلى كلام بعض هؤلاء المحللين والمسؤولين السابقين، الذين يتطلعون بطبيعة الحال إلى الدفاع عن إسرائيل أكثر مما إلى التعاطف مع معاناة أهل القطاع- مع وجود بعض الاستثناءات- يمكن استخلاص النتائج التالية:
أولاً، أن تدمير قطاع غزة بات هدفاً بحد ذاته، ما يعزّز الاعتقاد بأن ثمة مَن يريد منْع عودة الفلسطينيين إلى السكن في القطاع. ومثلما كتب محرّر الشؤون الفلسطينية في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم 21 تموز الحالي: لا يزال أنصار نتنياهو المتحمسون يبيعون الرأي العام في إسرائيل الأوهام بأنهم على وشك تحقيق "نصر نهائي"، للمرة التي لا ندري ما هو ترتيبها. إلا أنه في غضون ذلك، هذا حي آخر في غزة يتحوّل إلى أنقاض، وهذه مدينة أُخرى تُقصف، وذلك هجوم آخر، وتلك نتائج تُعرض وكأنها "إنجازات" ضد قادة حركة حماس أو حركة الجهاد الإسلامي، وهم أسماء لا يعرفها أحد تقريباً في إسرائيل، ومشكوك في أن قادة حماس أنفسهم في الخارج يعرفونهم. ولكن في هذه الأثناء، يُقتل مزيد من جنود الجيش الإسرائيلي، وبعضهم يُقْدِمُ على الانتحار بسبب الفظائع التي شهدها، وتحت وطأة ما مرّ به من أزمات نفسيّة. كما أن معظم المواطنين في الدولة ينظرون إلى ما يجري في غزة ويسألون أنفسهم: لماذا؟ لماذا ترفض هذه الحكومة ومَن يترأسها صفقة تبادل شاملة؟ وهناك مزيد من الآباء والأمهات، الذين يخدم أبناؤهم وبناتهم في غزة، يجدون صعوبة في تقبُّل فكرة دخولهم إلى القطاع مرة أُخرى، في جولة إضافية من دون هدف سوى تدمير المنازل والأحياء.
ثانياً، وفقاً لما يؤكده محللون إسرائيليون كثيرون، فضلاً عن عدة قادة عسكريين سابقين، فإن العملية العسكرية الإسرائيلية الحالية التي أطلق عليها اسم "عربات جدعون" مُنيت وما زالت تُمنى بالفشل، حيث أن الجيش الإسرائيلي خسر عشرات القتلى وعدداً أكبر كثيراً من الجرحى، ولم يهزم حركة حماس، ولم يتمكن من إطلاق سراح المختطفين الإسرائيليين. وكما ورد في تقارير متطابقة، فإن رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، الجنرال إيال زامير، أصبح يدرك أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لا ينوي إنهاء الحرب، بسبب ضغط كلٍّ من الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير اللذين يهددان بتفكيك الحكومة. وبرأي اللواء المتقاعد إسحاق بريك كان يتعين على رئيس هيئة الأركان طلب لقاء شخصي مع رئيس الحكومة، وأن يقول له الحقيقة المُرّة بصراحة، وهي أن الجيش غير قادر على هزيمة حماس، أو إطلاق المختطفين، من دون اتفاق، وأن كل يوم يمرّ يعني مزيداً من القتلى والجرحى، وأنه كرئيس لهيئة الأركان غير مستعد للاستمرار في حرب لا هدف لها، و"تمنع من إعادة بناء الجيش والمقاتلين وإعدادهم لمواجهة التهديدات التي تشتد أكثر فأكثر من حول إسرائيل"، وإذا رفض نتنياهو قبول كلام رئيس هيئة الأركان، فيتعين على هذا الأخير الاستقالة وعدم الاستمرار في قيادة الجنود إلى موتهم، وهو يعلم علم اليقين أنهم يُقتلون عبثاً! ("معاريف"، 23/7/2025).
ثالثاً، لا شك في أن المشهد في العالم يشهد تغيراً في الفترة الأخيرة على وجه العموم، مقارنة بما كان عليه حتى قبل مدة وجيزة. وبموجب ما أكده مثلاً مراسل قناة التلفزة الإسرائيلية 12 في أوروبا فإن العديد من وسائل الإعلام في العالم أمست تركّز على تقارير تكشف النقاب عن الحياة العاصفة في قطاع غزة بتأثير استمرار الحرب الإسرائيلية. وهي حياة عاصفة فيها الكثير مما هو غير اعتيادي وغير طبيعي، ويشير بعض وسائل الإعلام هذه إلى ما يمكن توصيفها بأنها معاناة قديمة ومتأصّلة أوجدها الاحتلال الإسرائيلي وبقيت أشبه بندبة ثقيلة وبشعة في أرواح الفلسطينيين ونفوسهم.
وفي هذا الخصوص لا بُدّ من الإشارة إلى أن عدداً من وسائل الإعلام في إسرائيل أكد مؤخراً أن الجوع والتجويع في غزة أصبحا بالنسبة إلى قطاعات واسعة في صفوف الرأي العام والحكومات في العالم بمنزلة حقيقة مطلقة لأن مئات الملايين من مشاهدي التلفاز وقرّاء الصحف وروّاد الإنترنت رأوه بأم عينهم، وفي أعينهم أيضاً تُعتبر إسرائيل هي المسؤولة أولاً وأخيراً.
رابعاً، ينطوي تغيّر المشهد السياسي العام في العالم على تداعيات ترتبط بالسياسة حيال القضية الفلسطينية من الآن فصاعداً. وفي هذا الشأن تحديداً تؤكد تحليلات إسرائيلية متطابقة أن إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مثلاً عن نيّته الاعتراف بدولة فلسطينية خلال انعقاد دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أيلول/ سبتمبر المقبل، هو نتيجة للواقع القائم في قطاع غزة، مثلما ينعكس أيضاً في فرنسا وأرجاء العالم. وذهب بعض المحللين الإسرائيليين إلى أن ماكرون متأثر بأصوات المسلمين في بلده، فردّ عليهم بعض آخر بأن هذا ربما يكون صحيحاً إلى حدّ كبير، ولكن أكدوا كذلك أن ماكرون يوشك على إنهاء ولايته الرئاسية الثانية والأخيرة، وبالتالي فهو ليس مضطراً بتاتاً إلى القلق بخصوص إعادة انتخابه، وحكومته تواجه ما يكفي من الأزمات، حتى من دون علاقة لذلك بالأوضاع في غزة. ورأى بعض ثالث أن ماكرون يتطلّع إلى أن يُخلَّد اسمه كزعيم عظيم، وكرجل دولة أحدث تغييراً، والوضع في غزة أتاح له فرصة إحداث هذا التغيير. وبحسب رؤية ماكرون، هو الأول، ولكن سيتبعه آخرون، وفي نظره، فإن فرنسا تفتح الطريق أمام دول أوروبية أُخرى، في حين شدّد بعض رابع على أنه من المُحتمل أن يكون ماكرون غير مخطئ، نظراً إلى حقيقة أن معاقبة إسرائيل، عقب الأسابيع الأخيرة، لم تعد تُعتبر فعلاً مُشيناً في نظر العالم، بل أصبحت ردة فعل أخلاقية مطلوبة بعد أن ارتكبت ما ارتكبت على مدار أكثر من واحد وعشرين شهراً.