المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
"هبة الحواجز".. المقدسيون يُفشلون فرض وقائع ميدانية جديدة.  (إ.ب.أ)
"هبة الحواجز".. المقدسيون يُفشلون فرض وقائع ميدانية جديدة. (إ.ب.أ)

مع بداية شهر رمضان في العام 2021، تطورت الأحداث بشكل متسارع داخل القدس، وبالتحديد في محيط باب العامود. فقد تزامن قيام الشرطة الإسرائيلية بنصب حواجز حديدية في مدرج بيت العامود، مع إعلان جماعات إسرائيلية يمينية متطرفة تسيير مظاهرات داخل أحياء القدس العربية ترفع خلالها شعار "الموت للعرب". وخلال عدة أيام، استقطبت المواجهات ما بين المقدسيين من جهة وقوات الاحتلال وجماعات المستوطنين من جهة ثانية، أنظار العالم قبل أن تتراجع الشرطة الإسرائيلية عن نصب الحواجز، الأمر الذي شكل نهاية لما سمُي بهبة الحواجز.

لم يكن تصرف الشرطة الإسرائيلية في وضع الحواجز اعتباطيا، تماما كما لم يكن وضعها للبوابات الإلكترونية في صيف 2017 كذلك. بل إن هناك محاولات إسرائيلية مستمرة لوضع نهاية لما يسمى "الستاتوس كو"، أو الوضع القائم، والذي تعتبره إسرائيل من مفردات الماضي التي يجب محوها من قاموس "أورشاليم الجديدة". من جهة، ترى إسرائيل نفسها مكبلة بتفاهمات "الستاتوس كو" والتي لم يعد لها مبرر. ومن جهة ثانية، تصطدم التغييرات البطيئة والزاحفة للمشهد المقدسي، بهبات مقدسية في الشوارع، وأحيانا بصدامات دبلوماسية مع الأردن أو مع المجتمع الدولي.

يعود "الستاتوس كو" المتعلق بالقدس إلى العام 1967 بعد انتهاء حرب حزيران. ضمت إسرائيل القدس الشرقية إلى سيادتها، وفرضت عليها القانون الإسرائيلي في 28 حزيران 1967. وقد أثار قرار الضم ردود فعل دولية واسعة، الأمر الذي دفع إسرائيل إلى منح الأماكن الدينية، خاصة المسجد الأقصى، مكانة خاصة من حيث إدارتها. فقد أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، ليفي أشكول، بأن إدارة المسجد الأقصى ستظل على ما كانت عليه قبل الضم، بحيث يستمر عمل موظفي الأوقاف الفلسطينيين التابعين للحكومة الأردنية. ومنذ ذلك الوقت، ظهر مفهوم "الستاتوس كو" الذي يعني صيغة توافقية تسمح بوجود منظومة فلسطينية- أردنية تشرف على إدارة المسجد في ظل سيادة إسرائيلية، بحيث أن هذه الصيغة أفرزت ما يمكن تسميته "أسلوب عمل مشترك". بيد أن "الستاتوس كو" ليس اتفاقا مكتوبا، وإنما مجرد تفاهمات متبادلة، تستمد نفوذها من ضرورتها: بالنسبة للأردن فإنها تمنع إسرائيل من التصرف بجدية في المسجد الأقصى، وبالنسبة لإسرائيل فإنها تمنع ولادة احتجاجات عارمة في مسائل حساسة مثل الدين وأماكن العبادة. (1)

بالنسبة لإسرائيل، وضع "الستاتوس كو" قيودا على قدرة إسرائيل في فرض كامل سيادتها على القدس، والشروع بالتخطيط والبناء وإحداث تغييرات استراتيجية. مع أن "الستاتوس كو"، كصيغة تفاهم غير مكتوبة، كان يقصد به المسجد الأقصى تحديدا، إلا أن الفلسطينيين تعاملوا معه مرارا على أنه يشمل كل أحياء البلدة القديمة ومحيطها، على الأقل. ويمكن القول بأن هذه الصيغة ظلت ناجحة حتى العام 1996، عندما انكشفت الأنفاق التي حفرتها إسرائيل تحت البلدة القديمة، وخاصة تحت ساحات المسجد الأقصى. منذ ذلك الوقت، تقوم إسرائيل، بشكل زاحف وتدريجي، بخلخلة "الستاتوس كو" وفرض سياسات جديدة داخل البلدة القديمة بشكل عام، وأماكن العبادة بشكل خاص.

فمثلا، في خلفية قبول إسرائيل بوضعية "الستاتوس كو"، كانت الحكومة الإسرائيلية قد طلبت من الحاكم العسكري الإسرائيلي بعد حرب حزيران الامتناع عن أي ترتيبات تتعلق بالأماكن الدينية، وطلبت أيضا من الشرطة والجيش أنه "في حال حاول اليهود الدخول إلى المسجد الأقصى، يجب اقتيادهم من قبل قوات الأمن إلى حائط المبكى (البراق)"؛ (2) بيد أن هذه الصيغة الفضفاضة لم تعن "منع" اليهود من الدخول.

فبعد أن اقتحم أريئيل شارون، بصحبة 3000 جندي إسرائيلي، باحات الأقصى العام 2000، صارت اقتحامات المستوطنين جزءاً من المشهد العام الذي يتم فرضه تدريجيا، والذي في العديد من المرات كان مصحوبا بمواجهات مع الشبان المقدسيين. في السنوات الأخيرة، هناك تنام غير مسبوق في قدرة الجماعات الصهيونية الدينية، والجمعيات الاستيطانية، في التأثير على جدول أعمال الحكومة الإسرائيلية وتجنيد المئات من عناصر الأمن لحماية الاقتحامات المتكررة للأقصى.

في العام 2014، اجتمع الملك عبد الله الثاني بنيامين نتنياهو في الأردن، وتم الاتفاق على منع دخول كل أعضاء الكنيست والوزراء والمسؤولين الإسرائيليين إلى المسجد الأقصى. لكن هذا الاتفاق، الذي كان عبارة عن تفاهم شفوي جديد، لم يشمل على ما يبدو المستوطنين الراغبين بأداة الصلوات والتراتيل داخل باحات المسجد الأقصى. بعد عامين، وبالتحديد في تشرين الثاني 2016، أقيم مؤتمر إسرائيلي بهدف تغيير "الستاتوس كو" في القدس، واشترك فيه عدة وزراء يمينيين وممثلون عن جمعيات استيطانية. وهذا المؤتمر يحمل اسم "مؤتمر مريدي صهيون"، وينعقد بشكل سنوي في ذكرى زيارة الحاخام موسى بن ميمون (الرامبام) إلى جبل الهيكل. في المؤتمر، قال رافائيل موريس، مؤسس حركة "لنرجع إلى الجبل" (المقصود جبل الهيكل، أي المسجد الأقصى): "عندما نقول ان الأقصى لنا، فهو لنا ولا يوجد بداخله أي مكان للآخرين... وبالتالي سنقوم بالاحتلال، سنحتل ليس فقط المسجد الأقصى، وانما أيضا الأردن وسورية ونقيم دولة يهودية حقيقية على أرض إسرائيل الكاملة".(3) وقد أعلن المؤتمرون أن أعداد المستوطنين الذين يقتحمون الأقصى سنويا في ازدياد "مريح" إذ وصل في العام 2016 إلى 14 ألفا.

يترافق هذا التغيير الملموس على "الستاتوس كو"، مع تضييقات أخرى تطال بروتوكولات الدخول إلى باحة المسجد الأقصى، كما حصل في هبة البوابات الإلكترونية العام 2017، بالإضافة إلى تثبيت ثكنات عسكرية مصغرة في المنطقة القائمة ما بين باب العامود وباب الساهرة، والآن محاولة وضع حواجز في ساحة باب العامود.

يجب أن توضع كل هذه التغييرات التدريجية، سواء نجح بعضها أم تم إفشال بعضها الآخر بفضل الهبات المقدسية، في سياق تحول إسرائيل إلى مجتمع أكثر يميني. عندما تم تأسيس "الستاتوس كو"، في العام 1967، كانت الحكومة الإسرائيلية، ونخب الجيش، في معظمهم أشكناز علمانيين لا يهددون عروبة الأماكن المقدسة، لكنهم يريدون السيطرة عليها. فمثلا، اعتبر موشيه ديان أن المسجد الأقصى هو موقع تاريخي يجب المحافظة عليه، وليس موقعا دينيا لليهود حق في الدخول إليه.(4) في المقابل، أدى تنامي دور الصهيونية الدينية، والجمعيات الاستيطانية الدينية، إلى تغيير هذا الخطاب العلماني وفرض صيغ جديدة تضع المسجد الأقصى في صلب الاهتمام الاستيطاني من خلال تجيير خطابات توراتية. وفي هذا السياق، يمكن فهم زيارة بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير إلى منطقة باب العامود خلال شهر رمضان تحضيرا لمسيرات يقودها اليمين الديني المتطرف.

هوامش:

1- إسحق رايتر، "الستاتوس كو" يتغير: الصراع على السيطرة على المسجد الأقصى (القدس: معهد القدس لأبحاث إسرائيل، 2016).
2- المصدر نفسه.
3- نير حسون، "وزراء ورئيس الكنيست في مؤتمر لتغيير ’الستاتوس كو’ في جبل الهيكل: إنه يغبن الشعب اليهودي"، هآرتس، 2016
https://www.haaretz.co.il/news/politics/1.3115123
4- إسحق رايتر، مصدر سبق ذكره.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات