المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

صادف قبل أيام مرور 88 عاماً على صدور وعد بلفور الذي أعد بصيغته النهائية في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1917 ونشر في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر من نفس العام.

هذه الوثيقة تشكل نموذجاً أليفاً للتعبير "في نظر المتأمل"، بمعنى أن الأمر منوط بالشخص أو الجهة التي يتم توجيه السؤال إليها. فالمشروع الصهيوني مفعم بالسرور والبهجة في حين يخيم الحزن والكدر والحداد على عزيمة الفلسطينيين.

وعلى الرغم من أن الجانبين، الصهيوني والفلسطيني، كانوا على بينة من الخدعة البريطانية المحكمة، سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة، فإن هذا التصريح (وعد بلفور) من حيث صياغة وتوقيت صدوره ونواياه ومراميه، أدى إلى جعل الطرفين ناقمين ساخطين كلا تجاه الآخر، وفي المحصلة كانت الحركة الوطنية الفلسطينية هي الخاسرة والمتضررة من ذلك "الوعد".

وفي اعتقادي فإن السؤال الملّح هو: لماذا لم تمنح بريطانيا ذلك "الوعد البلفوري" للعرب الفلسطينيين، أو "على الأقل" لم تمنحهم وثيقة (وعداً) موازية؟

إن سؤالاً بهذه الصيغة، وفيما عدا التسلية التاريخية التي يولدها، كان قد أُهمل لسبب ما، حتى على موائد البحث. وهو بالقطع لم يقلق أو يشغل المشروع الروائي الصهيوني، بحيث يطرح مثلاً على أجندة جهاز التربية والتعليم. علاوة على ذلك فإن جهاز التعليم (الإسرائيلي) لا يزال أسيراً لوجهة النظر الميثولوجية المشوهة والمغلوطة التي أرساها مستشرقون من أمثال البروفيسور يهوشع بورات الذي نشر في العام 1971 كتابه "ظهور الحركة الوطنية العربية الفلسطينية 1918-1929" (انتبهوا للتاريخ – 1918!!)، والذي ادعى فيه أنه لم يكن هناك وجود لحركة وطنية فلسطينية قبل الحرب العالمية الأولى.

فضلاً عن ذلك طرح الكتاب إدعاء سخيفاً مؤداه أن الحركة الوطنية الفلسطينية ظهرت أو انبعثت فقط نتيجة للقاء مع الصهيونية، وهو إدعاء ينطوي على قدر من الخبث المغرض من حيث أنه يسعى إلى صبغ الحركة الفلسطينية وروادها بألوان المحاكاة وانعدام التقاليد والإرث القوميين، بل ودمغها بالعدمية والعنفوية العبثية.

كذلك يسعى هذا الطرح إلى الإدعاء بأن الفلسطينية كانت بمنزلة ردة فعل رجعية على صدور وعد بلفور، وبالتالي ليس هناك بطبيعة الحال أية صلة أو رابطة بين هذا "الوعد" وبين الذين ظهروا بجريرته ("الطوائف والمجموعات غير اليهودية" في فلسطين). وهو ما يعني- وفقاً لما يرمي إليه الإدعاء ذاته- برهاناً آخر على مقولة " شعب بلا أرض لأرض بلا شعب".

وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا توجد بالتالي أية جدوى للانشغال في سؤال غير ذي صلة من قبيل: لماذا لم يمنح الوعد (وعد بلفور) لعرب فلسطين؟.

وما من داع للتنقيب أو الغوص عميقاً في بطون كتب التعليم المخصصة لأطفال وتلاميذ إسرائيل، لكي يعثر المرء هنا وهناك على أسس وعناصر عاطفية ووجدانية مفرطة (وسأجازف بالقول: صبيانية وقاصرة بعض الشيء) والتي قبعت في صلب إصدار وعد بلفور، مثل التزام بريطانيا تجاه المساعدات الكيميائية- العسكرية التي قدمها البروفيسور حاييم وايزمان للمجهود الحربي البريطاني؛ العلاقات الشخصية بين زعماء صهيونيين وبين زعامة الحكم البريطاني؛ التوجه المسيحي الحماسي لدى رئيس حكومة بريطانيا لويد جورج؛ الإيمان بضرورة تطوير علاقات عمل وتعاون بين المشروع الصهيوني المستقبلي وبين البريطانيين، إضافة إلى الاعتبار الأخلاقي بشأن وجوب دعم ومساندة الشعب اليهودي المضطهد...الخ.

من الممكن أيضاً العثور على فرضيات أساسية خلص إليها بعض الباحثين ومؤداها أن بريطانيا سعت إلى تجنيد الثوريين اليهود في الحزب الشيوعي الروسي الحاكم كي يعملوا من أجل تفادي انسحاب روسيا من كتلة "دول الحلفاء"، وهو إدعاء ثبت بطلانه نظراً لأن بقايا اليهود في روسيا الثورية كانوا ماركسيين عبروا عن موقف مناهض للصهيونية بوضوح.

كذلك طرح إدعاء مفاده أن بريطانيا سعت إلى تجنيد وزج الولايات المتحدة الأميركية في الحرب العالمية (الأولى) معتقدة أن إصدار وعد بلفور سيؤدي إلى ممارسة ضغط على شخصيات يهودية في الولايات المتحدة تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الإدارة الأميركية، وذلك حتى تؤثر هذه الشخصيات بدورها على الولايات المتحدة لجهة الانخراط في الحرب العالمية لصالح بريطانيا وفرنسا. غير أن هذا الإدعاء أيضاً لا يمكنه أن يبرهن على نفسه نظراً لأن ضعف تأثير الشخصيات اليهودية على البيت الأبيض في ذلك الوقت كان أمراً معروفاً للقاصي والداني.

لقد أصبح من الواضح اليوم للجميع أن وعد بلفور كان يهدف، أو من المفروض أن يؤدي، إلى دفن مشروعين سابقين فيما يتعلق بالشرق الأوسط: رسائل ماكماهون واتفاق سايكس- بيكو، بما يفضي إلى شرعنة وتكريس الكولونيالية البريطانية. ولعله يكفي التعرف على السيرة الشخصية لبلفور وفلسفته السياسية والأخلاقية من أجل تخمين ومعرفة حجم الدهاء البريطاني الذي عبّر عن نفسه في ذلك الوعد الشهير. فقد أخذت الكولونيالية تظهر كمشروع بغيض ومرفوض في نظر الدول المنتصرة في الحرب وكعارض سرطاني خبيث يقبع في أساس عوامل وأسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى ولذلك أُخترعت لتحل مكان هذا الاصطلاح (أي مكان الكولونيالية) كلمة جديدة أو اصطلاح جديد وهو "انتداب" الذي لا يعدو كونه قناعاً للكولونيالية.

وقد سارع البريطانيون إلى تطبيع وشرعنة تواجدهم في الشرق الأوسط بعد انتهاء الحرب عن طريق منح الوعد لليهود والذي كان عبارة عن وثيقة ضبابية وملغومة تشكل رافعة تمهد لتكريس الانتداب.

لقد وجه البريطانيون أنظارهم، بكونهم القوة الاستعمارية العظمى، نحو الشرق الأوسط، وسعوا لاعتبارات إستراتيجية واقتصادية إلى توطيد سيطرتهم ونفوذهم في المنطقة. وقد استهدفت العلاقات التي طورها البريطانيون مع السلطان التركي عبد الحميد الثاني، إعطاء دفعة قوية نحو تجسيد تطلعاتهم وأطماعهم، إلاّ أن الحرب العالمية الأولى شوّشت خطط ومشاريع البريطانيين وباقي القوى "الصديقة" لتركيا. كذلك بادر البريطانيون في العام 1915 إلى تبادل الرسائل مع الشريف الحسين بن علي من مكة، بغية تأمين دعم وتأييد عرب الصحراء لبريطانيا خلال الحرب، وسط إعطاء وعود للشريف حسين بتمكينه من بسط سيطرته على دولة كبيرة، مملكة تمتد رقعتها من الصحراء وحتى البحر، ومن جملتها، ضمناً، السيطرة على فلسطين. ويشار إلى أن صيغة الرسالة التي أرسلها هنري ماكماهون إلى الشريف حسين اشتملت على خطوط ونقاط مشابهة جداً لما ورد في نص وعد بلفور الذي صدر بعد مرور عامين من تاريخ رسالة ماكماهون للشريف حسين.

قبل أن يجفّ حبر تلك الرسائل أخذت بريطانيا تتبادل الرسائل مع الفرنسيين التي توصل الطرفان نتيجتها إلى بلورة اتفاق سري، عرف باسم اتفاق سايكس- بيكو، على اسم موقعيه من البلدين.

وقد ضمن الاتفاق للطرفين، والذي كان مرفقاً هذه المرة بخرائط، تقاسم الشرق الأوسط فيما بينهما بعد انتهاء الحرب.

ومن نافل القول إن صيغة هذا الاتفاق شكلت نقضاً وتقويضاً تامين لصيغة رسائل ماكماهون للشريف حسين، وبالطبع فإن بريطانيا وفرنسا اللتين كانتا واثقتين من حسم نتيجة الحرب العالمية الأولى لصالحهما، لم يكن يساورهما أي قلق أو توجس من أية جهة معارضة في الشرق الأوسط.

وبعد مرور سنة واحدة أخذت الأمور تبدو على نحو مختلف، حيث نشر البريطانيون وعد بلفور وذلك على أساس مصالح جيو- سياسية واضحة. وباختصار فقد "تحسست"- قدّرت بريطانيا أن الانتداب (وهو اصطلاح لم يكن قد تسرّب بعد إلى العالم الواسع) سوف يكون اقتراحاً معروضاً عليها وعلى فرنسا أيضاً، في منطقة الشرق الأوسط، ولذلك راحت بريطانيا تغازل اليهودية- الصهيونية وفي مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر (1917) خرجت بوعد بلفور الذي لم يكن سوى وسيلة استهدفت، في نفس الوقت، إلغاء الوعد أو التعهد البريطاني للشريف حسين من جهة، والتعهد المعطى للفرنسيين (سايكس- بيكو)، من جهة أخرى.

هذا الحديث يُعيدنا إذن إلى المسألة التي طرحت في بداية هذا المقال: لماذا لم يصدر تصريح أو وعد بالصيغة البلفورية ذاتها للفلسطينيين العرب أيضاً؟!

قد يقول قائل إنه لم يكن هناك من يعطي له مثل هذا الوعد، نظراً لأنه لم تتوفر في ذاك الوقت زعامة فلسطينية مقبولة، ملائمة ومعترف بها... صحيح أنه لا يمكن مقارنة المؤسسة الصهيونية- المنظمة في تلك السنوات- بقيادات فلسطينية قائمة، ولكن لو كان البريطانيون يريدون حقاً إصدار وعد لكانوا قد وجدوا بالتأكيد جهة يمكن منحها والاعتماد عليها.

وقد يُقال أيضاً إنه لم تنشأ علاقات وثيقة بين الزعماء العرب وزعامة الحكم في أوروبا على غرار ما نجحت في عمله الزعامة الصهيونية. صحيح، لكن الوثائق التاريخية تحاكم على أساس مصلحي وليس عاطفيا. كذلك فإننا لن نفتش أيضا عن حاييم وايزمن الفلسطيني أو عن تأثير فلسطينيين على روسيا الثورية والولايات المتحدة المتأرجحة بين دخول الحرب والحياد.

في المحصلة فضّل البريطانيون إصدار وثيقة مؤيدة ومنحازة للصهيونية، على الرغم مما يمكن أن يقال عنها بأنها وثيقة غامضة وقابلة للتأويل. فالوثيقة تضمنت عبارات أو تعابير غير ملزمة من قبيل "تنظر- بريطانيا- بعين ايجابية.." أو "ستبذل قصارى جهدها... للتخفيف"، كما ويمكن التساؤل بشأن ما يعنيه تعبير "بيت قومي" وما هي حدود صيغة "في أرض إسرائيل" وغيرها؟ فهذه التعابير يمكن أن تفسر في الحدود القصوى كأساس لدولة حقيقية، وفي الحدود الدنيا، ككيان يتمتع بحكم ذاتي، مجرّد من الصلاحيات.

علاوة على ذلك فإن الجزء الأخير من "الوعد" يقوّض تماما جوهر "الوعد" ويحطم الحلم الصهيوني.

فنهاية صيغة "الوعد" تعلن بصراحة ووضوح أن تجسيده لا يمكن أن يمس أو يضرّ بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين.

والحال فإن وعد بلفور للصهيونية يحتوي ضمنا على "وعد مصغر" للفلسطينيين، بمعنى أن باستطاعة الجمهور الفلسطيني، بناء على صيغة الوعد، المطالبة بتجسيد حقوق مدنية ودينية (علما أنه يمكن تحت عنوان "دينية" المطالبة بكل شيء تقريبا).

مما لا شك فيه أن مثل هذا التفسير أشغل الكثيرين من الفلسطينيين إبان تلك الفترة لكنه لا يجوز على أية حال التغاضي عن حقيقة أن "الوعد" قصد كيانا صهيونيا وليس فلسطينيا.

بقيت إذا تعقيدات فيما يتعلق بسؤال لماذا؟ لماذا نشر البريطانيون تصريحا (وعدا) مؤيدا للصهيونية وليس للفلسطينيين؟

يخيل لنا أن الإجابة موجودة في نفس "العقدة" السياسية التي طرحت أعلاه. بمعنى أن فك خيوط تلك العقدة يمكن أن يتمخض عن إجابة معينة لهذه المعضلة أو الإشكالية. هذه الإجابة هي: لقد كان يتحتم على البريطانيين تولي السيطرة على فلسطين. لذلك قاموا بخداع الشريف حسين بواسطة تبادل الرسائل، وعليه سارعوا إلى التوقيع على الاتفاق السري مع الفرنسيين (اتفاق سايكس- بيكو) أما مسألة من سيحظى بالوعد (وعد بلفور)، الصهيونيون أم الفلسطينيون، فلم تكن تشغل بال بريطانيا على الإطلاق، طالما أن مصالحها كانت مضمونة ومؤمنة. كذلك لم تكن هناك من صلة بين إعطاء الوعد للصهيونية وبين أي اعتراف بريطاني بالقومية اليهودية من جهة وبين تجاهل القومية الفلسطينية من جهة أخرى. فالسيطرة على المنطقة المنشودة (فلسطين) كان مقضيا لها أن تمنح لبريطانيا ليس بحكم اتفاق سايكس- بيكو وحسب، والحديث يدور هنا عن البعد الدولي- الدبلوماسي، وإنما أيضا بحكم وعد "صادق النوايا". وعد " شجاع " و"نبيل" يراعي ويأخذ بالحسبان وجود شعب مضطهد لا وطن له أثار صرخات استغاثة إعلامية متواترة في أنحاء وسط وغرب أوروبا.

صحيح أن الحركة الوطنية الفلسطينية كانت غارقة إبان تلك الفترة في دوامة أيديولوجية حول مسألة: هل يتعين عليها تنمية حلم ورؤيا قوميين جنبا إلى جنب مع مشروع "سوريا الكبرى" أم بمعزل عن هذا المشروع، غير أن الحركة الصهيونية كانت تتخبط أيضا في جدل شديد عشية الحرب وفي أثنائها فيما يتعلق بمركز الثقل الصهيوني: هل يجب أن يكون في الشرق الأوسط أم في الوسط الأوروبي؟!

على أية حال فإن الإجابة على السؤال المحدد في مقالي هذا تكمن، حسب رأيي، في نقطتين: الأولى جيو- سياسية- قومية، بمعنى أن منح "وعد" للفلسطينيين كان من شأنه أن يضع الموقف البريطاني الكولونيالي أمام مشكلة حقيقية حيال مصر والأردن والعراق مثلا. فمنح مثل هذا "الوعد" كان يمكن أن يثير الرياح القومية المعادية لأوروبا في الشرق الأوسط عامة، وأن يضع بالتالي الأطماع البريطانية التقليدية في مهب الريح.

النقطة الثانية، والمرتبطة بالأولى، شفت أكثر عن توجه برغماتي، أي أنه كان من المريح والأفضل للبريطانيين منح وعد لجمهور صغير، ضعيف، عديم التأثير- مثل المشروع الصهيوني في فترة موجات الهجرة الأولى- بالمقارنة مع الحجم الضخم للجمهور العربي- الإسلامي، وذلك انطلاقا من الإدراك الواضح لحقيقة أن مصير الوعد (وعد بلفور) يقف على كف عفريت، وبالتالي يمكن لبريطانيا بناء على غموض "الوعد" وبما يتلاءم مع تفسيرها أن تتصرف كما تشاء في المنطقة التي ستنتدب عليها في المستقبل وذلك عوضا عن التورط في إعطاء وعود فارغة من المضمون لجمهور كبير وواسع.

وقد أدركت القيادة الصهيونية، على ما يبدو، ذلك وفضلت الحصول على الوعد في انتظار أن تجني منه الفائدة القصوى.

والحال فإن صيغة الوعد الذي أصدره البريطانيون لم تأت عبثا أو من باب الصدفة: فقد شكل ذلك الوعد / التصريح الصادر في الثاني من نوفمبر عام 1917 مدخلا- رسميا في نموذج الانتداب وشكل لاحقا أرضية أخلاقية- دولية لإقامة دولة إسرائيل. ولا شك أن البريطاني يقول لنفسه: "كيف يمكن لي أن أبرهن على أنه لا توجد لي مطلقا شقيقة؟!"... أما الباقي فلا يعدو كونه تاريخاً...

_____________________________________

(*) الكاتب مؤرخ محاضر في "كلية بيت بيرل".

المصطلحات المستخدمة:

يهوشع, الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات