المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

"على مر الأجيال والعصور يسعون إلى محقنا وإبادتنا"- هذه العبارة التي اعتدنا على ترديدها عند سرد "حكاية عيد الفصح" [أو "قصة خروج بني إسرائيل من مصر الفرعونية] في كل سنة، أضحت جزءاً ومكوناً أساسياً في عبادة الذاكرة الجماعية لدى الأمة اليهودية، وليس عبثاً، فمعظم كتب التاريخ (وخاصة تلك المكرسة للمدارس) تروي لنا تاريخ الشعب اليهودي كما لو كان كتلة أو مجموعة من الكوارث والمصائب، فيخيل لنا أحياناً أن هذا التاريخ أشبه بحملة لا نهائية لأعداء يسعون إلى محق وإبادة الشعب اليهودي الذي نجح في التغلب على كل هؤلاء المتربصين بعون الله! هذه العبارة لم تَبْقَ كصيرورة مركزية مكونة في التاريخ اليهودي وحسب، وإنما تحولت أيضاً إلى حجر زاوية في التفكير والممارسة اليهوديين خلال القرن العشرين. ولكن وبغية مواءمتها مع الواقع المتغير – أرض إسرائيل بدلاً من الشتات الأوروبي أو البلدان الإسلامية – أُلبس ثوب العدو (الأسطوري القديم) للعدو (الجديد) الحالي المتمثل بـ "العرب". وأصبح العربي هو الغوي (غوييم-أغيار) المعروف، أو المستبد الذي بدا مشابهاً للنخبة الأرستقراطية (الأفندية) العربية ولم يبق سوى إيجاد الشخصية العربية المقابلة لـ "هامان" الشرير، أو هتلر أو موسوليني.

ولم يكن ذلك بالشيء الصعب أو العسير. فالصراع الإسرائيلي- العربي وكأي صراع آخر، أوجد الأرضية الملائمة لظهور تصورات وأفكار متناقضة وكذلك روايات تاريخية متضاربة. وقد ظهرت في القرن العشرين، وبصورة تسلسلية - كرونولوجية- جداً، أربع شخصيات، بدت كل منها في وقتها بمنزلة هتلر، الذي تزعم شعبا تطلع إلى إبادة الشعب اليهودي.

لقد بدأ ذلك بشخصية الحاج أمين الحسيني، مروراً بجمال عبد الناصر، الذي ورثه عملياً زعيمان لعب كل منهما الدور (المشار إليه في السياق الآنف): ياسر عرفات، الذي تزعم منظمة التحرير الفلسطينية منذ أواخر الستينيات، وصدام حسين، الذي تولى رئاسة العراق منذ نهاية السبعينيات. صحيح أن حقيقة، توقيع عرفات على اتفاق أوسلو قد خلقت صعوبة ما أمام مواصلة إدراجه ضمن مسلسل أعداء إسرائيل، إلاّ أن إندلاع الإنتفاضة الثانية سرعان ما أعاده إلى مكانه الطبيعي (!!!).

قمت أثناء عملي بتقصي وتتبع مواقف جمال عبد الناصر تجاه إسرائيل ومواقف النخبة الإسرائيلية تجاهه. وعلى الرغم من أن عبد الناصر عبر عن مواقف شديدة العداء ضد إسرائيل، فقد وجدت أن الزعامة والمجتمع الإسرائيليين قاما بتنمية صورة شيطانية خرافية عن عبد الناصر، تجاوزت في الكثير من الأحيان الواقع التاريخي على الأقل، حسبما تبدو عليه بعد مرور ثلاثين سنة. ويخيل إلى أن عملية مشابهة قد حدثت في نظرة إسرائيل للزعماء العرب الآخرين.

لم تكن أي من الشخصيات المذكورة أعلاه ودية تجاه إسرائيل واليهود. على العكس، فقد سعت كل واحدة منها بأسلوبها إلى تحقيق أهدافها غير المتساوقة مع أهداف إسرائيل. لكن الحاجة إلى الإعلان عن وجود عدو نبعت أولاً وقبل كل شيء من عدة احتياجات ومتطلبات للمجتمع والزعامة في إسرائيل، إذ أن هذا الأمر يتيح أولاً تعزيز تضامن الشعب الإسرائيلي في مواجهة ما ينظر إليه كعدو متربص وخطر محدق. ويتيح ثانياً "فهماً" أفضل للحاضر الذي يتراءى كجزء من سياق تاريخي طويل، وربما حتمي، من الصراعات والحروب المفروضة على الشعب اليهودي. وهو ثالثاً وأخيراً يتيح التهرب من مواجهة المشكلات الحقيقية الماثلة أمام الدولة والمجتمع.

في ظل هذا الوضع يغدو من السهل العودة إلى نغمة "لا يوجد شريك للحوار" [في الجانب الآخر...] والتي تحولت إلى مبدأ هام في سياسة إسرائيل الخارجية منذ قيام الدولة.

والحال فقد أوجد المجتمع الإسرائيلي عدة شخصيات للأعداء على مر القرن العشرين، وإذا ما كانت هذه الحاجة قائمة بالفعل، فإنه يبدو الآن، بعد إطاحة الأميركيين بصدام حسين ووفاة ياسر عرفات، أن هذا الدور قد أصبح يتيماً. والسؤال المطروح: من هو الذي سيكون العدو المقبل لإسرائيل؟! من هو المرشح لوراثة عرفات؟ في المرحلة الحالية على الأقل لا يبدو أن هناك مرشحاً مؤهلاً لهذا الدور، سواء من بين القادة الفلسطينيين أو من بين زعماء الدول العربية. قد يكون أسامة بن لادن إمكانية معقولة، في ضوء الحملة الأيديولوجية-الدينية التي يقودها ضد إسرائيل، لكن حقيقة كونه يخوض جهاداً عالمياً في مواجهة الغرب عامة وليس ضد إسرائيل فقط، تقلل من هذا الإحتمال.

إن محاولة "تشويه" شخصية عرفات، كما يستشف من السياسة القريبة للحكومة الإسرائيلية، إنما تدل على وجود رغبة لدى أوساط الحكومة في إستغلال الذاكرة حول العدو الميت، حتى النهاية، وهي محاولة غبية ساذجة لن تصمد لوقت طويل.

فبدلاً من البحث عن العدو المقبل، ربما من الأجدر بنا التوقف لنسأل أنفسنا إذا ما كنا لا نزال بحاجة له؟ فلربما أن هذه الحاجة قد اختفت بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على قيام دولتنا اليهودية المستقلة. وفي الواقع فإن إختفاء العدوين الأخيرين في القرن العشرين - صدام وعرفات- يمكن أن يشكل فرصة لرؤية الواقع بمنظار أقل ميثولوجية. ثمة وقت للتفكير بذلك حتى "عيد الفصح" المقبل!

§ كاتب المقال د. إيلي بوديه يعمل رئيساً لدائرة الدراسات الإسلامية والشرق الأوسط في الجامعة العبرية.

("هآرتس" – 29/11/2004)

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات