المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 2817
  • مريم فرح

يعتبر الإعلام في إسرائيل أداة من الأدوات الأيديولوجية المركزية التي تتصدر عملية بناء الروح الجماعية وتوجيه التصورات والرؤى والمواقف القومية. ويلعب هذا الإعلام بمختلف أشكاله المرئية والمسموعة وبمختلف قنواته دوراً في بناء وتصليب الإجماع حول الحرب على قطاع غزة. ويتحاشى بمعظمه الخوض في قضايا أو طرح أسئلة تتحدى الخطاب الأمني والعسكري ويتبنى ما يصدر عنه ويعيد نشره بشكل شبه كامل من دون أن يقوم بأي عملية نقد ومساءلة حقيقية.

وعلى خلاف الإعلام في الأنظمة القمعية الذي يُفرض عليه بالقوة والملاحقة والتضييق التجند لصالح النظام والدفاع عن توجهاته، فإن الإعلام الإسرائيلي متجند بشكل طوعي لصالح الأيديولوجيا القومية والدفاع المستميت عما تقوم به الدولة وأجهزتها خاصة في حالات المواجهة. وهو نابع من تذوّت كامل لمبرراتها وقيمها المؤسسة، وهذا ما تعبر عنه المقولة الإسرائيلية التي تنتشر خلال الحروب أو المعارك "لنلتزم الصمت... يوجد إطلاق نار". 

يقابل الدور المتجند للإعلام في مواجهة قضايا الصراع دور نشط ودينامي في متابعة القضايا الداخلية والصراعات السياسية والحزبية حيث يلعب الإعلام دوراً مهماً أسهم أحيانا في إسقاط حكومات والكشف عن قضايا فساد وهو ما يفسر إلى حد ما الثقة التي يتمتع بها الإعلاميون بشكل عام  بسبب ما يقومون به في الحيّز العام الداخلي. 

ويشبه السرد الإعلامي الحالي في إسرائيل للحرب الرواية التي انتشرت في وسائل الإعلام خلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، حتى في تسمية الحرب. فقد تميّز الإعلام الإسرائيلي في ذلك الوقت بالطاعة الكبيرة للمؤسسات السياسية والأمنية العسكرية، ولم يشكل تحدياً حقيقياً لصانعي القرار والسياسيين. في تلك الحقبة، سيطر حزب مباي بشكل كامل على الإذاعة وبعد ذلك على التلفزيون أيضاً. وكانت وسائل الإعلام المكتوبة تابعة بشكل أساس للحزب الحاكم، وظهر ذلك بوضوح في استلامها للمعلومات الأمنية والعسكرية وتبنيها للخطاب السياسي الذي كان يهيمن عليه حزب مباي.[1] ويشهد الوضع الحالي اعتماداً كبيراً على الإعلام العسكري في نقل الأحداث والسرد والتحليل، حتى في بلاغات المحللين العسكريين على القنوات الاسرائيلية التجارية والحكومية. 

آليات العمل: مؤتمرات صحافية يومية 

تبدأ التغطية الإخبارية الخاصة في قنوات التلفزة الساعة الثامنة مساءً تضم مقدمين، أحدهما في الاستوديو والآخر في "الكرياه" في تل أبيب، دون توضيح سبب وجود الأخير هناك. وتنضم إلى هذه التغطية مجموعة من المحللين السياسيين والعسكريين. تباشر المذيعة بنشر أسماء الجنود الذين سقطوا في المعارك بعد الحصول على موافقة من الرقابة، ثم تعلن عن مواقع صافرات الإنذار وعدد الصواريخ التي أطلقت على الجبهتين الجنوبية والشمالية. وتُعلن أيضاً إن كان الجيش قد استهدف قادة من حماس والقسام في المعارك، وفي النهاية تعلن عن مؤتمر صحافي للناطق باسم الجيش أو لثلاثي السلطة المعروف (بنيامين نتنياهو– يوآف غالانت – بيني غانتس). وفي الأيام الأخيرة،  انقلب ترتيب الأجندة بسبب صفقة تبادل الاسرى،  التي تستحوذ على الوقت الأكبر في التغطيات، حيث يتم بث صور المخطوفين خلال طريقهم إلى إسرائيل وفي الخلفية يشدد أحد المحللين على أنه بعد هذا على الجيش مواصلة الحرب. ولا ذكر لضحايا غزة، ولا للضحايا الأطفال في غزة.  ولا يطرح الإعلام أي أسئلة حول نهاية الحرب أو ما بعدها، سوى "ما بعد" التي ينتظر فيها الإعلام الإسرائيلي بفارغ الصبر نهاية حكم نتنياهو. 

محو ضحايا غزة: قصف بلا ضحايا 

تغطية الأحداث العسكرية لا تقتصر فقط على نقل الرواية العسكرية بدقة، بل تمتد للمساهمة في تجريد السكان الفلسطينيين في قطاع غزة من إنسانيتهم من خلال التجاهل في التغطية الإعلامية. عندما يتم تجاهل فرد أو مجموعة من السكان في التغطية الإعلامية، يصبح استخدام العنف ضدهم مبرراً؛ فالغياب يجعل الضحية غير مرئية، مما يقلل من شعور الجاني بالذنب. في مقال ليغيل ليفي في مجلة "هزمان هزيه" ("هذا الوقت")، أشار إلى أن مستوى التجريد من الإنسانية في إسرائيل وصل إلى درجة التجاهل التام، وهذا يتيح استخدام القوة والعنف بدون مساءلة أو شعور بالذنب لدى الجهات الفاعلة.[2]

في هذا السياق، أشارت الصحافية الإسرائيلية ورئيسة الهيئة الإدارية لمنظمة "بتسليم" أورلي نوي إلى أن الصحافي الإسرائيلي كان دائماً أكثر ميلاً نحو الانتماء الوطني من كونه صحافياً محترفاً، حيث يتبنى خطاب الناطق العسكري دون أي تشكيك مهني أو طرح أسئلة مهنية. لكن الجديد في الوضع هو حجب المعلومات الحيوية جداً عن الجمهور الإسرائيلي، بحيث لا يشاهد ما يتم عرضه للعالم عبر القنوات العالمية. هذا ما يقوم به الإعلام الإسرائيلي بوعي وإرادة تامين، حيث يمنع وصول أي معلومات غير عسكرية. على سبيل المثال، يتخذ الإعلام القرار بعدم بث خطابات زعماء آخرين بزعم أنها بروباغندا، ويمتنع عن نشر فيديوهات المختطفين بحجة أنها جزء من حرب نفسية تشنّها حماس. وبذا يصادر حق الجمهور الاسرائيلي في أن يعلم ويتخذ قراراته. هذا يشكل جزءًا من تشكيل الوعي العام حيث يتحول الصحافي تدريجياً إلى ناطق باسم الجيش، على الرغم من أن الصحافي الإسرائيلي الذي خدم في الجيش يعلم جيداً أن الجيش يميل إلى التضليل والكذب. 

وفي مقال نُشر في موقع "العين السابعة" كتبه عيدان رينغ وشوكي تاوسيغ، أشير إلى أن التجاهل وإخفاء المعلومات المتعلقة بما يجري في غزة لهما آثار كبيرة على صفقات التبادل والنضال الشعبي الخاص بأهالي المختطفين. وبينما يُثار الرأي العام في إسرائيل حول صفقات تبادل الأسرى ودور الجيش الإسرائيلي في إعادتهم، تعتمد وسائل الإعلام الإسرائيلية بشكل كبير على ما يُقال من قبل الناطق باسم الجيش والمراسلين المرافقين له، دون التطرق إلى الكارثة الإنسانية التي تلوح في الأفق في القطاع. وهذه صورة غير كاملة للواقع. ويضيف المقال: "في ظل تأثير الخطاب العام والضغط الشعبي على عملية صنع القرار في ما يتعلق بصفقات تبادل الأسرى، فإن عرض الصورة الكاملة يُعتبر من مصلحة المواطنين في إسرائيل أيضاً".[3]

الجولات الصحافية المُقيّدة لغزة

لدى السماح بدخول صحافيين إلى شمال القطاع، دخل العديد من المراسلين بصحبة الجيش إلى ساحات المعارك وأماكن  الدمار . ومن بين هذه  التقارير التي عرضت خلال الفترة الأخيرة كان تقرير لمراسل الشؤون الفلسطينية في قناة 12 أوهاد حيمو في النشرة المسائية ليوم 22.11.2023 بعد القصف الذي استهدف مستشفى الشفاء. عرض حيمو جزءاً كبيراً من التقرير داخل أنفاق المستشفى، مُبرزاً الأسباب الفعلية وراء القصف على حد قوله، التي تتمثل في وجود أنفاق تابعة لحركة حماس وكتائب القسام. وفيما يبدو، سمح الجيش لحيمو بإجراء مقابلات مع بعض السكان الذين بقوا في المستشفى. وعندما سأل حيمو أحدهم عن تعامل الجنود معهم، أجابه أحد المواطنين أن الجيش تعامل معهم جيداً واهتم بهم خلال نزوحهم إلى الجنوب، وقد اهتم حيمو حصريّاً بأن يعرض هذا الجزء ويتحدث عنه كي يقوم بتثبيت المقولة أن الجيش يتعامل وفقاً للقانون الانساني.[4]

لم يُسمَح لجميع الصحافيين الإسرائيليين والأجانب بإجراء مقابلات مع الأشخاص خلال عدة جولات قام بها الجيش. وقد انضمت الصحافية هاجر شيزاف من جريدة "هآرتس" إلى مجموعة الصحافيين الذين شاركوا في جولة بعنوان "ممر الإنسانية" بهدف تأمين الوصول إلى مناطق حركة الفلسطينيين أثناء نزوحهم نحو الجنوب. وتوضح شيزاف: "تفرض القوات العسكرية الإسرائيلية قيوداً على مناطق الوصول، وعلى الرغم من أن التغطية ليست محدودة تماماً، فإنها تسمح للجيش بالتحكم في المشاهد التي يمكن عرضها للصحافيين". وأضافت :"مع ذلك،  رأينا المعاناة الإنسانية التي كان من الصعب عدم رؤيتها". وأشارت إلى أن التغطية كانت غير مكتملة ومحدودة، مع سيطرة واضحة للجيش على السرد الإعلامي، حيث لم يسمح للصحافيين بالتواصل مع السكان، ولم يُسمح لمصوري وسائل الإعلام بالمشاركة في الرحلة. وأوضحت أن "وسائل الإعلام تعهدت رسمياً بتسليم جميع الصور التي التقطها المراسل خلال الزيارة إلى الرقابة العسكرية، وذلك بالإضافة إلى النصوص المصاحبة لتلك الصور!".[5]

وتشير شيزاف إلى أن قرار الجيش الإسرائيلي باستدعاء مجموعات من الصحافيين إلى المنطقة يسلط الضوء بشكل واضح على الفجوة الكبيرة بين الرواية الإسرائيلية والرواية الفلسطينية. وبينما ينظر الإسرائيليون إلى هذه الخطوة على أنها تدابير إنسانية واضحة تهدف إلى حماية المدنيين، بغية مساعدة القوات في استهداف حركة حماس في المناطق الحضرية المكتظة بالسكان، فإن الفلسطينيين ينظرون إليها كنكبة جديدة.

التهديدات بالقتل على الهواء مباشرة

حتى مع بداية إطلاق سراح الأسرى تتواصل المطالبات باستمرار العدوان وعدم زعزعة الخطاب الأمني العسكري في القنوات الإعلامية المركزية، أما في القناة اليمينية 14 المقربة من الحكومة،  فهناك أيضاً التحريض المستمر على الفلسطينيين وعرض دائم لعدد الضحايا بغزة تحت عنوان "مخربين"، وحتى الرضع يتم شملهم.  ويقول رينغ وتاوسينغ في مقالهما إن المشاهدين لغالبية وسائل الإعلام الاسرائيلية باستثناء "هآرتس" لا تصلهم صورة خاطئة فقط عن الواقع في غزة، بل عن العملية العسكرية أيضاً. وسائل الإعلام هذه تتبنى مفهوما مغايراً عن الواقع. ويضيفان" كما لو أننا لم نتعلم شيئاً من 6 أكتوبر 1973 حتى 7 أكتوبر 2023 ".[6] 

وصل التحريض في القناة 14 إلى حد التهديد بالقتل، حيث قام مقدم البرامج والإعلامي شاي جولدن مقدم برنامج "إسرائيل، هذا الصباح" بالتهديد بقتل المواطنين في غزة ولبنان  وفي إيران ببث حي ومباشر. ولم يثر هذا التهديد قلق المؤسسات الإعلامية في إسرائيل ولم يتم تقديم شكاوى حقيقة ضده.  وتجاوز الحدود إلى هذه الدرجة قد يمنح وسائل إعلام أخرى الفرصة لزيادة جرعة التحريض والتشجيع على العنف أولاً، وثانياً  قد يتيح ازدياد وتيرة القتل والجريمة في غزة.[7] 

معاقبة من يتزحزح عن خط الرواية

لم  يتوقف التحريض عند وسائل الإعلام فقط،  بل  وصل إلى وزير الاتصالات شلومو كارعي،  الذي قدم للحكومة اقتراحا لوقف تمويل مؤسسة صحيفة "هآرتس"، ووقف الإعلانات ورسوم الاشتراك لجميع مستخدمي الدولة، بما في ذلك الجيش، والشرطة، وجهاز الأمن العام- الشاباك، والوزارات، والشركات الحكومية.[8] وجاء قرار كرعي بعد أيام  من  نشر هذه الصحيفة لتقرير يشير إلى أن مروحية هجومية تابعة للجيش أطلقت النار على قوات حماس والقسام وأصابت أيضا على ما يبدو بعض المحتفلين.  بالاضافة إلى ذلك،  يحاول كرعي أن يدعم قناة 14 الموالية للحكومة بامتيازات قد تصل إلى مليوني شيكل.[9]  

حتى اللحظة، يغيب سؤال نهاية الحرب على غزة وما هي البدائل المحتملة، عن الإعلام الإسرائيلي. ويدور النقاش حالياً حول تمديد الهدنة، أو حول تأييد ومعارضة إطلاق سراح باقي المختطفين الإسرائيليين، مع التشديد المستمر على أن الهجوم على القطاع هو الحلّ الوحيد لاستعادة الأمن والاستقرار في جنوب إسرائيل، أو لاسترداد ما يسمّونه بـ "قوة الردع الإسرائيلية". كما يسيطر دور الناطق العسكري على دور الصحافي في طرح الأسئلة الجوهرية وفحص الحقائق ولو لم ترق للمؤسسة العسكرية. أما الضحية الفلسطينية في غزة فتُمحى وتُغيّب تماماً عن كل هذه المناقشات والتساؤلات.

  

 

[1] برزيلاي، جاد (1998). "دولة، مجتمع وأمن قومي: الإعلام الجماهيري والحروب". في: كاسبي، دان، ويحيئيل، ليمور (محررين). وسائل الاعلام الجماهيرية في إسرائيل. رعنانا: الجامعة المفتوحة. ص 645- 663 (بالعبرية).

[2]  https://hazmanhazeh.org.il/dehumanization-by-disregard/?_atscid=1_137_19874465_15062082_0_Tzjadeewwd8upwwcc

[3] https://www.the7eye.org.il/503517

[4] https://www.mako.co.il/mako-vod-channel2-news/main-newscast-0f416e2d06045810/shorts/Video-4f3e0318978fb81027.htm

[5]  https://www.haaretz.co.il/news/politics/2023-11-20/ty-article/.premium/0000018b-ed11-dff4-abeb-ef17cf6f0000

[6] https://www.the7eye.org.il/503517

[7] https://www.youtube.com/watch?v=0GdsfoUk5Iw

[8]https://twitter.com/shlomo_karhi/status/1727677351083827432?ref_src=twsrc%5Egoogle%7Ctwcamp%5Eserp%7Ctwgr%5Etweet

[9] https://www.themarker.com/advertising/2023-11-22/ty-article/0000018b-f6be-d7a8-a9cf-f6fe63df0000

المصطلحات المستخدمة:

رعنانا, هآرتس, شاي, دورا, بنيامين نتنياهو

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات