في شهر تموز الأخير فاز الفيلم الوثائقيّ الإسرائيليّ "shooting" (80 دقيقة/ 2025) بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان الأفلام الوثائقيّة "DocAviv"، وفيه تقدم المخرجة نيطاع لي براون ثلاث قصص تكشف العلاقة المعقدة بين الصناعة التلفزيونيّة، والسينمائيّة الإسرائيليّة، والجيش، والشرطة. يقدم الفيلم الذي يحمل اسماً متعدد المعاني ثلاث قصص متفرقة على شكل أفلام صغيرة تطرح أسئلةً مهمّة حول أخلاقيات العمل التلفزيونيّ والسينمائيّ، والتوثيق والعنف في ظل حرب تتخذ أشكالاً مختلفة منذ النكسة وحتى يومنا هذا.
قد يكون من الذكاء أولاً أن يطرح الفيلم تساؤلاً حول كلمة "shooting" بالإنكليزية والتي قد تعني إطلاق النار وكذلك التصوير، وفي هذا المزج بين العسكر والعدسة يولد سجال طويل على الساحة الإسرائيليّة التي يوظف كل تفصيل فيها لخدمة احتلال متعدد الطبقات. ان خيار تقديم ثلاث قصص وثائقيّة باقتضاب لمّاح يجعل الفيلم مؤثراً، ومُتقناً، ترتبط كل قصة بسابقتها بصورة معقدة ودقيقة، ولكنها تجتمع بوضوح على طرح الأسئلة الأخلاقية حول توثيق الحرب وإنتاج العمل الفنيّ، بؤس الواقع في مقابل جماليّة الصورة، والتلاعب السينمائيّ لإنتاج لقطة لا تُنسى مهما كان الثمن.
هذا الفيلم هو قصّة الأشخاص الظاهرين فيه، وصوتهم، ولو أنّ القصة الثالثة بأعين فلسطينيّة ستكون شهادة أخرى من محارب إسرائيليّ يود الآن التكفير عن ذنب قتله أرواحاً عربيّة وفلسطينيّة باتت تطارد أحلامه وتضيّق الخناق على ضميره.
نكبة المنصورة
بعد النكسة العام 1967، انطلقت الاحتفالات الإسرائيليّة مدجّجة بالكثير من الصور ومقاطع الفيديو التي وثقت جزءاً من حرب دارت في ثلاث مناطق بالتوازي، وحظيت القدس بطبيعتها المكان الأكثر إثارة، بالكثير من التوثيق. أثار هذا التوثيق المفرط لاحتلال القدس غيرة اللواء دافيد إليعازر الملقب بـ "دادو" فدعا بعضاً من أصدقائه لرؤية هضبة الجولان المحتلة حديثاً من خلال "موكب النصر"، وكان بعضهم مصورين، فقال: "نعم يا أصدقاء، نحن نعمل في مجال الأفلام وليست لديّ صور. المواد التي صُوّرت خلال الحرب كلها في القدس، في الحائط الغربي (البراق) وهو خراب، لكن بالنسبة لي، الجولان هو أجمل مكان قمنا باحتلاله وليس لدينا أي توثيق للمعارك التي خضناها".
اقترح أحد الأصدقاء المشاركين في موكب النصر حلاً بسيطاً: "امنحني كل الكتيبة والمعدات العسكريّة مدّة يومين وسأعيد تمثيل الحرب بأكملها"، فردّ دادو بلغة الإيديش "لك ذلك". أدرك رئيس هيئة الأركان إسحق رابين لاحقاً أنه تم استخدام قوات من الجيش والمعدات الثقيلة لإعادة تمثيل احتلال الجولان، ليتضح له أن جميع جنرالاته بلا استثناء كانوا على استعداد لإعادة تمثيل المعارك سينمائيّا!
هكذا سُخر مئات الجنود والطائرات والدبابات وأطنان الذخيرة وعشرات العدسات لاختراع حرب راحت ضحيتها قرية كاملة. تم تصوير فيلم "الأيام الستة" مجهول المخرج، بدون إعلام أو تحذير سكان قرى الجولان السوريين، مما أثار الذعر ودفع بالكثيرين للنزوح نحو الوطن الأم بلا رجعة. ففيما كان الجنود يبرعون في التمثيل كتب فريق الصليب الأحمر شهادة مفادها رؤيتهم عملية التصوير في أثناء مرورهم بمنطقة القنيطرة، ووصفوا محادثاتهم مع سكان القرى الذين أظهروا الخوف والرعب ظناً منهم أن الحرب مستمرة. سجّل أعضاء الفريق انزعاجهم وتساؤلاتهم: لماذا لم يشرح الجيش الإسرائيلي للسكان أنه "مجرد" فيلم؟[1]
تمكنت المخرجة براون من التواصل مع امرأة كانت تسكن قرية المنصورة وشهدت "الحرب السينمائيّة"، وتروي الشاهدة أنها كانت تستعد للزواج، وتروي كيف حاول سكان قريتها العودة للعمل في حقولهم بعد الحرب؛ كما تحدثت عن الخوف، وعن نهب الجنود لمنازل السكان الذين غادروا بيوتهم، وعن تجدد الذعر الذي انتابهم حين سمعوا دويّ الطائرات والقصف من دون أن يعلموا أنه إنتاج سينمائي.
خلال التصوير، قُتل أحد سكان القرية نتيجة الانفجارات التي كانت جزءاً من مؤثرات الفيلم، فقرر سكان القرية جميعاً الفرار، تركوا كل شيء خلفهم – بيوتهم وأراضيهم ومقتنياتهم وحتى طعامهم، حملوا مفاتيح البيوت وخرجوا متسلحين بأمل العودة، وهكذا، أنتج الفيلم ما لم تنتجه الحرب: نكبة المنصورة وتهجير أهلها، لكن الترحيل والتهجير لم يوثّقا بالكاميرات التي اختارت زاوية واحدة ومحدودة من الواقع وقدمتها هدية للجمهور والتاريخ.
انتهى التصوير ولم يعد أهل المكان إليه، وهنا اتخذت العدسة دوراً آخر، باتت ذراعاً تنفيذيّة للاحتلال، حتى لو لم تقصد ذلك. تعرض المخرجة مقاطع من فيلم "الأيام الستة" على أحد مصوريه فيتحدث بانفعال عن تصوير لقطة أو أخرى، يستذكر اللحظة فيشعر بحماس ظاهر، تحاول بقرة الهروب في أثناء مرور الجنود وتظهر آلة تطلق الدخان لتعزيز المؤثرات، ويستعيد المحادثات التي عبّر فيها الجنود عن عدم سعادتهم للمشاركة في الفيلم، كانوا منهكين من الحرب ويريدون العودة إلى عائلاتهم. وحين توضع الأخلاقيات على طاولة النقاش يسأل المصّور المخرجة بنوع من التلقائية الفاقدة لأي حساسيّة إنسانيّة: "ألا تفعلين أي شيٍ للحصول على لقطةٍ جيدة؟".
العدسة العمياء
تبدأ حكاية القصة الوثائقيّة الثانية من بيت سامر في العيساوية، بطلنا هو ابنه صالح، شاب يافع في الخامسة عشرة من العمر، يكاد النور يفارق عينه اليسرى لاحقة بعينه اليمنى التي اقتلعتها رصاصة مطاطية أصابته حين كان طفلاً في العاشرة عائداً من المدرسة. دفعت إصابة صالح الخطيرة إلى تقديم شكوى ضد الشرطي الذي أطلق الرصاصة، أراد سامر العدالة لابنه ولكن الشرطة كانت بالمرصاد، وحينما قوبلت بالتحدي والإصرار ونتائج التشريح، بدأت تخطط للانتقام. حاولت الشرطة عقد صفقة مع العائلة ودفع تعويض لكن العدالة لا تشترى بالمال: " العيساوية مغطاة بكاميرات المراقبة، حينما احتجت التوثيق لم تجدِ الكاميرات نفعاً".
فجأة خطرت فكرة لشخص ما في الشرطة، كانت احدى شركات الإنتاج تعد سلسلة وثائقيّة لصالح قناة "كان 11" تحت اسم "لواء القدس"، تظهر من خلالها الأعمال "البطولية" لشرطة القدس، حيث العثور على المخدرات والسلاح غير المرخص والخلايا "الإرهابية". فجأة تداهم قوات من الشرطة بيت سامر في العيساوية بعد ورود بلاغ عن وجود سلاح في المنزل، يقول أفراد الشرطة المقنّعين للكاميرا: "لن نسمح لهم بقتل بعضهم البعض، حتى لو أرادوا. نحن دولة يحكمها القانون".
وفقاً للبرنامج التلفزيوني، يصل أفراد الشرطة إلى "مسرح الجريمة" منتصف الليل، يفتح الصبي صالح شبه الكفيف الباب، ينادي والده الذي يجد بيته يعج بقوات معززة بالكاميرات، تقوم القوة بتفتيش البيت عدة ساعات، يقلبون المنزل رأساً على عقب، يستخدمون الكلاب، ويفتشون الساحة ومحيط البيت أيضا. فجأة يتنبهون إلى وجود غرفة يقع جزء منها تحت الأرض، يطلبون من صاحب البيت الابتعاد ويخرجون بعد فترة زمنية ويعطونه ورقةً تُفيد بعدم العثور على شيء ويغادرون.
مرت بضعة أسابيع، اتصل أحد جيران سامر به ليقول له إن بيته يظهر في أحد البرامج التلفزيونية على قناة "كان 11"، سارع سامر إلى مشاهدة الحلقة وأصيب بالذهول، في أثناء التفتيش، كما يظهر على الشاشة، عثرت الشرطة على بندقية M16 تابعة للجيش في حفرة في الغرفة الصغيرة، يُعلن الشرطي أنهم عثروا على نفق تحت المنزل يُنافس أنفاق غزة، ويُصدم سامر من الدراما التي تبث للمشاهدين. اتضح لاحقاً – وبعد تدخل وتحقيق أحد الصحافيين- أن طاقم البرنامج دسّ سلاحاً و"عثر عليه" ليكون المشهد متقناً. يجلس سامر أمام كاميرا المخرجة ويقول بكل وضوح وثقة: "اثنان من أبطال المسلسل هما من أفراد الشرطة الذين قاموا بالتحقيق معي ومع ابني بعد إصابته، إنهم يعرفونني جيداً"!
هذا الإنتاج التلفزيونيّ غير مهم بكل تفاصيله ودوافعه وحيثياته، المهم بالنسبة لجيران سامر وسكان العيساوية أن وجود سلاح في بيت شخص من دون أن يتم اعتقاله يعني بالضرورة أنه متعاون! "هل تعلمين كيف تتم معاقبة المتعاون؟"- سأل سامر المخرجة. عندما أدرك سامر أن حياته باتت في خطر، وأن فريق البرنامج التلفزيونيّ والشرطة تعمّد ذلك لثنيه عن المطالبة بالعدالة لابنه وفتح تحقيق، توجه إلى صحافي في صحيفة "هآرتس"[2]. هكذا تم الكشف عن الحقيقة ومنع بث البرنامج واعتذار شركة الإنتاج. لكن البصر والعدالة لم يعودا لعينيّ سامر.
هذه قصة عائلة من العيساوية اختارتها الشرطة الإسرائيلية بعناية لتكون مسرحاً لتصوير مسلسل وثائقي واقعي. "لماذا تصنعين أفلاماً وكاميراتك عمياء؟"- هذا السؤال طرحه صالح، الفتى المظلوم على المخرجة، من خلال سؤاله العميق نستوعب كم العمى من حولنا، ومن حول المجتمع الإسرائيليّ على وجه الخصوص. الكاميرات التي تصور عنف الشرطة لكنها لا تنصف المعتدى عليه، الكاميرات التي تصوّر الجنود وتستبعد القتلى من المدنيين، المخرج الذي يسلط كاميراته نحو اللقطة المذهلة من دون أن يلحظ الأذى التي تتسبب به اللقطة. يصنع الإسرائيليّ أفلاماً وهو محاط بالعمى، هذه هي عبثية صناعة التلفزيون والسينما في مكان ومجتمع مصرّان على اعتماد العمى، لأن الكشف لا القصّة لا يحوّل الكاميرا إلى جهاز مُبصر.
ان محاولات المخرجة والمصور تخيّل المساحة كما يراها صالح كانت مؤثرة ومذهلة في حدود الصناعة الفنيّة، لكنها تخلو من الحساسيّة والمشاعر، تخلو من الإلهام. أما المُلهم صالح، فهو أعمى حقيقي وحيّ ونابض بالمشاعر والإبداع وكتابة النصّ، وهذا لا يمكن تصويره.
الضمير المُطارَد
في القصة الثالثة نتعرف على شموئيل، رجل كبير السن ومنهك جداً، أنهكته الحروب والكوابيس، فقد خاض سبع معارك تركت كل منها كابوساً. يحب شموئيل الأسلحة الناريّة جداً، يعرف تفاصيلها الدقيقة، يقدّرها جداً ويجيد الاعتناء بها، دفعه هذا الشغف إلى اقتناء مجموعةً ضخمةً من الأسلحة الحقيقية والفتاكة وصلت حد اقتناء صاروخ كتف! في مرحلة ما من حياته، أجبرته السلطات على التخلي عن مجموعته، لكنه أصر على عدم ترك الخزنة فارغة، فقام بامتلاك أسلحة مقلّدة وتأجيرها لصالح إنتاج الأفلام، لقد حوّل حبه للسلاح إلى مهنة وسبيل للعيش.
هذا الرجل العجوز عاش سبع حروب وعايش الكثير من الأحداث المركزيّة والتجارب التي يصفها بأنها مروعة. لم تسعفه كميات الأسلحة ولم تسهم في تعافيه، فبات يكره أفلام الحرب لأنها توقظ أحلامه المخيفة وتعذّب ضميره. يبدو شموئيل كأي محارب عجوز شاهدناه سابقاً في أفلام وثائقيّة أخرى مثل "الطنطورة"، لكنه يقدم نموذجاً آخر، نموذج بنت له السينما تصوراً عن الحرب، لكنها لا تتفق مع الواقع الذي تقتل فيه طفلاً حاول اصطياد عصفور، وتقتل عشرة أشخاص مبقية على الحادي عشر ليقول لك "ليش" بنبرة مرعبة تتلاءم مع فقدانه لأصدقائه. فجأة ترى الإنسان الذي قتلت فتلاحقك روحه أينما كنت، تحاصرك وتخنقك من دون أن تتمكن كل الأسلحة المتطورة من الدفاع عنك.
إن المثير في هذه الثلاثيّة هو محاولات الكاميرا الإبصار، محاولات لرؤية الحقيقة من وراء مشاهد أخرى وكأنها استدارة بزاوية 360 تحاول احتواء كل شيء ولكن الواقع لا يمنح أية كاميرا القدرة على الإحاطة بكل شيء، دائماً ستكون هناك زوايا خفية أو مظلمة أو مهمشة، ويبقى النور مملوكاً لصاحب الكاميرا الذي يختار ماذا وكيف يظهر الواقع. لا ينصف هذا الفيلم أهالي المنصورة ولا يعيد النور إلى عينيّ صالح، ولا يمنح شموئيل السكينة، لكنه يمنحنا كمشاهدين فرصة النظر إلى الزوايا المظلمة في صناعة التلفزيون والسينما الإسرائيلييّن، فهناك تدار معركة موازية على الوعي تخلق بدورها أشكالاً من العمى وتكرّسها
[1] يمكن الاستزادة من خلال تقرير جمعية "عكيفوت": https://www.akevot.org.il/en/article/israel-shoots-propaganda-film-golan-heights-residents-flee/
[2] التقرير في موقع صحيفة هآرتس:https://www.haaretz.com/israel-news/2022-06-22/ty-article/.premium/israeli-production-company-paid-damages-to-palestinians-after-tv-series-fiasco/00000181-8afa-d87b-adff-9fffc3ca0000