المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

فضلاً عن مفاعيل صيغ تجاوز الصراعات الشخصية، التي لا يجوز التقليل من أهميتها، فإن "تذليل العقبات" أمام إقرار خطة "فك الارتباط" من جانب الحكومة الاسرائيلية أسهمت فيه عدة عوامل قد تبدو متوارية عن الأنظار، لكنها تعتبر عوامل مباشرة وفي صلب الأحداث.

مهما تكن هذه العوامل فإن عاملين منها، متصلين من حيث المبنى والمعنى، يستحقان أن نتوقف عندهما بقدر مناسب من التفصيل:

الأول- عامل جوهر العلاقات الإسرائيلية- الأميركية.

الثاني- عامل الأوضاع الإقتصادية في اسرائيل، الآن وفي الأفق المنظور.

بخصوص العامل الأول يشير إفرايم هليفي، الرئيس السابق لجهاز "الموساد" و"مجلس الأمن القومي الاسرائيلي"، إلى أن عدم إقرار الخطة كان سيلقي ظلاّ أسود على منظومة العلاقات بين إسرائيل وواشنطن "الحيوية للغاية لأمن إسرائيل". ويمضي قائلاً ("يديعوت أحرونوت"، 4/6/2004): الإتفاق الاسرائيلي- الأميركي (وعد بوش) أفضى، ضمن أشياء أخرى، إلى نشوء مصلحة أميركية مباشرة وعلنية في وضح النهار في نتائج الصراع السياسي الداخلي الآني في إسرائيل. وليس سرًا أنه كانت للولايات المتحدة في الماضي مصالح مخصوصة في كل ما يتعلق بسياسة إسرائيل، بل وحتى حيال إشغال هذه الوظيفة أو تلك. الولايات المتحدة هي الدولة الأعظم في العالم وهي صديق حقيقي لاسرائيل وإنه لأمر طبيعي أن تهتم بما يحدث داخلها. لكن الآن أضحت مصلحتها، بمبادرة إسرائيلية، مباشرة جدًا، مكشوفة جدًا، وربما تضحي بمرور الوقت فظّة جدًا كذلك. وهذه الطريق، التي جرى سلوكها إختيارًا، تنجم عنها أيضًا مسؤولية أميركية إزاء مصير إسرائيل، بمفاهيم لم تكن سائدة في السابق.

في سياق متصل، لكن من وجهة نظر إقتصادية فاقعة، نشر رئيس "بنك هبوعليم"، أكبر مؤسسة بنكية إسرائيلية، شلومو نحاما، مقالاً في مجلة "ذي ماركر" الاسرائيلية المتخصصة في شؤون المال والأعمال (عدد حزيران/ يونيو 2004) أكد في ثناياه أنه من غير استئناف العملية السياسية سيكون من الصعوبة بمكان مواصلة ما أسماه "نزعة النمو في الاقتصاد الاسرائيلي". وأضاف: تبدو خطة "فك الارتباط" كما لو أنها مرحلة أولى وهامة في إخراج العملية السياسية من الجمود، الذي آلت إليه. ولذا فإنني سوية مع زملائي كافة في قطاع الأعمال نؤيدها، جملة وتفصيلاً.

في واقع الأمر فإن مقال "نحاما" هذا يعكس جانبًا مهمًا من العوامل والتسويغات، التي يتعين إخضاعها للتأمل عند ملامسة الدوافع الواقفة خلف "الفكر السياسي" الاسرائيلي الذي يدجّج فكرة "الإنفصال"، حتى بما تحيل إليه أيضًا، وإن بصورة جزئية، من "تأييد" للإنسحاب من غزة ومناطق محتلة أخرى.

ونظرًا لأهميته نقرأ منه مقاطع أخرى، تفي بالغرض المتوخى.

يرى "نحاما" أنه خلافًا للإقتصاد القديم، الذي اعتمد أساسًا على الإنتاج وتبعًا لذلك شهد حالات عينية كانت فيها الحروب أو حملات الإستعداد للحروب نافعة للدورة الإقتصادية في المجمل، فإنه في ظل الإقتصاد الحديث، الذي يعتمد على الدمج ما بين الانتاج والخدمات وعلى منظومات مالية وبنكية متطورة، أصبحت الحروب غير ذات صلة. فهي (الحروب) الآن لا تسهم بالتأكيد في مناعة إسرائيل التي تحتاج، مثل الحاجة إلى الهواء للتنفس، إلى استثمارات خارجية وإلى ائتمانات أجنبية يتحدد ثمنها بقدر كبير إستنادًا إلى التقديرات بشأن الاستقرار الأمني والإقتصادي للدولة التي تطلب الائتمانات.

ويصل الكاتب إلى "بيت القصيد" حين يؤكد أن الخطوات الإقتصادية وحدها ليست كافية لاستئناف سيرورة النمو الإقتصادي، إذا لم تترافق معها خطوات سياسية، أولوية التأثير فيها راجعة بالأساس إلى التطورات الخارجية.

ولدى إنتقاله إلى "تسويق" خطة "فك الارتباط" من ناحية أرجحيتها الإقتصادية على وجه التحديد، يكتب "نحاما":

"بالاضافة إلى تأييد الجمهور الواسع فإن قطاع الأعمال والمستثمرين الأجانب ردوا بإيجابية على الخطة، وحظي رئيس الوزراء الاسرائيلي (أريئيل شارون)، خلال زيارته في الولايات المتحدة، بدعم قوي وحاسم للخطة من طرف الإدارة الأميركية".

ويمدّ الكاتب خطًا يصل بين منطوقه وبين ما سبق أن نطق به إفرايم هليفي بقوله: يجدر بنا أن نتذكر بأن التحالف بين اسرائيل والولايات المتحدة هو كنز إستراتيجي شديد الأهمية بالنسبة لإسرائيل. وفي منظوماتنا السياسية والإقتصادية ولدى الجمهور الاسرائيلي الواسع ثمة إتفاق واسع في هذا الشأن. الصداقة المتينة بين اسرائيل والولايات المتحدة تزوّد إسرائيل منذ سنوات عديدة بتكأة سياسية ثابتة، وهي حيوية للحفاظ على مكانة إسرائيل في العالم، وبالأخص في سوق الرأسمال العالمي. لقد وقفت الولايات المتحدة دومًا إلى جانبنا في أوقات الضائقة، ويكفي أن نذكر الضمانات الحكومية بقيمة 9 مليارات دولار، التي منحتنا إياها قبل أكثر من سنة وأنقذت الاقتصاد الاسرائيلي من الخطر الداهم بتخفيض تدريجه في لائحة الائتمان العالمي.

من هذه النقطة ينتقل هذا "القبطان" الإقتصادي إلى التلميح بأن متاعب الاحتلال الأميركي في العراق تستدعي الآن من إسرائيل أن ترد "بعض الجميل" للسيد عبر المحيط: ينبغي علينا أن نفعل أقصى ما نستطيع من أجل مساعدة الولايات المتحدة، ويعني هذا أن علينا اتخاذ خطوات سياسية تنأى قدر الإمكان بما يحدث عندنا عما يحدث في العراق. وحتى لو لم تقل الإدارة الأميركية ذلك بكل الوضوح، فلا شك أن هذا هو ما تتوقعه من إسرائيل. وإذا ما شعرت الولايات المتحدة بأن اسرائيل لا تقوم بما يكفي لمساعدتها، فمن شأن ذلك أن يؤدي إلى خلق شعور بالمرارة، وستكون لمثل هذا الأمر إسقاطات صعبة في جميع المستويات، بما في ذلك المستوى الإقتصادي.

عند هذا الحد يثور السؤال الذي لا بدّ منه: ماذا بعد إقرار الحكومة الاسرائيلية لخطة "فك الارتباط" في صيغتها "المعدّلة"؟.

بالاستعانة بما تقدّم من تسويغات نكتفي، جوابًا على هذا السؤال، الذي سيشغلنا كثيرًا في الفترة المقبلة، بالإشارة إلى توكيد إفرايم هليفي، في مقالته المذكورة آنفًا، أنه يبدو واضحًا منذ الآن أن اسرائيل وواشنطن لن تكونا "اللاعب" الوحيد في الساحة. وهو يكتب في هذا الصدد ما يلي: إن توجهنا إلى مصر والأردن وعناصر دولية أخرى لأداء مهمات في تطبيق خطة الانفصال، على رغم التوصل إلى اتفاق اسرائيلي- أميركي غير مسبوق، يجسّد بالملموس حقيقة أن الولايات المتحدة غير قادرة وربما غير راغبة أيضًا في أن تكون الوسيط الوحيد في النزاع مع الفلسطينيين. إنها ترغب بأداء دور رئيسي لكن غير حصري. وكلما تمر الأيام والأسابيع يتضح أزيد فأزيد أنه على رغم رغبتنا وربما رغبة الولايات المتحدة فإن أيًا من لاعبي "التعزيز" لا يرغب وغير مستعد لأداء الدور المعدّ له تمامًا بموجب الوصفة المملاة من قبل صانعي الخطة الأصليين. وإلى مصر والأردن ستنضم الآن بريطانيا ( التي رفضت إقتراحاتها في مجال الأمن الفلسطيني بصورة مطلقة من جانبنا) وأقطار أوروبية أخرى والإتحاد الأوروبي وغيره.

وخلاصة ما يتوصل إليه هليفي أنه طبقًا لذلك "ستقود هذه الطريق، خلافًا لرغبة رئيس الوزراء شارون حتى الآن، إلى تدويل حلّ النزاع. وهذا الأمر شكّل ولا يزال يشكّل أمنية (الرئيس الفلسطيني) ياسر عرفات، الذي من الجائز أنه سيحقق حلمه في المستقبل".

لكن-إستدراكًا- هل يمكن التعويل على سيناريو هليفي هذا فحسب، لتزكية التعامل بإيجابية ما مع قرار الحكومة الاسرائيلية إقرار خطة "فك الارتباط"؟. عن هذا السؤال من الصعب الإجابة في الوقت الراهن.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات