شكّل قرار الحكومة الإسرائيلية بإقالة المستشارة القانونية للحكومة، غالي بهراف ميارا، بمسار مخالف للقانون والأنظمة، محطة مركزية في تسارع سيطرة اليمين الاستيطاني الحاكم على المستوى المهني في مؤسسات الحكم، الذي بحسب المعايير والتعريفات الإسرائيلية، هو جهاز خاضع للمقاييس المهنية، وليس للأهواء السياسية الحاكمة. وهذا القرار الحكومي يأتي بعد أقل من 3 أشهر على قرار الإطاحة برئيس جهاز المخابرات العامة، الشاباك، روني بار، أيضا بمسار ليس قانونيا، لم تقر به المحكمة العليا، كما هو المصير المتوقع للقرار ضد ميارا، وفي خضم هذا، برز اسم نائب رئيس المحكمة العليا، نوعم سولبرغ، الذي أصدر قرارين، رفض فيهما وقف مسار عملية إقالة ميارا في الحكومة، لكنه قال إن القرار المتوقع من الحكومة لن يكون نافذا إلا بعد بحثه في المحكمة العليا، إذ كانت قد تلقت التماسات ضد إقالتها.
وكان القرار الأول الذي اتخذه سولبرغ رفض التماسات تم تقديمها له، لمنع عمل لجنة وزارية أقامها وزير العدل ياريف لفين، للبحث مع المستشارة ميارا، قبل اتخاذ قرار فصلها في الحكومة، وهي لجنة لا ينص عليها أي قانون إسرائيلي، الذي يلزم بتحويل الأمر الى هيئة تابعة لسلطة التشغيل الحكومية.
ولاحقا، رفض القاضي سولبرغ طلب المستشارة القانونية ذاتها، لمنع جلسة حكومية تنظر في مسألة فصلها، لأنها جلسة تتعارض مع القانون والأنظمة، وكما في القرار الأول، قال القاضي ذاته إن قرار الفصل الذي ستتخذه الحكومة لن يكون نافذا، إلا بعد صدور قرار من المحكمة العليا بشأن الالتماسات التي قدمت لها، ضد الفصل.
ونشير هنا إلى أن منصب المستشار القانوني للحكومة في هذه المرحلة، حساس للغاية، لكونه هو أيضا المسؤول الأول عن جهاز النيابة (الادعاء العام)، المنشغل في محاكمة رئيس الحكومة، ولهذا فإن تغيير المستشار القانوني للحكومة، ليتم تعيينه في الحكومة الحالية، يثير الشكوك، إلى درجة اليقين، بأن من سيتم تعيينه، سيكون له دور في مصير محاكمة بنيامين نتنياهو بقضايا الفساد، حتى لو صدر قرار بأن لا ينشغل المستشار الجديد في هذه المحاكمة، إذ أن المحللين بغالبيتهم يستبعدون أن يُبعد المستشار الجديد نفسه عن محاكمة كهذه، في حال تم تعيينه، بعد عزل فعلي للمستشارة الحالية.
قاض تحت الأضواء
وبهذا يرى محللون أن نائب رئيس المحكمة العليا، نوعم سولبرغ، أصبح في الأسابيع الأخيرة، الشخصية الأكثر إثارة للجدل في المحكمة العليا، على الصعيدين العام والسياسي. فعندما تُثار قضية دستورية وأخلاقية وإجرائية ومتفجرة، مثل قرار الحكومة عزل المستشارة ميارا، التي هي أيضا، كما ذكر، مسؤولة عن جهاز الادعاء العام، تتجه الأنظار نحو سولبرغ، وموقفه والقرارات التي يصدرها بشأن الإقالة.
وتعرّض سولبرغ لانتقادات لاذعة من الأوساط الليبرالية في السياسة والجهاز القضائي، بسبب القرارين السابق ذكرهما، ولادعائه بأن الوقت لم يحن بعد للتدخل القضائي.
ورأى محللون وخبراء قضاء إسرائيليون أن قراري سولبرغ أضفيا شرعية على عملية العزل. ونقلت التقارير الإسرائيلية عن جهات في جهاز القضاء قولها إن هذه القرارين، إضافة الى موقفه في قضية إقالة رئيس جهاز المخابرات العامة، هي قرارات جاءت في الوقت الذي تتولى فيه حكومة يمينية السلطة "على قدم وساق". ومع اقتراب فترة رئاسته للمحكمة العليا، التي ستبدأ العام 2028، فإنه يتبنى رؤية قضائية عالمية، قد تضر "بمؤسسات الحكم التي تُشكل جوهر الديمقراطية".
وتقول المحللة طوفا تسيموكي، في مقال لها في صحيفة "يديعوت أحرونوت": لقد برز سولبرغ، في الآونة الأخيرة على وجه التحديد، بمواقفه الساعية إلى تجنّب التدخل القضائي عندما يرى أنه غير ضروري. وأشهر هذه المواقف هو القرار الذي عكس شعاره منذ بداية ولايته قاضيا، وهو عدم التدخل في إلغاء سبب المعقولية. فبما أن القانون لا يزال ساريا، وتصدّر سولبرغ رأي الأقلية في هيئة القضاة، فإنه لا يزال مصمما على تقليص استخدام هذا السبب كمعيار لنقض القرارات الحكومية والقوانين إلى الحد الأدنى، واستخدامه فقط كملاذ أخير.
وأضافت الكاتبة: "أصبح سولبرغ شخصية محورية في المحكمة العليا، لا سيما في أعقاب مخطط الحكومة الحالية، في ما يعرف "الانقلاب على جهاز القضاء"، والجدل العام المستمر، وانعكاسه على مكانة ودور المحكمة العليا في البت في القضايا العامة التي تهمّ البلاد. ومن المتوقع أن يخلف سولبرغ الرئيس الحالي عميت وفقا لنظام الأقدمية، في العام 2028، ولذلك يتم فحص كل فاصلة في كلامه بدقة متناهية، في محاولة لمعرفة توجهاته".
"وانعكس بروز سولبرغ في المكانة العامة مؤخرا في حدثين بارزين. الأول يتعلق بوزير العدل ياريف ليفين، الذي لا يعترف بشرعية رئاسة القاضي عميت، ولكنه اختار الحضور لتهنئة سولبرغ على تنصيبه نائبا للرئيس".
"أما الحدث الثاني، فتجلى في قضية استدعاء رئيس الدولة إسحق هرتسوغ الرئيس عميت ونائب الرئيس سولبرغ لتقديم خطة تسوية بشأن تشكيل لجنة تحقيق رسمية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ورغم أن القانون الذي يسمح بتشكيل مثل هذه اللجان لا ينص على مشاركة نائب رئيس المحكمة العليا في تشكيلها، فقد تم الاتفاق على أن يشارك سولبرغ في اختيار رئيس اللجنة، في حال المضي قدما في هذه الخطوة. وسعى هرتسوغ من خلال ذلك إلى تعزيز الشرعية العامة لهذه الخطوة في أوساط اليمين".
وتقول تسيموكي: "كانت خارطة الطريق لفهم سولبرغ هي الاستماع إلى تعليقاته في قاعة المحكمة، ثم إلى رأيه الأقلية في قرار إقالة رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) آنذاك، رونين بار. خلافا لموقف المستشارة القانونية ميارا، وقاضيي الأغلبية، عميت وباراك- إيرز، فضّل سولبرغ عدم إصدار المحكمة العليا قرارها في هذه القضية، نظرا لاستقالة رونين بار وإلغاء الحكومة قرار إقالته".
"وترمز كلمات سولبرغ الموجزة في القرار إلى النهج الذي يتبعه اليوم في جميع المسائل المتعلقة بالتدخل في القضايا المتفجرة: في ضوء الجدل العام الحاد الذي رافق جلسة الاستماع إلى الالتماسات، عاصفة عاتية، وآثارها القمعية أيضا على العلاقات بين السلطات الحكومية، إذ كتب يومها في قراره، وهو رأي الأقلية في هيئة المحكمة: هذا النزاع ليس سوى قضية خاصة، ومثال على التوترات المتزايدة في منطقتنا في هذا الوقت العصيب، وهي توترات تشكّل تهديدا حقيقيا وملموسا لنسيج حياة المجتمع الإسرائيلي الهش، ولجودة واستقرار المؤسسات التي تدير شؤونه. يبدو لي أنه في ظل هذه الظروف، يقع على عاتقنا التزام حقيقي ببذل كل ما في وسعنا، في إطار مبادئنا الأربعة، لتهدئة الأمور. إن البت في الالتماسات النظرية بشأن قضايا جوهرية في النزاع العام لا يخدم هذا الغرض، بل على العكس تماما".
قاض لحقبة ما بعد الديمقراطية
ويقول المحلل غيدي فايس، في مقال له في صحيفة "هآرتس": "لقد أظهرت أحكام سولبرغ أن ميله للخضوع للحكومة لا يقتصر على لفتات شخصية. إن رأيه الذي عبّر عنه العام الماضي، والذي مثّل أقلية، في قضية إلغاء مبدأ المعقولية، والذي صيغ ببراعة وعبّر عنه بغضب عارم، ينبغي أن يُثير الرعب في قلوب كل من يخشى الاستبداد".
ويضيف: "وفقا لسولبرغ، لا يحق للمحكمة المساس بالقوانين الأساسية، حتى لو كانت تُقوّض أسس النظام الديمقراطي تماما. من المُخيف التفكير في كيفية حكمه لو قرر الائتلاف حرمان العرب من حق الترشح للكنيست، أو تغيير النظام الانتخابي بما يُفيدهم. وربما سنظل قادرين على قراءة هذه الأحكام".
وتابع الكاتب: "أيا كان من يُتوقع أن يكون رئيس المحكمة العليا القادم، فسيكون مُصمّما خصيصا لحقبة ما بعد الديمقراطية، التي خطت إسرائيل نحوها بخطوات جبارة. في هذا الصدد، فإن وصفه بالمحافظ هو وهم: فسولبرغ، الذي انحاز مرارا وتكرارا إلى الحكومة المتطرفة في تاريخ إسرائيل، هو في الواقع ثوري. في المقابل، لم يُفوّت سولبرغ فرصة لمواجهتها مع غالي بهراف ميارا. وبلغت الأمور ذروتها اليوم بقراره الفاشل السماح باجراء جلسة استماع للمستشارة القانونية للحكومة قبل إجراءات عزلها، متذرعا بعذر واه، مفاده أن قرار الحكومة لن يكون نهائيا. وبدلا من إنهاء المحاكمة الصورية المُخطط لها فورا، سمح للوزيرين ياريف ليفين وعميحاي شيكلي وشركائهما بمواصلة استغلال الحارس الأول (يقصد ميارا)".
"كان سولبرغ يعلم أن الحكومة هي من بادرت لهذا الإجراء المتسرع وغير القانوني، لأنها فشلت في المضي قدما في إجراءات العزل بالطريقة الصحيحة. كان يعلم أن أحدا من وزراء العدل السابقين لم يوافق على دعم الانقلاب. كان يعلم أن سبب هذه الخطوة هو إصرار ميارا على وضع حدود للوزراء".
"كان يعلم أن رئيس الحكومة يواجه لائحة اتهام جنائية، وأن المستشارة القانونية تقف في طريق إلغاء محاكمته. كان يعلم أن قراره سيُكثّف حملة نزع الشرعية غير المسبوقة التي كانت تتعرض لها، والتي شابتها أيضا كراهية النساء. كان يعلم أنه في حال اكتمال إجراءات العزل، فستصل إلى المحكمة العليا، التي كان من المتوقع أن ترفضها بأغلبية ساحقة. كان يعلم كل هذا، لكنه ترك رقصة الشياطين الجنونية مستمرة".
وتابع فايس: "يصعب إيجاد سبب لسلوك سولبرغ في المجال العقلاني. قراره لا علاقة له بالمنطق السليم أو المسؤولية العامة. يبدو أن اشمئزازه الواضح من المستشارة نابع من كونها كل ما ليس عليه. على عكسه، فهي لا تُقدّر قوتها ولا تتردد في وضع إشارة توقف أمام الحكومة. هكذا تصرفت في معارضتها لتعيين أرييه درعي وزيرا، ولإلغاء مبرر المعقولية، ولقانون العوز، ولتعديل قانون الشرطة. في وقت تسعى فيه الحكومة جاهدة لتحقيق نصر كامل على أعدائها من الداخل، يُؤمَل أن تتصرف بالطريقة نفسها في المستقبل أيضا".
ومما ختم به المحلل فايس أن "غالي بهراف ميارا ليست خالية من العيوب، فصمتها تجاه جرائم الحرب في غزة يصمّ الآذان، كما أن مكافحة الفساد شهدت أياما أفضل، ولكن في الظروف العصيبة التي تُجبرها على العمل، تبذل قصارى جهدها لمنع إتمام الانقلاب القضائي، بتكلفة شخصية باهظة. كان ينبغي على المحكمة أن تدعمها بقوة، لكن نائب الرئيس يُعيق خطواتها، ويُعيقها، ويُشرّع تحركات الحكومة التدميرية. في قاعدتهما، وللقضاة قاعدة، هم بالتأكيد راضيان. لكن الاختلاف في تصوري سولبرغ وميارا للديمقراطية وعلاقتهما بالسلطة ليس موضوعا لندوة نظرية. والصدام بينهما يعكس صراعاً وجودياً حول صورة إسرائيل".
المصطلحات المستخدمة:
المستشار القانوني للحكومة, يديعوت أحرونوت, هآرتس, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, ياريف لفين