المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
الحريدية والصهيونية الدينية : تنافذ يخلقه الواقع الإسرائيلي.
الحريدية والصهيونية الدينية : تنافذ يخلقه الواقع الإسرائيلي.

 يعرض الكتاب الصادر حديثاً عن "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية": "الحردليِّة، تاريخ، أيديولوجيا وحضور"، للكاتب والصحافي يائير شيلغ، فصلاً مهماً من التطور الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي في دولة إسرائيل، وفي المشهد اليهودي الصهيوني العام. وهو، كما يؤكد المؤلف، يتناول نشوء وصعود مجموعة محددة داخل التيار الديني- القومي الإسرائيلي، الذي يزداد هيمنة في الحياة المدنية كما العسكرية، ولعب في منعطفات جديدة غير قليلة دوراً حاسما في تشكيل حكومات ووضع سياسات وبلورة أولويات. وبفعل دوره الرئيس والمركزي في قضية الاستيطان في المناطق الفلسطينية المحتلة، التي تعتبر من العوائق الأولى أمام أية تسوية سياسية في الصيَغ المعروفة والمتعارف عليها، فإن هذا التيار والحاصل فيه يتحوّل إلى عامل مؤثّر بدرجة كبيرة جداً على ما يتجاوز الحيّز السياسي والاجتماعي الداخلي الإسرائيلي، ليمتد إلى مستوى إقليمي مركزه ما يُسمى الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني وذلك الإسرائيلي-العربي، أو ما تبقى منه!

في فصل الشكر الذي وجهه الباحث، يبرز اعتماده على مصادر بحثية عامة وأخرى متخصصة في المجتمع الديني والديني- القومي في إسرائيل. وكذلك الشخصيات الناشطة في مجال التعليم والتربية في القطاع التابع للمتدينين القوميين والحركات والمؤسسات الشبابية التابعة لها. هناك كثير من اللقاءات مع المصادر الصحافية والجمعيات وعلى نحو خاص تلك التي تغطي وتنشط داخل المجتمع الديني عموما والديني القومي تحديداً.

فيما يلي نقدم ترجمة خاصة لمدخل الكتاب ومقدمته.

ملخّص عام

تبرز داخل عالم الصهيونية الدينية منذ نحو ربع قرن مجموعة فرعية مهمة. هؤلاء هم أشخاص يحملون وجهة نظر صهيونية تماما: يخدمون في الجيش، يولون أهمية لتقديم أقصى مساهمة نحو الدولة والمجتمع، بل يرون في الدولة قيمة دينية. بالمقابل، من ناحية رؤيتهم للثقافة الغربية العلمانية فانهم يشبهون الحريديم أكثر: يحاولون الابتعاد عن استهلاك ثقافة علمانية وحتى يتشدّدون على نحو مُغال في أعراف الاحتشام والفصل بين النساء والرجال.

لقد حظوا على مر السنين بتسمية حردليم التي تجمع بين كلمتي حريديم وقوميين باللغة العبرية. وهم من تولوا مسؤولية عدد من السيرورات البارزة في الصهيونية الدينية خلال الجيل الأخير – خصوصا ما يخص الفصل بين الجنسين وإقامة مؤسسات تعليم تتباهى بالتشدد التوراتي المغالي، وفي الوقت نفسه يتركون أثراً واضحاً على المؤسسات القديمة للتعليم الرسمي الديني. وهم يبرزون في السنوات الأخيرة على المستوى القطري القومي الإسرائيلي العام: حملاتهم ضد مجموعة المثليين والضغط على السياسة الحريدية كي لا توافق على أية تسويات بشأن حائط المبكى (البراق) ومجال التهويد.

على الرغم من أهميتهم وحضورهم منذ سنين، لم يُنشر حتى اليوم بحث يتقصى ظاهرة الحردلية على نحو معمق. ويسعى يائير شيلغ إلى سد هذا النقص من خلال بحثه الرائد المقدم في هذا الكتاب.

يصف الكتاب خلفية نشوء ظاهرة الحردلية، تطورها على مدى السنين التي نشطت فيها، المجموعات الفرعية في داخلها وكذلك الرؤية المشتركة لها جميعا.

كذلك، يسعى الكتاب لتحديد المواقع التي تشكل فيها الظاهرة الحردلية خطراً، أو تحدياً على أقل تعديل، للديمقراطية الإسرائيلية ويوصي بعدد من الطرق لمواجهة هذه المخاطر.

كان يائير شيلغ حتى الفترة الأخيرة باحثا في برنامج "الدين والدولة" في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، وأجرى هذا البحث في إطار عمله في المعهد. وهو يعمل صحافيا في جريدة "ماكور ريشون"، يبحث في المجتمع الديني – القومي بمختلف أطيافه ومسائل التوتر والتوازن ما بين الهوية اليهودية، الديمقراطية والإسرائيلية.

مقدمة الكتاب

بدأت تبرز في سبعينيات القرن السابق داخل المعسكر الصهيوني- الديني ظاهرة جديدة: صار المزيد والمزيد من الشبان يتشددون في فرائض مختلفة لم يتم التشدد فيها على نحو مُفرط في العقود السابقة: ارتداء "تسيتسيت" - العباءة ذات الخيوط المتدلّية (وعلى أحيان متقاربة بشكل تظاهري، بواسطة إخراجها وإظهارها خارج الثياب)؛ أداء ثلاث صلوات في اليوم (خلافا للاكتفاء بصلاة فجر فقط)؛ غسل الأيدي قبل أكل الخبز؛ وما شابه.

في هذه السنوات بدأت أيضا تعلو انتقاداتهم ضد جهاز التعليم المخصص للوسط الديني- القومي على أنه لا يربي على التشدد اللائق من ناحية الشريعة اليهودية: فلا يهتم المعلمون أنفسهم بارتداء العباءة وإقامة الصلوات الثلاث يوميا، فبالتالي لا يمكنهم مطالبة تلاميذهم بذلك؛ لا تلتزم المعلمات بالضرورة بإقامة قواعد اللباس وفقا للشريعة، والمتزوجات منهن لا يتشدّدن دائما في وضع غطاء الرأس.

تم توجيه النقد بدايةً ضد جهاز التعليم الرسمي، المدارس الرسمية- الدينية، ولكن خلال بضع سنوات وصلت الانتقادات أيضا إلى الجهاز غير الرسمي، أي حركات الشباب. وهنا تمحور النقد بالأساس في مسألة المجتمع المختلط: أيّ وجود لنشاط مختلط للبنات والبنين بحد ذاته، بما في ذلك الرقص المختلط وقضاء الوقت المشترك في البحر وبرك السباحة، الذي اعتبر انحرافا خطيرا عن التعاليم الملزمة للشريعة الدينية اليهودية (فيما يلي: الهلاخا).

في أعقاب هذا النقد نشأت بدائل: شبكة مؤسسات التعليم (نوعام) التي أقيمت كي توفر للأطفال المتدينين تربية أكثر تشدداً وفقاً للهلاخا مثلما هو متعارف عليه في التعليم الرسمي- الديني؛ أقيمت في حركة بني عكيفا فروع تم فيها فصل نشاطات البنات والبنين؛ أما المتشددون أكثر فقد أقاموا "أريئيل"، وهي حركة شبيبة جديدة تلتزم بالفصل التام بين الجنسين. بنظرة إلى الخلف، كانت هذه التعابير الخارجية الأولى للظاهرة التي عرفت لاحقا باسم الحردلية – حريدية قومية. المقصود، وجهة نظر شاملة تتماثل مع الصهيونية، القومية، الدولة، الطابع الرسمي وتدعم الخدمة في الجيش الإسرائيلي والقيام بسائر تعاليم الصهيونية؛ لكنها تبتعد بشكل قاطع عن المعيار السائد في الصهيونية الدينية بشأن الحياة الحديثة. فغالبية من ينتمون للصهيونية الدينية يميلون لاعتماد أنماط حياة تميّز الثقافة الغربية الحديثة، مثل المساواة في الحقوق بين النساء والرجال واستهلاك ثقافة "عامة"، هي عملياً ثقافة غربية؛ هذا بينما وجهة النظر الحردلية أقرب في هذا الشأن إلى العالم الحريدي (ومن هنا جاء اسمها)، وترفض "روح العصر" الليبرالية، وخصوصاً في المجالين المذكورين – طابع العلاقات بين الرجال والنساء، المرتبطة بمسائل مثل مكانة المرأة والتشدد في الاحتشام؛ والنظرة والتعامل مع الثقافة العلمانية والتعليم العام.

يجدر في هذه المرحلة التأكيد على أمرين. أولاً، يرى العديد ممن يسمون بالحردليين أن هذا اللقب مهين ويعتقدون أنه لا يعكس عالمهم بشكل صحيح، لأنهم لا يتماهون مع الرؤية الحريدية، وهم أنفسهم يفضلون عموماً اللقب التوراتي- القومي، والذي يحمل من جهتهم دلالة أكثر إيجابية، إذ أنه يربط التشدد في مسائل الهلاخا مع تعاليم التوراة وليس مع الرؤية الحريدية. على الرغم من هذا سيواصل البحث استخدام مصطلح الحردليين، ليس لأن الأمر أسهل فقط، بل لأنه يعرّف بشكل أفضل مصادر التأثير على المجموعة، النقاط المفصلية وكذلك التحديات والمصاعب المتعلقة بها.

ثانياً، على مر سنوات وكلما اتسع أكثر طيف الهويات الإسرائيلية، نشأت مجموعة موازية في العالم الحريدي نفسه: أشخاص أصولهم من العالم الحريدي ولكنهم بدأوا بالتعبير عن تماثل معين مع الفكرة القومية – بما في ذلك الخدمة في الجيش أو التطوع في أطر بديلة. يمكن على سبيل الافتراض تعريف هذه المجموعة أيضاً على أنها حريدية- قومية، لكن هذا البحث لن يتناولها بل سيتركز كما ذكرنا فيمن وصل إلى الرؤية الدينية المتشددة التي جعلته يحظى بلقب الحردلي من وجهة نظر صهيونية- قومية.

تشكل الحردلية تحدياً للديمقراطية الإسرائيلية في عدد من المفاهيم. قبل كل شيء، تضع تحدياً داخلياً جدياً أمام القطاع الصهيوني الديني. فهي تستند إلى مصادر الهلاخا التي يفترض أنها ملزِمة لكل المعسكر الديني - القومي، لغرض تأكيد أولوية التوراة والهلاخا بوصفها مقولة الرب في العالم، على أي حسم إنساني- ديمقراطي. ولكن الأمر لا يتلخص في أن هذا الموقف، حين يكون بحد ذاته، يمسّ بنسيج الحياة الديمقراطية وباستعداد كل المجموعات السكانية لقبول قواعد اللعبة الديمقراطية، بل إن المضامين العينية للرؤية التوراتية لدى أبناء هذه المجموعة تثير مصاعب: التشديد على الدور المختلف للرجال وللنساء؛ التشديد على مركزيّة شعب إسرائيل وتفضيله على شعوب أخرى؛ معارضة أية تسوية في مسألة الأرض، ناهيك عن التشدد في إخلاء مستوطنات؛ معارضة الجهاز القضائي الذي لا يستند إلى الهلاخا؛ النزعة، بدرجات متفاوتة من المغالاة، إلى رفض الثقافة العلمانية الغربية وحتى الثقافة العامة – هذه المسائل جميعها تضع تحدياً حقيقيا أمام الديمقراطية.

علاوة على ذلك: مثلما سيتم التوضيح لاحقاً، فإن المجموعة الحردلية من ناحية عددية هي مجموعة أقلية ضمن الصهيونية الدينية. على الرغم من ذلك فهي بارزة جدا سواء في الحقل التوراتي أم في حقل التربية الدينية- القومية – وهما حقلان مركزيان يؤثران بعمق على بلورة خطاب وهوية هذا القطاع.

الحردلية لا تؤثر بطبيعة الحال على القطاع الصهيوني- الديني الذي تنتمي إليه فحسب، لأن المشاكل التي تثيرها لها أهمية قومية عامة، فالصهيونية الدينية وبضمنها الحردلية تطمح إلى موقع قيادي في المجتمع الإسرائيلي، سواء من خلال التعاون مع نخب أخرى أو من خلال موقف مهيمن. خلافا للقطاع الحريدي الذي يجمعه قاسم مشترك مع الحردلية من حيث المرجعية التي يوليها للتوراة والهلاخا ووضعهما فوق الخطاب الإنساني- الديمقراطي ولكنه ينزع إلى الاكتفاء بضمان حقوقه ولا يصبو غالبا إلى الحكم المهيمن، فإن الحردلية تضع تحديا أمام الخطاب الديمقراطي بفعل الدمج ما بين الطموح إلى السيطرة على الحكم، وبين رؤية تتعارض معظم فرضياتها مع قواعد اللعبة الديمقراطية الأساسية.

المفاجئ إلى حد كبير، أنه على الرغم من حضور التيار الحردلي في الصهيونية الدينية منذ سنوات طويلة، وبالتالي في الحقل العام الواسع للمجتمع الإسرائيلي، وعلى الرغم من المخاطر التي ذكرناها هنا، لم يتم حتى اليوم إجراء بحث شامل حول هذه المجموعة. والبحث المقدم هنا يسعى إذن إلى سد الفراغ. ولقد قام المنهج البحثي على مصادر مكتوبة، تشمل أبحاثا ومقالات أكاديمية تناولت الحردلية والظواهر التي تتقاطع معها وكذلك كثير من التقارير الصحافية؛ وعلى مقابلات شخصية مع أبناء عائلات مختلفة في العالم الحردلي أو مع اشخاص تربطهم علاقات حثيثة مع الحردلية بحكم عملهم الجماهيري (مربّون، إعلاميون وغيرهم).

فصول الكتاب

سوف يتمحور الفصل الأول في رؤية الحردلية للعالم: ما هي مبادئها المركزية؟ ما هي المجالات التي تسعى إلى التمحور فيها ولماذا تتمحور فيها بالذات؟ ما الذي يميز الحردليين؟ وبشكل أساس مقابل سائر أبناء الصهيونية الدينية، في مجالات مركزية مثل مكانة المرأة، التعامل والنظرة إلى غير اليهود، التعامل مع الديمقراطية والقيم الليبرالية، استهلاك ثقافة ترفيه "علمانية" وغيرها.

ويحلل الفصل الثاني المجموعات الفرعية في المجموعة الحردلية: المجموعتان الرئيسيتان، عناصر "يشيفات هار همور" مقابل عناصر "يشيفات مركاز هراف"، وثلاث مجموعات فرعية أصغر منهما.

هرة الحردلية: كيف نشأت ومتى بزغت؟ (ليست هذه مراحل متماثلة؛ أشبه بالأطفال فإن الحركات الاجتماعية لديها مرحلة جنينية تسبق خروجها إلى العالم) ولماذا نشأت في الوقت الذي نشأت فيه؟ ويتطرق الاستعراض إلى المراحل المركزية في تاريخ الحردلية منذ بدايتها وحتى اليوم ويبحث أسباب المد والجزر في مكانتها القطاعية ومكانتها في المجتمع الإسرائيلي ككل.

يتقصى الفصل الرابع بالتفصيل مضامين النشاط الحردلي. وغايته التمحور في الأهداف التي وضعتها الحردلية لنفسها وطرح الأسئلة بشأن القضايا التي أشغلتها على مر السنين. ولا يكتفي هذا الفصل في عرض أهداف الحركة الحردلية، بل يتقصى الأدوات ("وكلاء التأثير") التي استخدمتها من أجل الوصول إلى كل واحد من أهدافها تلك بل يخوض أيضا في المواجهات التي أثارتها سواء في المعسكر الديني- القومي أو في خارجه.

الفصل الخامس يتناول قوة جذب الحردلية وأسبابها، سواء في النواة الأيديولوجية "الصلبة" أو في صفوف الجمهور الديني الواسع.

يتناول الفصل السادس التحديات التي تضعها الحردلية أمام الديمقراطية الإسرائيلية: التوتر ما بين مصدر المرجعية الدينية وبين مصدر المرجعية المدنية الديمقراطية؛ مكانة الجهاز القضائي؛ الموقف من غير اليهود والنساء، الموقف من المثليين، والموقف من الثقافة والتربية العامة، وغيرها.

أما الفصل السابع فهو فصل التلخيص والتوصيات. وستُعرض فيه طرق للتعاطي مع تلك التحديات، انطلاقا من فرضية أنه يتطلب إجراؤها أولا في الحقل التربوي والعام داخل القطاع الديني القومي، ليس بواسطة إنفاذ القانون (ما عدا في الحالات الجنائية الواضحة)؛ ولا حتى بواسطة التدخل من خارج القطاع، إذ قد يفوق ضررها فائدتها.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات