المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
وقفة احتجاجية على التعاون بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ومايكروسوفت أمام مقر الشركة في واشنطن.. عن "منصة مغازين 972+".
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 30
  • ياسر مناع

منذ اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة العام 2023، تواترت التقارير الصحافية والتحقيقات الاستقصائية التي تكشف عن توظيف إسرائيل لتقنيات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة في استهداف وقتل الفلسطينيين في القطاع والضفة الغربية، في إطار ما يمكن وصفه بـ"عسكرة التكنولوجيا". وتشير هذه المصادر إلى تورط شركات تكنولوجية عالمية مثل: مايكروسوفت (Microsoft)، وأمازون (Amazon)، وجوجل (Google)، وميتا (Meta)، في دعم هذه الممارسات، عبر تقديم خدمات ومنتجات متنوعة تسهم في تحقيق الأهداف العسكرية الإسرائيلية.

 وفي ظل هذا التلاقي بين القدرات التكنولوجية العالمية والأهداف العسكرية الإسرائيلية، أنشأت وحدة 8200 التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) بالتعاون مع جنود الاحتياط الذين يعملون في شركات التكنولوجيا برنامج ابتكار يُعرف باسم "الاستوديو"، ليكون منصة متخصصة في تطوير حلول تكنولوجية موجهة لدعم العمليات الأمنية والاستخباراتية، إضافة إلى ابتكار نموذج "روبوت محادثة" يقوم بمسح وتحليل الرسائل النصية ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي.[1]

وفي هذا الإطار، تستعرض هذه المساهمة نتائج تحقيق استقصائي مشترك أجرته صحيفة "الغارديان" البريطانية ومنصة +972 Magazine، والذي كشف عن تعاون وثيق بين إسرائيل وشركة "مايكروسوفت". فقد أطلق الجيش الإسرائيلي مشروعاً واسع النطاق يهدف إلى جمع وتخزين كميات هائلة من المكالمات الهاتفية الخاصة بالفلسطينيين على خوادم تابعة لـ"مايكروسوفت" في أوروبا.[2]

من إخفاق 7 أكتوبر إلى الطموح التقني

عقب الصدمة التي أحدثها فشل الجيش الإسرائيلي في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، باتت ثمة حاجة ملحّة لدى المنظومة الأمنية الإسرائيلية إلى إحداث نقلة نوعية في مجال دمج البيانات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في العمليات العسكرية. إذ أكد تقرير صادر عن (People and Computers) أن الحرب الجارية تمثل ذروة الاعتماد على التكنولوجيا في تاريخ إسرائيل. وانطلاقاً من هذه القناعة، شرعت المؤسسة الأمنية في استخلاص العبر من الإخفاق، وفي تسريع وتيرة تطوير الأنظمة الذكية القائمة، بهدف تقليص الفجوة الزمنية بين ابتكار الفكرة وتنفيذها، وتعزيز القدرة على اتخاذ قرارات ميدانية سريعة وفعّالة.[3]

في هذا الإطار، أولى "المشهد الإسرائيلي" الصادر عن مركز مدار اهتماماً خاصاً بالبُعد التكنولوجي للحرب، متناولاً إياه من زوايا متعددة عبر سلسلة من المقالات، ومن أبرز هذه المقالات ما يلي:

المقال الأول، الذي جاء بعنوان: "بغية المزيد من السيطرة على حياة الفلسطينيين: وحدة 8200 تبني بواسطة الذكاء الاصطناعي نموذج لغة مؤلف من مليارات الكلمات بالعربية المحكيّة"، يعرض تحقيقاً مشتركاً أعدّه كلّ من موقع "سيحا مكوميت" و"الغارديان". يكشف التحقيق عن مشروع طموح لوحدة الاستخبارات الإسرائيلية 8200، يتمثل في تطوير "نموذج لغة كبير" (LLM)  مخصص للغة العربية المحكية، جرى تدريبه على نحو مائة مليار كلمة مأخوذة من محادثات الفلسطينيين. ويهدف هذا النموذج إلى تزويد ضباط الاستخبارات بأداة متقدمة قادرة على تقديم إجابات فورية ودقيقة على الأسئلة المتعلقة بالأشخاص المستهدفين، بما يمكّن من تحليل المعلومات بسرعة فائقة.[4]

المقال الثاني، بعنوان: "مايكروسوفت توظّف GPT-4 من OpenAI في خدمة الجيش الإسرائيلي في حرب الإبادة على غزة"، يستعرض تحقيقاً استقصائياً اعتمد على وثائق مسرّبة تكشف انخراط شركة مايكروسوفت بشكل مباشر في دعم المجهود الحربي الإسرائيلي. ويوضح التحقيق أن هذا الدعم تجسّد في تزويد الجيش الإسرائيلي، بما في ذلك سلاحا الجو والبحرية وشعبة الاستخبارات العسكرية، بخدمات منصتها السحابية وتقنيات نظام الذكاء الاصطناعيGPT-4 .[5]

المقال الثالث، بعنوان: "تحقيق استقصائي إسرائيلي: من خلال القصف الجوي بلا قيود واستخدام نظام الذكاء الاصطناعي قام الجيش الإسرائيلي بتنفيذ الحرب الأكثر دموية وقتلاً جماعياً على غزة"، يعرض تحقيقاً صحافياً إسرائيلياً يسلّط الضوء على التغير الجذري في قواعد الاشتباك خلال الحرب، حيث اعتمد الجيش على أنظمة متقدمة للذكاء الاصطناعي قادرة على توليد عدد غير مسبوق من الأهداف المحتملة في وقت قصير، الأمر الذي ساهم بشكل مباشر في بلوغ مستويات غير مسبوقة من الدمار والقتل الجماعي في قطاع غزة، خاصة في المراحل الأولى من الحرب. [6]

ما هي المنصة السحابية Azure؟

هي منصة الحوسبة السحابية المتكاملة التي تطوّرها شركة مايكروسوفت، وتوفّر عبر مراكز بيانات موزعة عالمياً مجموعة واسعة من الخدمات تشمل تخزين البيانات، وتشغيل الخوادم الافتراضية، وإدارة قواعد البيانات، وتحليل البيانات الضخمة، وتطوير وتشغيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى حلول الأمن السيبراني وإدارة الشبكات.[7]

 وتتميّز أزور بقدرتها على تزويد المؤسسات والحكومات بموارد محوسبة مرنة وقابلة للتوسّع عند الطلب، ما يتيح تشغيل وإدارة الأنظمة والبيانات عن بُعد بكفاءة عالية. وقد ارتبط اسمها في السنوات الأخيرة باستخدامات عسكرية وأمنية، بما في ذلك دعم عمليات الجيش الإسرائيلي عبر توفير بنية تحتية سحابية متقدّمة لتخزين المعلومات وتشغيل أنظمة التتبع والتحليل المدعومة بالذكاء الاصطناعي.

ماهية المشروع وبدايته

في سياق التوسع في قدرات المراقبة الاستخباراتية، شرعت وحدة  8200 التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) في أواخر العام 2021 في تطوير مشروع تقني متقدم يتمثل في إنشاء نظام مراقبة جماعية واسع النطاق وعالي التدخل، بالاستناد إلى بيئة مخصصة ومعزولة ضمن منصة الحوسبة السحابية (Azure) التابعة لشركة مايكروسوفت.

تبلورت خطوات المشروع عقب اجتماع رسمي جمع قائد الوحدة، يوسي ساريئيل، بالرئيس التنفيذي لمايكروسوفت، ساتيا نادالا، في مقر الشركة قرب مدينة سياتل، حيث جرى الاتفاق على توفير بنية تحتية سحابية مهيأة لمعالجة وتخزين كميات ضخمة من المواد الاستخباراتية فائقة السرية.

ويهدف النظام إلى جمع وتخزين تسجيلات ملايين المكالمات الهاتفية المحمولة التي يجريها الفلسطينيون يومياً في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، مع إمكانية الاحتفاظ بهذه البيانات لفترات زمنية ممتدة، وقد دخل حيز التشغيل الفعلي في العام 2022.

آلية عمل المشروع

النظام مصمم لاعتراض وتسجيل المكالمات الهاتفية التي يجريها الفلسطينيون يومياً، ثم تخزينها في خوادم مايكروسوفت في أوروبا (هولندا وأيرلندا) تحت طبقات أمان خاصة طورها مهندسو مايكروسوفت بناءً على تعليمات وحدة 8200.

إحدى الأدوات المساندة في هذا الإطار هي نظام الرسالة المزعجة (Noisy Message)  الذي يقوم بمسح الرسائل النصية وتصنيفها وفقاً لدرجة الخطر عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي، بالبحث عن كلمات أو تعابير تعتبر مشبوهة.

كما يتيح النظام ميزة "العودة بالزمن"، بحيث يمكن للوحدة استرجاع مكالمات سابقة لأشخاص لم يكونوا على قائمة المراقبة في وقت إجرائها، وهو تحول جوهري مقارنة بالأنظمة التقليدية التي كانت تتطلب تحديد الهدف مسبقاً. القدرة التخزينية العالية تعني أن البيانات يمكن حفظها لفترات طويلة، وإعادة تحليلها وفق تطورات الموقف الميداني أو الأمني.

وأشار التحقيق إلى أنه بحلول تموز من العام الجاري، كانت خوادم Azure   التابعة لشركة مايكروسوفت في هولندا تحتفظ بنحو 11,500   تيرابايت من البيانات العسكرية الإسرائيلية، وهو ما يعادل تقريباً 200   مليون ساعة من المواد الصوتية، مع تخزين جزء أقل من هذه البيانات في أيرلندا. ولم يتضح بعد ما إذا كانت جميع هذه البيانات تعود حصرياً إلى وحدة 8200، إذ يُحتمل أن يكون جزء منها مملوكاً لوحدات عسكرية إسرائيلية أخرى.

استفادة إسرائيل من المشروع

ساعدت منصة التخزين السحابية بحسب مصادر من داخل وحدة 8200 على تسهيل الإعداد لشن غارات جوية قاتلة، وأسهمت في صياغة العمليات العسكرية في كل من قطاع غزة والضفة الغربية. واستفادت إسرائيل من سيطرتها على البنية التحتية للاتصالات الفلسطينية لاعتراض المكالمات منذ زمن طويل، لكن النظام الجديد القائم على المراقبة العشوائية مكّن ضباط الاستخبارات من إعادة تشغيل المكالمات الخليوية للفلسطينيين، ما أتاح التقاط محادثات شريحة أكبر بكثير من المدنيين العاديين.

أوضحت مصادر استخباراتية أن قيادة وحدة 8200 لجأت إلى شركة مايكروسوفت بعدما أدركت أن الخوادم العسكرية لا تمتلك القدرة التخزينية أو الحاسوبية الكافية لاستيعاب كم هائل من مكالمات. وأشار ضباط في الوحدة – التي تُقارن بوكالة الأمن القومي الأميركية في قدرات المراقبة – إلى أن المشروع ارتبط بشعار داخلي يعبر عن طموحه: "مليون مكالمة في الساعة". ومع مرور الوقت، ازداد الاعتماد على هذا النظام، خصوصاً في أثناء الحرب على غزة 2023.

أبعاد المشروع على الفلسطينيين

شكّلت البيانات المخزنة على منصة Azure  التابعة لمايكروسوفت مستودعاً ضخماً وقيِّماً من المعلومات الاستخباراتية عن سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، مما أتاح لوحدة 8200 اعتراض كمّ هائل من المكالمات، بما في ذلك أحاديثهم اليومية والخاصة. حيث استُخدمت هذه المعلومات أحياناً في الابتزاز أو كذريعة لاعتقالات تفتقر إلى المسوغات القانونية الكافية، بل ولتبرير عمليات قتل بأثر رجعي.

في بداياته، ركّز النظام على الضفة الغربية، حيث يعيش ما يقارب ثلاثة ملايين فلسطيني تحت الاحتلال والسيطرة الإسرائيلية. وكان هذا المستودع الرقمي الضخم أُنشئ في أعقاب موجة العمليات الفردية العام 2015، من منطلق عملياتي قائم على "تتبُّع الجميع، في كل الأوقات"، متجاوزاً أسلوب المراقبة التقليدي الذي يركّز على أهداف محددة، إلى مراقبة شاملة تطاول المجتمع الفلسطيني. وقد اعتمد المشروع في ذلك على أساليب متقدمة في الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات واستخلاص الرؤى.

المشروع الاستخباراتي بين السرية والانتقادات

أثار التعاون بين مايكروسوفت ووحدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية 8200 جدلاً داخلياً، تجلى في أيار من العام الجاري حين قاطع أحد الموظفين خطاب الرئيس التنفيذي، معترضاً على دور Azure في دعم العمليات الإسرائيلية. قائلاً: "لماذا لا تُظهرون كيف تُغذَّى جرائم الحرب الإسرائيلية عبر Azure؟". لكن في الواقع، اتسم المشروع بدرجة عالية من السرية، حيث طُلب من المهندسين عدم ذكر اسم الوحدة، بالرغم من علم بعض موظفي فرع إسرائيل – ومنهم خريجو 8200 – بطبيعة المشروع.

في المقابل أكدت مايكروسوفت أن التعاون مع إسرائيل اقتصر على تعزيز الأمن السيبراني، ونفت معرفتها بأي مراقبة للمدنيين أو بجمع محادثاتهم، كما كلّفت جهة خارجية بمراجعة العلاقة ولم تجد دليلاً على استخدام منتجاتها لأغراض استهدافية. وعلى المستوى الإداري، رأت الشركة في الشراكة فرصة تجارية مربحة قد تحقق مئات الملايين من الدولارات، واعتبرتها "لحظة قوية للغاية للعلامة التجارية".

أما في أروقة الجيش الإسرائيلي فقد قوبل المشروع بحماس كبير، إذ وفّر قدرات غير مسبوقة من أجل جمع وتحليل بيانات الاتصالات الفلسطينية. حيث روج  ساريئيل للمشروع الذي قاده بين الأعوام 2021 - 2024، باعتباره أداة للمراقبة الشاملة تحت شعاري "تتبّع الجميع، في كل الأوقات" و"مليون مكالمة في الساعة"، مستفيداً من تقنيات الذكاء الاصطناعي لاستخلاص الرؤى. كذلك أكد الجيش الإسرائيلي على لسان الناطق باسمه أن التعاون مع مايكروسوفت يتم في إطار "اتفاقيات خاضعة لإشراف قانوني"، نافياً أن تكون الشركة شاركت في تخزين أو معالجة البيانات العسكرية.

من الجدير ذكره  في الختام، أن ساريئيل واجه انتقادات حادة بعد هجوم 7 أكتوبر 2023، بدعوى أن تركيزه على التقنيات "الإدمانية والمثيرة" جاء على حساب الأساليب التقليدية، ما ساهم في الفشل الاستخباراتي، الأمر الذي دفعه إلى الاستقالة العام 2024. لكن النظام استمر استخدامه بكثافة خلال الحرب على غزة والضفة الغربية.

 

[1] هآرتس، نيويورك تايمز. "إسرائيل فعّلت في غزة نظام ذكاء اصطناعي حدد مطلوباً عبر تحليل صوتي"، 26 نيسان 2025. https://www.haaretz.co.il/news/politics/2025-04-26/ty-article/.premium/00000196-728d-d41c-a7ff-feefafd70000

[2] هاري ديفيز ويوفال أبراهام. "مليون مكالمة في الساعة': إسرائيل تعتمد على سحابة مايكروسوفت في مراقبة واسعة النطاق للفلسطينيين". الغارديان، 6 آب 2025. https://2h.ae/gqMV

[3]يانيف هالبرين."تأثير الحرب: هل يتقدّم الجيش الإسرائيلي بما يكفي من الناحية التكنولوجية"، (People and Computers)، 17 تموز 2025، https://www.pc.co.il/featured/433979/

[4] للمزيد أنظر/ي يوفال أبراهام، "بغية المزيد من السيطرة على حياة الفلسطينيين: وحدة 8200 تبني بواسطة الذكاء الاصطناعي، نموذج لغة مؤلف من مليارات الكلمات بالعربية المحكيّة"!، ترجمة هشام نفاع، المشهد الإسرائيلي – مركز مدار، 10 آذار 2025، https://2h.ae/lsMZ

[5] للمزيد أنظر/ي عبد القادر بدوي، بعد غوغل وأمازون: مايكروسوفت توظّف GPT-4 من OpenAI في خدمة الجيش الإسرائيلي في حرب الإبادة على غزة!، المشهد الإسرائيلي – مركز مدار، 19 أيار 2025، https://2h.ae/KlYc

[6] للمزيد أنظر/ي يوفال أبراهام، "تحقيق استقصائي إسرائيلي: من خلال القصف الجوي بلا قيود واستخدام نظام الذكاء الاصطناعي قام الجيش الإسرائيلي بتنفيذ الحرب الأكثر دموية وقتلاً جماعياً على غزة"، ترجمة وليد حباس، المشهد الإسرائيلي – مركز مدار، 1 كانون الأول 2023. https://2h.ae/mdTg

[7] Microsoft. What Is Azure? Accessed August 8, 2025. https://2h.ae/jaQT

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات