تقدير موقف

تقرأ وتحلل قضايا مستجدة وتستشرف آثارها وتداعياتها سواء على المشهد الإسرائيلي او على القضية الفلسطينية.
  • تقدير موقف
  • 21
  • ياسر مناع
  • تصفح الملف

لم يتمكّن الاتحاد الأوروبي، يوم الاثنين 4 آب 2025، من التوصل إلى توافق بشأن تعليق مشاركة إسرائيل في برنامج "هورايزن أوروبا" البحثي؛ نتيجة لانقسام في مواقف الدول الأعضاء. وفي ظل هذا التعثّر، أُحيل الملف إلى وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، حيث من المقرّر أن يناقشوا الأمر في اجتماع سيُعقد في التاسع والعشرين من أغسطس الجاري.[1]

خلال الاجتماع، تمسّكت دول مركزية مثل ألمانيا وإيطاليا، بمبدأ استمرار الحوار مع إسرائيل، مقابل لجوء بعض الدول إلى اتخاذ خطوات أحادية، كما في حالة فرنسا التي أعلنت نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، أبدت دول أخرى، من بينها رومانيا وفنلندا موقفًا مغايرًا، معلنة أنها لا تزال تدرس مضمون المقترح الأوروبي.

وكانت المفوضية الأوروبية قدّمت بتاريخ 29 حزيران 2025 إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مقترحًا يدعو إلى فرض تعليق جزئي على مشاركة إسرائيل في برنامج "هورايزن أوروبا" للبحوث والابتكار، ويتركز المقترح على استثناء المؤسسات (الكيانات) الإسرائيلية الواقعة داخل حدود دولة إسرائيل من الاستفادة من التمويل المخصص ضمن إطار مجلس الابتكار الأوروبي  (EIC)، ويأتي هذا الإجراء ردًا على استمرار إسرائيل في عمليتها العسكرية ضد قطاع غزة، وعدم في السماح بدخول كميات كافية من المساعدات الإنسانية إلى سكانه. [2]

من ناحية أخرى، كانت السويد وهولندا قد تقدّمتا، في حزيران الماضي، بطلب رسمي إلى المفوضية الأوروبية يدعو إلى فتح تحقيق بشأن مدى التزام إسرائيل بالبند الثاني من اتفاقية الشراكة. وفي 23 من الشهر ذاته، أصدرت مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي (Kaja Kallas/ كايا كالاس)، تقريرًا رسميًا أشارت فيه إلى أن إسرائيل تنتهك التزاماتها المتعلقة بحقوق الإنسان في قطاع غزة في مخالفة صريحة ومباشرة للاتفاقية.

عند التمعّن في اتفاقية الشراكة، يتّضح أن البند الثاني منها ينصّ بشكل صريح على ضرورة الالتزام بـ "القيم المشتركة" التي تعد القاعدة التأسيسية للعلاقة بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية من قبل كلا الطرفين. أي أن ذلك بمثابة الشرط الأساسي والجوهري لاستمرار سريان الاتفاق، وذلك في إطار الالتزام بمبدأ الحرية الاقتصادية وبالمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة.[3]

وبحسب الآلية القانونية المعتمدة داخل الاتحاد، فإن تفعيل هذا التعليق يتطلب ما يُعرف بـ "الأغلبية المؤهلة"، أي دعم ما لا يقل عن 15 دولة عضوًا تمثّل 65% من سكان الاتحاد، ما يجعل موافقة ألمانيا عنصرًا حاسمًا في تمرير القرار.

ومن المتوقّع، في حال إقرار هذا القرار، أن تترتّب عليه آثار مباشرة على الشركات الناشئة والمؤسسات الصغيرة الإسرائيلية العاملة في مجالات الابتكار والتكنولوجيا الفائقة، ولا سيما تلك التي تطوّر تطبيقات متعددة  لاستخدام في ميادين مثل الأمن السيبراني، والطائرات بدون طيار، والذكاء الاصطناعي.

تركّز ورقة تقدير الموقف هذه على انعكاسات قرار تعليق منحة "هورايزن أوروبا" على إسرائيل، وتتكون من ثلاثة أقسام: الأول يُلخص العلاقة التاريخية العلمية بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل. القسم الثاني يستعرض ماهية برنامج "هورايزن أوروبا" وعلاقة إسرائيل به. وأخيرًا، يلخص القسم الثالث المواقف الرسمية والأكاديمية من القرار، بالإضافة إلى الانعكاسات المتوقعة للقرار (في حال تم اتخاذه) على الأكاديميا والاقتصاد في إسرائيل.

القسم الأول:العلاقة التاريخية العلمية بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل

تمتعت إسرائيل طوال العقود الماضية بعلاقة وثيقة مع أوروبا، بدأت وتطورت قبل قيام إسرائيل عام 1948، واستمدت قوتها من عدة أسباب تاريخية، وثقافية، واستعمارية، وبعد ذلك اقتصادية. ومع تشكل الجماعة الأوروبية 1958 بحثت إسرائيل عن بناء علاقة متينة، بل وفكرت في أن تصبح عضوًا فيها. وقدمت مسوغات لهذه الرغبة تنوعت من البيئة المحيطة بها إلى كونها أوروبية الطابع والثقافة إلى ارتباطها بالأسواق التجارية الأوروبية. لكن الرفض الأوروبي لتلك الرغبة كان يؤكد دومًا أن الغاية هو الوصول إلى التعاون المشترك بين الطرفين.[4]

في عام 1977، تمّ التوقيع بين الجانبين على اتفاق لتبادل العلماء، شكّل الأساس الأول للتعاون العلمي بين إسرائيل والمجموعة الأوروبية. وفي عام 1983، جرى تطوير هذا التعاون من خلال توقيع بروتوكول إضافي يتعلق ببرامج الأبحاث المشتركة، نُصّ فيه على أن يتحمّل الاتحاد الأوروبي تمويل ما نسبته 60% من تكاليف المشاريع البحثية، في حين تتولى إسرائيل تغطية نسبة الــــ 40% المتبقية.[5]

في الواقع، شهدت العلاقات الأوربية الإسرائيلية صعودًا وهبوطًا في فترات مختلفة متأثرة بالسياق الإقليمي، ومواقف الحكومات الإسرائيلية المختلفة من القضايا السياسية التي تطرأ على النقاش في الشرق الأوسط، فمثلًا توترت العلاقة بين الطرفين مع الغزو الإسرائيلي للبنان 1982، وعقب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.

أسهمت أجواء عملية السلام في مدريد في تعزيز العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، ما أفضى إلى توقيع اتفاق الشراكة بين الطرفين عام 1995، والذي دخل حيز التنفيذ فعليًا في حزيران 2000. وقد مثّل هذا الاتفاق محطة مفصلية في مسار التعاون الثنائي، بلغ ذروته بقبول إسرائيل في "برنامج الإطار الأوروبي للبحث العلمي"، لتصبح بذلك أول دولة من خارج عضوية الاتحاد الأوروبي تنضم رسميًا إلى هذا البرنامج.[6]  كما استطاعت إسرائيل أن تنفذ توصيات لشبونة المتعلقة بتخصيص ما نسبته 3% من الناتج المحلي الإجمالي للبحث والتطوير. وقد أتاح كل ذلك لإسرائيل أن تحظى بعلاقة خاصة ومميزة مع الاتحاد الأوروبي، مكّنها من الانخراط في عدد من المشاريع البحثية والتكنولوجية الكبرى، من بينها: برنامج (EUREKA) لتطوير الصناعات التكنولوجية في أوروبا، ومبادرة الفضاء الأوروبية "جاليليو"، وبرنامج التنافس والابتكار، والتعاون مع وكالة الفضاء الأوروبية، بالإضافة إلى مشاركتها في البرنامج الأوروبي للعلوم والتكنولوجيا.

مع استمرار  حرب الإبادة على قطاع غزة وتفاقم الكارثة الإنسانية، وفي ضوء الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي شهدتها الدول الأوروبية احتجاجًا على استمرار الإبادة ودعم إسرائيل وتزويدها بالأسلحة، بدأت العلاقة المعقدة بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي تشهد نوعًا من التوتر، إذ لم يعد الدعم الأوروبي المطلق لإسرائيل الذي حظيت به في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر 2023 أمرًا مسلمًا به، فباتت العديد من الدول الأوروبية تُلوّح بخطوات عقابية جدية، تتراوح من ملاحقة الجنود الإسرائيليين الذين قُدمت بحقهم شكاوى في محاكم أوروبية، وصولًا إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة.

لكن ما لا يحظى بالقدر ذاته من النقاش العام- رغم آثاره البالغة- هو تصاعد وتيرة المقاطعات والعقوبات العلمية التي تُفرض على إسرائيل، والتي تُشكل تهديدًا لمكانتها العلمية والبحثية. في صلب هذه الإجراءات يأتي المقترح بتعليق مشاركة إسرائيل في برنامج هورايزن أوروبا (Horizon Europe)، الذي يُعد من أضخم برنامج تمويل الأبحاث العلمية والابتكار على مستوى العالم.

كان تقرير مدار الاستراتيجي "2025 المشهد الإسرائيلي 2024" قد أشار في ملخصه التنفيذي إلى أنه وعلى الرغم من وجود تراجع واضح في قوة واتساع الحراك العالمي المناهض للحرب على غزة 2023 والداعم للقضية الفلسطينية؛ في أعقاب الهجمة الشرسة التي شنتها جهات رسمية وأخرى غير رسمية، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على بؤر الحراك، عبر التهديد بقطع التمويل عن الجامعات ومراكز الأبحاث. فإن أثر ذلك على إسرائيل تراكمي وأن مساعي قمعه في كثير من الأحيان يدفعان في المدى المتوسط باتجاه تعزيز عزلة إسرائيل الدولية وإدخالها في مسار التحول إلى دولة منبوذة على نطاق واسع، وهو ما تعتبره إسرائيل تهديدًا وجوديًا.[7] بعبارات أخرى، إن علاقات إسرائيل الخارجية تواجه تناقضًا إستراتيجيًا بعد حربها على غزة، فعلى الرغم من توسيع نفوذها عسكريًا وسعيها لفرض ترتيبات جديدة، فقد تآكلت شرعيتها عالميًا، وزادت عزلتها وسط اتهامات بارتكاب جرائم حرب، مما يعقد مسألة ترجمة إنجازاتها سياسيًا.[8]

القسم الثاني: "هورايزن أوروبا" وإسرائيل

أولًا: ما هو برنامج "هورايزن أوروبا"؟

برنامج هورايزن أوروبا (Horizon Europe) هو مبادرة بحثية علمية تمتد على مدى سبع سنوات، تشكّل الإطار التمويلي التاسع للاتحاد الأوروبي في مجال البحث والابتكار خلال الفترة 2021–2027. وهو امتداد لبرنامج "هورايزن 2020"، وتبلغ ميزانيته الإجمالية نحو 95.5 مليار يورو.[9]

تُقسّم ميزانية البرنامج إلى ثلاثة محاور رئيسية: أولًا، محور "العِلم الممتاز" بتمويل يُقدّر بـنحو 25 مليار يورو، ويشمل دعم المجلس الأوروبي للبحث العلمي، وبرامج التبادل البحثي، وتطوير البُنى التحتية العلمية. ثانيًا، محور "التحديات العالمية والتنافسية الصناعية" بميزانية تبلغ 53.5 مليار يورو، موزّعة على سبع مجموعات تغطي مجالات مثل الصحة، المناخ، الصناعة، والزراعة. ثالثًا، محور "أوروبا المبتكرة  الذي خُصص له 13.5 مليار يورو، ويهدف إلى دعم المجلس الأوروبي للابتكار والمعهد الأوروبي للابتكار والتكنولوجيا. كما خُصص مبلغ إضافي قدره 3.3 مليار يورو لتوسيع قاعدة المشاركة وتعزيز منطقة البحث الأوروبية.[10]

يهدف البرنامج إلى معالجة التحديات العالمية كأزمة المناخ، وتعزيز التنمية المستدامة، وتحقيق النمو الاقتصادي والصناعي الأوروبي، من خلال دعم البحث العلمي والتقنيات المتقدمة، وتعزيز التعاون بين الكيانات البحثية في دول الاتحاد والدول الشريكة. كما يسعى إلى خلق فرص عمل، وتفعيل الطاقة البشرية الأوروبية، وتحقيق أقصى أثر للاستثمار في مجال الابتكار ضمن مساحة بحث أوروبية موحدة.

ثانيًا: إسرائيل و "هورايزن أوروبا"

تُعد إسرائيل شريكًا رئيسيًا في برامج البحث العلمي التابعة للاتحاد الأوروبي منذ تسعينيات القرن الماضي، وقد عززت حضورها في إطار التعاون البحثي من خلال مشاركتها الفاعلة في برنامج "هورايزن 2020"، الذي انضمت إليه رسميًا في دورته الممتدة بين عامي 2014 و2021. ووفقًا لبيانات المفوضية الأوروبية حتى نيسان 2025، بلغ إجمالي المنح التي حصلت عليها إسرائيل من هذا البرنامج نحو 831 مليون يورو.[11]

وفي إطار الدورة الحالية، تُشارك إسرائيل كشريك كامل العضوية في برنامج "Horizon Europe"، الممتد من العام 2021 - 2027، بميزانية إجمالية تقدر بنحو 95 مليار يورو. ويوفر البرنامج فرص تمويل واسعة النطاق تستهدف مؤسسات أكاديمية، وشركات ناشئة، وشركات صغيرة ومتوسطة، إلى جانب وزارات حكومية، ومستشفيات، وسلطات بلدية، ومنظمات غير ربحية. كما يشمل البرنامج تمويلًا مخصصًا للباحثين المتميزين في مجالات الأبحاث المتقدمة.[12]

وتجدر الإشارة إلى أن مشاركة إسرائيل كانت مشروطة باستثناء المشاريع الواقعة في المستوطنات الإسرائيلية بالضفة الغربية والقدس الشرقية وهضبة الجولان من نطاق التمويل، انسجامًا مع الموقف الأوروبي الرافض لشرعنة الاحتلال لهذه  المناطق. [13]

تمنح هذه الشراكة المؤسسات البحثية الإسرائيلية حق التنافس على قدم المساواة مع نظيراتها الأوروبية، وقد سجلت إسرائيل معدلات نجاح عالية في الفوز بالتمويل. فوفقًا للمعطيات، بلغت نسبة نجاح المتقدمين الإسرائيليين للحصول على منح المجلس الأوروبي للبحث العلمي (ERC) نحو 20% خلال الفترة بين 2007 و2024، وهي النسبة الأعلى عالميًا، مقارنة بمتوسط لا يتجاوز 8% على مستوى دول العالم. [14]

تُعتبر منح ERC من أكثر المنح البحثية قيمةً في أوروبا، حيث تصل قيمة المنحة الواحدة إلى نحو مليوني دولار، وتوفّر فرصًا واسعة للتعاون مع نخبة المختبرات والمؤسسات الأكاديمية العالمية، في المقابل، لا تتجاوز قيمة المنح البحثية المحلية في إسرائيل 800 ألف شيكل. وقد حصلت إسرائيل حتى اليوم على 225 منحة  ERC، توزعت على النحو التالي: 121 منحة للباحثين الشباب، 58 للباحثين المتقدمين، و46 للباحثين البارزين. [15]

 

قيمة التمويل من الاتحاد الأوربي

اسم المؤسسة الإسرائيلية

588.73 مليون

معهد وايزمان للعلوم

449.96 مليون

الجامعة العبرية في القدس

426 مليون

جامعة تل أبيب

314.42 مليون

معهد التخنيون

128.55 مليون

جامعة بار إيلان

126.88 مليون

جامعة بن غوريون

97.53 مليون

إسرائيل للعوم والتكنولوجيا -IBM

54.68 مليون

جامعة حيفا

الجدول رقم (1)، يستعرض أهم الجامعات والمعاهد الإسرائيلية المشاركة في برنامج Horizon Europe، بالإضافة إلى حجم التمويل المخصّص لكل منها لمجموع، بحسب مفوضية الاتحاد الأوروبي.[16]

 

 

القيمة من إجمالي البرنامج   Horizon 2020

المعطى

3.37 مليار يورو

صافي مساهمة الاتحاد الأوربي

5.625 منحة

المنح موقعة

6.936 مشاركة

عدد المشاركات

952 مؤسسة إسرائيلية

عدد الكيانات الفريدة المشاركة

15.30% مقابل 8.58% كمعدل عام

نسبة النجاح

26.484 تمثل 4.54% من المعدل الإجمالي

عدد المقترحات المؤهلة

31.077 طلب

عدد الطلبات المقدمة

الجدول رقم (2) يُظهر أبرز المعطيات المرتبطة بإسرائيل ضمن إطار المشروع، وذلك استنادًا إلى البيانات الصادرة عن مفوضية الاتحاد الأوروبي.[17]

 

 

القسم الثاني: المواقف الرسمية والأكاديمية: تداعيات المقترح على إسرائيل

تواجه إسرائيل ضغوطًا متصاعدة على المستويين الأكاديمي والسياسي، مع تصاعد المطالبات الأوروبية بتعليق مشاركتها في برنامج "هورايزن أوروبا". ورغم الجهود الدبلوماسية المكثفة التي تبذلها إسرائيل لإحباط المقترح، تبدو التقديرات الإسرائيلية متشائمة، الأمر الذي يُنذر بعواقب سلبية على مكانة إسرائيل العلمية والدولية.

أولًا: الموقف السياسي والأكاديمي الإسرائيلي

  1. الموقف السياسي الإسرائيلي

لم تُبدِ وزارة الخارجية الإسرائيلية موقفًا حاسمًا حول توصية تعليق مشاركتها في برنامج "هورايزن أوروبا"، واكتفت بنشر تغريدة عبر حسابها الرسمي على منصة "X"، وصفت فيها التوصية بأنها خاطئة وغير مبرّرة، مؤكدة عزمها بذل كل جهد ممكن لمنع تبني القرار من قبل مجلس وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، ومشددة في الوقت ذاته على أن إسرائيل "لن ترضخ لأي ضغوط تمس مصالحها الوطنية". [18]

ويعكس هذا الموقف توجّه الحكومة نحو التقليل من وطأة التهديد أو محاولة الظهور بمظهر المتماسك في مواجهة الضغوط الأوروبية، رغم التقديرات التي تشير إلى إمكانية تمرير القرار، خاصة في ظل التحول في مواقف دول مؤثرة مثل إيطاليا.

لم يخلُ الموقف من انتقادات وُجّهت إلى الحكومة الإسرائيلية من شخصيات سياسية بارزة سابقة؛ إذ أعربت وزيرة العدل السابقة، تسيبي ليفني – التي كانت في الحكومة الإسرائيلية عند توقيع الاتفاقية – عن استيائها الشديد من الاقتراح، محمّلة الحكومة الحالية مسؤولية اتخاذ هذا القرار وما نجم عنه من تدهور في علاقات إسرائيل الدولية.[19]

  1. الموقف الأكاديمي الإسرائيلي

على الطرف المقابل للحسابات السياسية، يبدو القلق أعمق وأكثر وضوحًا لدى  الأوساط الأكاديمية والبحثية الإسرائيلية، حيث تتزايد المخاوف من أن يؤدي تعليق المشاركة في "هورايزن أوروبا" إلى عزل إسرائيل علميًا.فقد أشارت معطيات رابطة رؤساء الجامعات الإسرائيلية أن هناك تصاعدًا غير مسبوق في حالات المقاطعة الأكاديمية. منذ اندلاع الحرب على غزة، تم توثيق أكثر من 30   حالة مقاطعة مؤسسية، بالإضافة إلى ازدياد حالات المقاطعة الفردية للأكاديميين الإسرائيليين لتصل إلى 700   حالة عام 2025، شملت هذه المقاطعات إلغاء الشراكات، وحظر استخدام الموارد البحثية، ورفض نشر المقالات العلمية، وإلغاء المؤتمرات والمحاضرات، منذ بداية الحرب على غزة 2023.[20]

 في السياق نفسه، حذر البروفيسور، دافيد هرائيل، رئيس الأكاديمية الوطنية الإسرائيلية للعلوم، من أن مجرد مناقشة هذه الإمكانية يُلحق ضررًا بالمجتمع العلمي الإسرائيلي. مؤكدّا أن العلم ليس رفاهية للنخبة، بل دعامة تقوم عليها الدولة بأسرها، وأن منظومة "القبة الحديدية" هي نتاج تراكم علمي طويل.

بدورها عبّرت البروفيسورة، ميخال بار آشر سيغال، نائبة رئيس جامعة بن غوريون للعلاقات الدولية، عن قلقها العميق من المقترح الذي يتم مناقشته، ووصفت برنامج "هورايزن" بأنه "شريان الحياة للأكاديميا" الإسرائيلية، معتبرة أن تعليق مشاركة إسرائيل فيه سيكون مسألة وجودية تمسّ حياة الأوساط البحثية. وأضافت أن الإقصاء من هذا البرنامج سيُبعد الباحثين الإسرائيليين عن فضاءات التعاون والنشر العلمي الدولي، وسيمثّل ضربة استراتيجية لمكانة إسرائيل البحثية، لا سيّما في ظل الانكماش المتواصل في التمويل الأميركي منذ إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.

من جانبها وصفت البروفيسورة، (Milette Shamir/ ميليت شامير)، نائب رئيس جامعة تل أبيب، الاستبعاد المحتمل من "هورايزن" بأنه كارثي، مؤكدة أن الأبحاث المؤثرة لم تعد ممكنة دون شراكات علمية دولية. ونبّهت إلى أن محاولة تعويض الخسارة من خلال إعادة استثمار الأموال داخل إسرائيل لن تفي بالغرض، لأن فقدان شبكة التعاون مع الدول البحثية الكبرى لا يُعوّض بالتمويل المحلي وحده.

ثانيًا: أبعاد قرار تعليق اتفاقية هورايزون على إسرائيل

  1. البحث والابتكار الإسرائيلي في أزمة

ترجّح التقديرات الإسرائيلية أن تنفيذ هذا التعليق – حتى لو جاء جزئيًا – سيُلحق أضرارًا كبيرة بالقطاع البحثي والعلمي والاقتصادي في إسرائيل، أبرزها:

أولاً: تهديد جوهري يواجه مستقبل البحث العلمي في إسرائيل، حيث حذّرت الأكاديمية الوطنية الإسرائيلية للعلوم بشدة من أن أي قطيعة مع الاتحاد الأوروبي ستُفضي إلى عزلة علمية خطيرة، مؤكدة أن الإنجازات البحثية الكبرى – بما في ذلك تلك التي حققتها إسرائيل – تعتمد بالأساس على شراكات دولية وتعاون عابر للحدود. [21]

ثانيًا: هجرة العقول، من المتوقع أن يدفع هذا التعليق أبرز العلماء والباحثين الإسرائيليين نحو البحث عن فرص أفضل في دول أخرى تتيح لهم الحصول على منح بحثية مرموقة وفرص تعاون دولية مجدية.[22] مما يعني تراجع معدلات النجاح والتمويل في إسرائيل، بدأت المؤشرات السلبية تظهر بالفعل، حيث انخفضت نسبة نجاح المشاريع الإسرائيلية في الحصول على المنح بشكل ملحوظ من 4-5% في السنوات السابقة إلى 1.7% مؤخرًا. كما انخفضت نسبة فوز العلماء الشباب بالمنح من 29% - 9% فقط، مما يعكس بداية تراجع القدرة التنافسية.

ثالثًا: عزل علمي دولي، حيث تخشى الجامعات والمؤسسات البحثية الإسرائيلية من العزلة الدولية المتزايدة، مما يضعها في مواجهة صعوبات كبيرة في إقامة مشاريع مشتركة مع نظيراتها الأوروبية. كما قد تمتنع الدول الأخرى عن التعاون خشية فقدان أهليتها للحصول على المنح، بل إن مجرد التهديد الصريح بالتعليق يكفي لردع الباحثين الأوروبيين عن التعاون مع إسرائيل.

  1. عبء على الاقتصاد في إسرائيل

ينذر تعليق عضوية إسرائيل في برنامج "هورايزن أوروبا" بعواقب بعيدة المدى، ستطال الاقتصاد الإسرائيلي، وتُسهم في تآكل صورتها كقوة علمية دولية. وتتمثل أبرز هذه الانعكاسات في النقاط التالية:

أولًا: ستتكبد إسرائيل خسارة مالية فورية تُقدَّر بنحو 150   مليون يورو في حال تفعيل قرار تعليق مشاركتها في برنامج "هورايزن أوروبا"، وهي مبالغ كانت قد رُصدت فعليًا لتمويل مشاريع ابتكار وتكنولوجيا متقدمة تشمل مجالات حيوية مثل الذكاء الاصطناعي، والطب الحيوي، والتقنيات الخضراء، والأمن السيبراني.[23]

ثانيًا: تخشى إسرائيل من أن يؤدي إقرار تعليق مشاركتها في برنامج "هورايزن أوروبا" إلى تصفية عدد كبير من شركات التكنولوجيا الناشئة، التي تُشكّل ركيزة أساسية في منظومة الابتكار الإسرائيلية.[24] فالكثير من هذه الشركات تعتمد بشكل حاسم على التمويل الأوروبي في مراحلها الأولى لتطوير النماذج الأولية، وإجراء الأبحاث التطبيقية، والدخول إلى الأسواق العالمية.

ثالثًا: سيُشكل تعليق مشاركة إسرائيل في "هورايزن أوروبا" ضربة رمزية لصورتها كقوة علمية عالمية، ويُنظر إليه كسابقة سياسية تُعبّر عن تآكل الشرعية الدولية لسلوكها. هذا الإجراء قد يفتح الباب أمام مزيد من الضغوط والمقاطعات في محافل أكاديمية وسياسية أخرى.[25]

خاتمة

في ضوء ما تقدّم، يمكن القول إن مصير المقترح الأوروبي بتعليق عضوية إسرائيل في برنامج "هورايزن أوروبا" يفتح الباب أمام سيناريوهات متباينة، تنذر بتحديات لا يستهان بها، على النحو التالي:

السيناريو الأول: في حال تم إقرار المقترح، فستكون انعكاساته السلبية– كما ذُكر أعلاه–  على المستوى الأكاديمي، والبحثي، والاقتصادي في إسرائيل، من حيث التمويل والتعاون الدولي وكذلك مكانة إسرائيل العلمية.

السيناريو الثاني: في حال نجحت إسرائيل– بدعم بعض الدول الأوروبية المؤثرة مثل ألمانيا– في إفشال تمرير المقترح، فإن ذلك لن يحميها من انعكاساته الرمزية والسياسية، وستُيظهِر حجم التآكل المتزايد في مكانتها  الدولية، إذ أن ذلك سيُضاف إلى الضرر السياسي والأخلاقي المتراكم الذي ألحقته حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة. ومع بإسرائيل، استمرار الحرب وتدهور الأوضاع الإنسانية في غزة، يبدو أن اتجاه عزلة إسرائيل دوليًا مرشحًا للتفاقم، ما يجعل من تراجع الدعم الأوروبي– سواء اليوم أو في المستقبل القريب– تحوّلاً ممكنًا لا يمكن لإسرائيل تجاهله أو غض الطرف عنه وعن آثاره على المدى البعيد.

 

[1] مايا دو لا بوم، "دبلوماسيون أوروبيون يؤكدون أنهم لن يفرضوا عقوبات على إسرائيل بشأن غزة في الوقت الراهن"، يورونيوز، 4 آب 2025. https://www.euronews.com/my-europe/2025/08/04/eu-diplomats-confirm-they-wont-yet-sanction-israel-on-gaza

[2] المفوضية الأوروبية. المفوضية تقترح تعليقًا جزئيًا لمشاركة إسرائيل في برنامج "هورايزن أوروبا"، 29 تموز 2025. https://2h.ae/Ydvb

[3] للمزيد أنظر/ي الجريدة الرسمية للمجموعات الأوروبية، "اتفاقية الشراكة الأوروبية-المتوسطية بين المجموعات الأوروبية والدول الأعضاء فيها من جهة، ودولة إسرائيل من جهة أخرى"، العدد L 147/3، الصادر بتاريخ 21 حزيران 2000م. https://2h.ae/rLMf

[4]عاطف أبو سيف. "إسرائيل والاتحاد الأوروبي الشراكة الناعمة"،)  رام الله: مدار، 2011 (ص 12.

[5] أبو سيف، مصدر سبق ذكره. ص274 - 276

[6] أبو سيف، مصدر سبق ذكره.

[7][7] للمزيد أنظر/ي الملخص التنفيذي، تقرير مدار الإستراتيجي 2025 المشهد الإسرائيلي 2024.ص18-19.

[8] للمزيد أنظر/ي مشهد العلاقات الخارجية، تقرير مدار الإستراتيجي 2025 المشهد الإسرائيلي 2024. ص56.

[9] هورايزن أوروبا (Horizon Europe) المفوضية الأوروبية – البحث والابتكار . اطلع عليه في 31 يوليو 2025. https://2h.ae/McLS

[10] EU Funds ما هي ميزانية برنامج هورايزن أوروبا؟" هورايزن أوروبا، نُشر في 6 مايو 2021. https://eufunds.me/what-is-the-budget-of-horizon-europe/

[11] إيتمار ايخنار. "نقاش حول إقصاء إسرائيل من أكبر برنامج بحثي في العالم: كارثة على العلم"، يديعوت أحرنوت، 28 تموز 2025 https://www.ynet.co.il/news/article/hy0hdwsplg

[12] هيئة الابتكار في إسرائيل. "برنامج Horizon Europe والبرامج المرافقة له بتمويل مشترك (ERA NET) "، تمت الزيارة في 3 آب 2025. https://2h.ae/enKP

[13] مدار. "إسرائيل تتحسب من مشروع قرار أوروبي جديد ضد المستوطنات" . تقارير خاصة. نُشر في 18 يناير 2016. https://2h.ae/aVeO

[14] شاحر إيلان. "هورايزن هو شريان الحياة، استبعاد إسرائيل قد يُدمّر الأكاديميا الإسرائيلية"، كلكاليست، 25 أيار 2025، https://www.calcalist.co.il/local_news/article/rjne6kkgel

[15] شاحر إيلان، مصدر سبق ذكره.

[16] المفوضية الأوروبية. الملف القطري لبرنامج Horizon 2020: إسرائيل. تم الدخول في 3 آب 2025. https://2h.ae/hNGp

[17] المفوضية الأوروبية، المصدر السابق.

[18] ليزا روزوفسكي، جدعون ليفي، ووكالة رويترز. "الاتحاد الأوروبي يدفع نحو تعليق تمويل شركات التكنولوجيا الإسرائيلية ذات الاستخدام العسكري المحتمل"، هآرتس، 28 تموز 2025. https://www.haaretz.co.il/news/politics/2025-07-28/ty-article/.premium/00000198-50e4-db49-a5de-f2f6e4650000

[19]  سروجيم، "تسيبي ليفني في أول تعليق لها على قرار الاتحاد الأوروبي: حكومة فظيعة، 29 تموز 2025.  https://2h.ae/VBaG

[20] شاحر إيلان، مصدر سبق ذكره.

[21] ليزا روزوفسكي، جدعون ليفي، مصدر سبق ذكره.

[22] شاحر إيلان، مصدر سبق ذكره

[23] إيتمار ايخنار، مصدر سبق ذكره.

[24] شاحر إيلان، مصدر سبق ذكره

[25] آنا بارسكي. "العلاقات في أدنى مستوياتها: الاتحاد الأوروبي يوجّه تهديدًا سياسيًا جوهريًا لإسرائيل"، معاريف، 28 تموز 2025، https://www.maariv.co.il/news/politics/article-1218895

المصطلحات المستخدمة:

التخنيون, هآرتس