المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
حيفا: استنشاق الموت.
حيفا: استنشاق الموت.

تحوّلت مدينة حيفا منذُ ثلاثينيّات القرن الماضي – في فترة الانتداب البريطانيّ - إلى مركزٍ صناعيّ وصارت صاحبة الميناء الأضخم في فلسطين. تخلّل ذلك تطوير شبكة الطرق والقطارات في المنطقة ومصانع أخرى في مجالات النفط، الأمر الذي ساهم بشكلٍ مباشر في ازدياد انبعاثات العديد من الملوّثات في الهواء.

نستعرض في هذا الحوار مع الباحثة سميّة فلاح الإشكاليّات المتعلقة بتلوّث منطقة خليج حيفا ومآلاتها، والمتراكمة منذُ بدايات القرن الماضي، وسنحاول أن نعطي تمهيداً لفهمِ تلوّث الهواء في منطقةِ حيفا خاصّة وفلسطين عموماً، وما هي العوامل المختلفة التي تؤثر على تركيزات ملوثات الهواء في خليج حيفا؛ مع العلم أن مستويات تلوّث الهواء المُقاسة في منطقة خليج حيفا اليوم منخفضة نسبياً مقارنة بالتركيزات التي تم قياسها في مناطق أخرى من البلاد، وكانت كذلك على الأقل خلال العقد الماضي، خصوصاً مع صدور العديد من التقارير الصحافيّة والأبحاث التي تشدّد على تلّوث خليج حيفا بمستوياتٍ عالية. سنحاول من خلال الحوار استيعاب التحوّلات الجارية وأثرها على صحّة السكّان في حيفا، وأيضاً إلقاء الضوء على مسؤولية المستوى السياسيّ والمهنيّ فيما يتعلق بالحدّ من الظاهرة أو عدمِ الاكتراث.

سميّة فلاح حاصلة على ماجستير في مجال هندسة المياه، وتناقش حالياً رسالة الدكتوراه في علوم الغلاف الجوّي وتغيّرات المناخ، في معهد التخنيون في حيفا، بالإضافةِ إلى عملها البحثيّ في مجال تلوث الهواء في إثر الصناعة.

(*) بدايةً هل من الممكن أن تعطينا لمحات سريعة حولَ التلوّث البيئي وعلاقتهِ بالصناعة وازدياد انبعاثات الغازات الملوّثة وأهمها ثاني أكسيد الكربون في الهواء؟

فلاح: التلوّث البيئيّ يتخلّل عدّة مجالات من التلوّث؛ تلوّث المياه الجوفيّة وتلوّث التربة وتلوّث الهواء وهذا تحديداً ما أسلّط عليهِ الضوء في أبحاثيّ. في سياق حيفا سنركّز على تلوّث الهواء، ونقصدُ بهِ التغيّرات على التركيبة الطبيعيّة للهواء (78% من النيتروجين، و21% من الأكسجين، وتقريباً 1% غازات أخرى) ونعتبرها تلوثاً للهواء، وما نرصدهُ هو التغيّرات في إثر الصناعات العديدة.

على سبيل المثال، حينما يتنفّس الإنسان مركّبا غريبا في الهواء، أي يقوم بإدخال ملوّثات إلى الجسم، وبحسب أنواع التلوّثات تنتج أمراض، وتوجد مركبّات عضويّة تتبخّر في الهواء (Evaporate)، وما نعرفهُ اليوم إزاء بعضها على أنها تتسبّب بسرطان. وأيضاً مركّب "ديوكسين" (Dioxin) يحفّز أمراض سرطان. كذلك وجدنا معادن في الهواء ("كوبلت" و"فضّة") قد يسبّب تبخرّها إلى الهواء وتنفسها أمراضا مزمنة. جميع هذهِ المركبّات هي أساساً صادرة عن مصانع وإعادة تدوير الحديد خصوصاً، أو عمليّات احتراق معيّنة، وعموماً هذا هو ما نسميه تلوّث الهواء.

(*) كيف نستطيع فهم ارتباط تلوّث الهواء بالتغيّر المناخي من جهة، وبحياة الإنسان وصحّته من جهة أخرى؟

فلاح: أولاً المعيار الأول لفهمِ علاقة ذلك بالتغيّر المناخي، هو التوازن البيئيّ في علاقتهِ بالشمس والكرةِ الأرضيّة. بالتالي، انبعاثات غازات معيّنة إلى الهواء تؤثر على توازن الشمس والكرة الأرضيّة؛ أي أنها تؤثر على المناخ. على سبيل المثال، غاز ثاني أكسيد الكبريت (SO2) ينتج طبيعياً في إثر انفجار البراكين، وحالياً ينتج في إثر محطّات الطاقة، بازديادٍ كبير وتركيزٍ عالٍ، وما نستطيع قوله إزاء تواجده في الهواء (SO2) هو أنه لا يمتصّ أشعة الشمس بتاتاً، وهو مبدّد للحرارة (Heat dissipation)، مما يخلّ بالتوازن من خلال "تبريد صناعيّ".

أمّا غازات ملوّثات أخرى حينما تصعد إلى طبقات الغلاف الجوّي، فهي تؤثر على المناخ وأيضاً على أشعة الشمس، بسببِ امتصاص أنواع غازات للأشعة، تزداد أشعة الشمس، مما يعمل على "تسخين صناعيّ"، وهذا يخلّ بالتوازن البيئيّ أيضاً. على سبيل المثال، "الكربون الأسود" (C) يمتصّ أشعة الشمس، ويسبب ازدياد أشعة الشمس، وفي إثر ذلك نستطيع أن نرصد ظاهرة التصحّر ليسَ بفعلِ الطبيعة. بالمقابل أنواع غازات مثل ثاني أكسيد الكبريت، تبدّد حرارة أشعة الشمس، أي عكس الامتصاص، وهي أيضاً تؤدي لتغيّرات المناخ، بسبب إخلال التوازن بينَ أشعة الشمس التي تصل إلى الأرض كما ذكرنا آنفاً.

تلوّث الهواء يؤثّر على حياة الإنسان والمجتمع على أصعدة عديدة، بدايةً الصحّة والسلامة الفرديّة؛ نجد أن الوفيّات التي يسببها تلوّث الهواء على المستوى العالميّ عالية جداً، وتأتي قبل الإكثار من شرب الكحول وتقترب من أمراض الكوليسترول والتدخين. ومن المهمّ التشديد على أننا نتحدّث عن تلوّث الهواء الناتج عن الصناعة، وليسَ عن تلوّثات طبيعيّة من البراكين أو العواصف الرمليّة، التي لا تقترن مع نسب وفيّات عالية. أما تلوّث الهواء الصناعي، فإن الإنسان [الشركات والمصانع] يسببه، وهو المسؤول عن تدهور صحّة الإنسان والسلامة الفرديّة في العديد من المناطق.

وحينما ننظر إلى خريطة تلوّث الهواء، نجد أن منطقة الشرق الأوسط تمتلك نسبا عالية من لكنها طبيعيّة على عكسِ الصين والولايات المتحدّة اللتين أيضاً تمتلكان نسبا عالية من تلوّث الهواء، التي ننسبُ مصدرها إلى الصناعات العديدة، وتسبب بدورها وفيّات عالية.

(*) إذن، ما هي المسببات الأساسيّة التي حفّزت التلوّث في حيفا؟

فلاح: دائماً علينا أن ننظر إلى المناطق الصناعيّة، من حيثُ أهميّتها وتأثيرها على تلوّث الهواء. وتوجد خمس مناطق صناعيّة تسبب أعلى نسب تلوّث للهواء، تحت السيطرة الإسرائيليّة: 1) مصانع البحر الميّت، 2) المنطقة الصناعيّة "روشيم روتيم" في النقب، 3) المنطقة الصناعيّة في أسدود، 4) المنطقة الصناعيّة في بئر السبع "ناؤوت خوفاف"، 5) المنطقة الصناعيّة في خليج حيفا.

نعتبر خليج حيفا الأكثر تلويثاً لمدينةِ حيفا والمحيط والأكثر تلوّثا من ناحية الموادّ العضوية التي تنبعث إلى الهواء، بسبب معامل تكرير النفط الموجودة هناك منذُ الانتداب البريطاني، وفقط أودّ لفت الانتباه إلى أهميّة معامل التكرير النفط في حيفا، في علاقتها بالمشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ، حيثُ أنه اعتبر بداية تطبيق الوعد البريطانيّ من خلال وضع حجر الأساس لـ"دولةِ اليهود الحديثة"، وذلكَ يعود إلى المنظور البريطانيّ والعالم في ذلك الحين إلى النفط على أنه البناء التحتيّ لجميع مجالات الحياة الحديثة وأساس الدولة المادّي (بالطبع نرى أن المنظور ما زالَ مستمراً)، وبقيت معامل تكرير النفط تحت السيادة البريطانيّة حتى سنوات التسعينيات، بسبب الملكيّة البريطانيّة عند إنشاء المعامل، التي حددت بريطانيا بأنها ستبقى تابعة لها حتى 100 عام كحدّ أقصى. وعندما أصبحت تحت ملكيّة الدولة الاسرائيليّة، وفي إثر السياسات النيوليبراليّة في تلكَ الفترة، قامَ أشخاص من القطاع الخاصّ بشراء المعامل، واليوم هي تحت ملكيّة "الإخوة عوفر".

لنعد إلى حال خليج حيفا اليوم، فهو يعتبر من أحد المراكز الأساسيّة لانبعاث غازات تلوّث الهواء، بسبب تواجد مفاعل "البتروكيميائيّ"، بالإضافةِ إلى ميناء حيفا، وأماكن تخزين موادّ كيميائيّة تنبعثُ منها موادّ عضويّة ملوّثة للهواء في إثر تخزينها، وهي تتواجد بشكلٍ دائم في ميناء حيفا. وأيضاً من ناحية المواصلات وازدياد السيّارات والمركبات الخاصّة. وما يجعلُ الأمور أكثر صعوبةً على مدينة حيفا؛ وجودها الطوبوغرافيّ على الجبل، الذي يمنع حركة الهواء ويعيقها، لذلك تبقى معدّلات تركيز الملوّثات في الهواء عالية جداً في حيفا، والتي يمكن القول إنها تتنفس الموت نتيجة لذلك.

من المهمّ الإشارة، إلى أن انبعاثات غازات التلوّث كما نراها في تقارير المصانع هي خاطئة وليست دقيقة، وذلك لتجنّب المصانع تسليم الوزارة معلومات دقيقة حول الانبعاثات خوفاً من العواقب. يُشار إلى أن قانون "سجّل إطلاق ونقل الملوّثات" (Pollutant Release and Transfer Register) هو عبارة عن قاعدة بيانات أو جرد للملوّثات التي تطلق في الهواء والماء والتربة بواسطة المصانع و/ أو المنقولة خارج الموقع للمعالجة أو التخلّص. [وأُنشئ نظام سجلات إطلاق ونقل الملوثات في إسرائيل بموجب قانون حماية البيئة للعام 2012؛ كان هذا أحد الالتزامات التي أخذتها على عاتقها خلال عملية انضمامها إلى "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (OECD) في العام 2013]. ويُلزم القانون المصانع بتقديم معلوماتٍ حول الملوّثات والغازات التي تنبعث إلى الهواء. وبالتالي، المصانع تصرّح وفقاً لحساباتٍ ومعايير ومعادلاتٍ مختلفة، حسب أنواع الغازات ومصدر التلوّث مما يعيق الحصول على دقّة في المعلومات حول مدى التلوّث الحقيقيّ في حيفا، مما يجعلنا نعتقد أن التلوّث أسوأ بكثير مما نراه في التقارير.

نجد لدى رصد تلوّث الهواء في حيفا، من خلال 28 محطّة تقيس انبعاثات الغازات الملوّثة للهواء منها مستقلّة وأخرى تمتلكها المصانع، أن ثلاثا منها بجانب معامل تكرير النفط في حيفا، وأكدّت المحطّات بأن مادّة عضويّة تتطاير في الهواء- "غاز بنزين"- تتسبّب بمرضِ سرطان، ونجدها بتركيز عالٍ في خليج حيفا، في منطقة معامل تكرير النفط ومنطقة المصانع البتروكيميائيّة.

(*) ما هي العمليّات بالضبط التي ينتج عنها التلوّث في منطقة خليج حيفا وتحديداً أقصد معامل تكرير النفط؟

فلاح: بدايةً يصل النفط كمادّة خامّ إلى ميناء حيفا، ثمّ تجري عمليّة نقلهِ من خلال الأنابيب، في هذهِ العمليّات، فإن عملية التخزين والنقل بذاتها تبعث غازات تلوّث الهواء. ومن جهةٍ أخرى، فإن عمليّة الصناعة؛ أي تكرير النفط، باعتبارها فصلا بين مركبّات النفط مثل المازوت والسولار والبنزين والكيروسين (يستخدم وقود للطيّارات)، تؤدي إلى انبعاثات ناتجة عن هذهِ العمليّة، هي غازات ملوّثة. بالتالي الغازات الملوّثة هي خطرة، موادّ عضويّة متناثرة، والتي تتسبّب بالسرطان.

(*) هل من الممكن توضيح لماذا حدثَ ذلك في هذا الحجم تحديداً في خليج حيفا؟

فلاح: بسبب تضافر عدة عوامل؛ تركيز المنشآت الصناعية الكبيرة التي تنبعث منها ملوثات في الهواء - يوجد 25 مصنعاً في المنطقة تعدّ الانبعاثات منها الأكثر خطراً و100 محطة أخرى مع احتمال تلوث الهواء أقل. حمولات النقل إلى الميناء التي تتميز بتركيز عالٍ لشاحنات تعمل بالديزل تخدم الميناء والمصانع والمتنقلين عبر الخليج شمال وجنوب البلاد، وأيضاً البنية التحتية الوطنية لاستيراد وتصدير وتخزين المواد الخطرة بشكل عام والنفط الخام ومقطّرات الوقود كما تحدّثنا سابقاً.

وما يجعل ذلكَ خطيراً بشكلٍ غير مسبوق؛ القرب المادي المباشر من التجمعات السكانية، والطوبوغرافيا والمناخ الذي يجعل من الصعب تشتت الملوّثات بل على العكس يحفّز تركيزها في منطقةِ حيفا. ونجد دلائل على هذهِ المخاطر في معطيات نشرتها وزارة الصحة في العام 2007، حول معدّلات مرض السرطان غير الطبيعيّة في منطقة حيفا.

(*) إذن، في ظلّ جميع ما تحدّثنا عنهُ حول الملوّثات التي تواجهها حيفا، هل تعمل الدولة للحدّ من التلوّث، من ناحية القوانين والسياسات أم أنها لا تكترث؟

فلاح: صدرَ في العام 2008 قانون "الهواء النظيف" وبموجبهِ المصانع مُلزمة بأن تحافظ على معايير معيّنة متعلقة بانبعاثات الغازات. ومن المهمّ الانتباه إلى أن الإلزام هو نظريّ فقط. وأقصد أنها فعلياً لا تحافظ. كيف ذلك؟ الأمر متعلّق بأدوات القياس. مثلاً، الجسم التابع للوزارة يقيس الانبعاثات من خلال دخان الناتج- "المدخنة"، وفقاً لمعايير دوليّة، حددها الاتحادّ الأوروبيّ، وقرّرت الوزارة في العام الواحد أن يصلها تقريران حولَ الانبعاثات، مرّة كلّ ستة أشهر، عبر الدخان والغازات الناتجة عن "المدخنة"، والمصانع على علم بمواعيد القياس، بالتالي، في هذا الوقت تحديداً، المصنع يخفضّ من الانبعاثات مما يؤدي إلى خلق أرقام غير دقيقة. لذلك على المستوى السنويّ بمجملهِ تكون النسبة أعلى بدرجات نتيجة عدم مصداقيّة الشركات والمصانع. في المقابل، توجد أجهزة قياس تستطيع أن تقيس الهواء والدخان الناتج عن "المدخنة" بشكلٍ يوميّ مما يجعل الأرقام دقيقة أكثر.

(*) لماذا لا تستخدم الوزارة أدوات القياس اليوميّة بشكلٍ دائم لتمنع انحرافات وعدم دقّة في الأرقام؟

فلاح: أولاً بسببِ ارتفاع أسعارها وتكلفتها الباهظة، مع التشديد على أنها تستخدم من أجل أنواع ملوّثات معيّنة، وفقاً لمعايير كميّة تركيز التلوث، ونوع الملوّث وخطورته. حيثُ أن البنزين، الجهاز غير معدّ لقياسهِ. بالمقابل فإن ثاني أكسيد الكبريت (S02)، من الممكن قياسه. بالتالي، لا نعلم عن تركيز تلويث البنزين في الهواء، وكما ذكرنا أعلاه فإنه يعتبر المسبّب الأول لمرضِ السرطان. ناهيك عن أنه توجد مصادر أخرى غير "المدخنة" تنبعث منها الغازات، وهي غير مراقبة ولا نستطيع رصدها وتقديم تقارير حولها، وخصوصاً مادّة البنزين التي تنبعث من مصادر غير معروفة لنا بشكلٍ كبير، مقارنةً مع المصادر التي نستطيع رصدها.

المصطلحات المستخدمة:

مركز, التخنيون

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات