المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ليست هناك كراهية لها تاريخ طويل ودموي مثل اللاسامية. وقد وصفها المؤرخ "روبرت ويستريخ" بأنها "أقدم كراهية في التاريخ". فعلى مرّ آلاف السنوات أصابت عدوى اللاسامية شعوباً وديانات وثقافات لا حصر لها، وفتكت بضحاياها اليهود بشتى الطرق والوسائل المروعة. ولكن، وفي الوقت الذي لا يوجد فيه خلاف فيما يتعلق بحجم الظاهرة الواسع، فإن من المفاجىء معرفة أنه لا يوجد تقريباً إتفاق حول أسبابها.

وفي الواقع فإنه لا يمكن إعادة ظاهرة اللاسامية إلى سبب واحد ووحيد. فإنتشارها وتواتر حدوثها وتاريخ وجودها الطويل وبؤرها وملابساتها، عديدة ومنوعة للغاية. لهذا السبب ينحو عدد من الباحثين إلى رؤية كل موجة لاسامية كظاهرة منفردة ومحلية، وسط تغاضٍ تام عن الصلة الواضحة بين اللاسامية في العهد القديم واللاسامية المعاصرة. فسواء كان الحديث يدور عن الاعتداءات التي تعرض لها يهود الإسكندرية عام 38 للميلاد، أو الأحداث الدامية التي وقعت قبل ذلك بمئتي عام في القدس القديمة، أو قضية (محاكمة) درايفوس في فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر، أو أحداث ليلة التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1938 (التي نظم فيها النازيون في ألمانيا أعمال الشغب والسلب ضد يهود ألمانيا حيث حطموا واجهات المحلات التجارية اليهودية ونوافذ بيوتهم)، فقد اعتبرت كل حادثة من هذا القبيل نتاجاً لتضافر، غير متكرر، لقوى وعوامل سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ودينية، وليس كنتيجة لوضع مستمر له جذور عميقة.

هناك صيغة أكثر إعتدالاً لهذا التوجه، تشير إلى نماذج متكررة لـ "اللاسامية"، لكنها تحصرها في فترات محددة في التاريخ.

وعلى سبيل المثال فإن الكراهية الدينية في القرون الوسطى والكراهية العنصرية في العصر الحديث، تصوران كظاهرتين مختلفتين ومنفصلتين عن بعضهما.

والحال، فإذا كانت مسؤولية الموجات اللاسامية التي اجتاحت أوروبا منذ عهد قنسطنطين وحتى فجر حقبة التنوير تقع بالأساس على عاتق الكنيسة المسيحية، على اختلاف مذاهبها وتفرعاتها، فإن الإعتداءات والهجمات العنيفة التي وقعت خلال القرون الثلاثة التالية تفسر في شكل أساسي، كإفراز للنهضة القومية.

واضح أن هناك أفضلية بحثية لتناول الأحداث أو الفترات التاريخية بشكل منفصل. فهذا الأمر يتيح للباحثين التركيز بصورة أفضل وأعمق على الظروف والملابسات الخاصة بكل حدث، وتفحّص سيرورة موجات لاسامية معينة. بيد أن تحليلات من هذا النوع، وعلى الرغم من أنها تمكن الباحثين من إعطاء تفسير محدد للظاهرة، تعاني عملياً من عدم قدرة على رؤية وفهم الصورة بشموليتها. وفي الواقع، هناك سؤال ما انفك يشغل بالنا ويقلق راحتنا كلما أطلت مسألة اللاسامية برأسها وهو: إذا كانت كل موجة من موجات كراهية اليهود هي ظاهرة موضعية محددة، دون وجود خيط جليّ يربط بين الحوادث اللاسامية المختلفة التي وقعت عبر التاريخ، فكيف يمكن إذن تفسير تفاقم الظاهرة؟.

في معرض إجابتهم على هذا السؤال حاول عدد من الباحثين إعطاء ظواهر اللاسامية تفسيرات أكثر شمولية، غير تاريخية. ولعل التفسيرين الأكثر رواجاً هما نظرية "كبش الفداء"، والتي تقضي بأن إتهام المجموعة الأضعف من ناحية اجتماعية – وهي مجموعة اليهود في أغلب الأحوال – بكل مشاكل مجموعة الأغلبية، ما هي إلاّ وسيلة لتنفيس التوترات الإجتماعية. والتفسير الثاني يتمثل في النظرية "الشيطانية" والتي قدر لليهود بموجبها لعب دور "الآخر" نتيجة لحاجة المجتمع الدائمة لرفض كل ما هو مختلف من ناحية إثنية ودينية أو عرقية. طبقاً لهذه التوجهات السوسيولوجية، فإن جلّ خصوصية اللاسامية كظاهرة مناوئة لليهود يتلخص إذن في تسميتها، أما في جوهرها فهي ليست سوى نوع من أنواع الكراهية، ومن ضمنها أيضاً العنصرية وكراهية الغرباء. وبحسب هذا المفهوم، فإن موجة العنف – المعادية لليهود بشكل سافر – التي اندلعت في روسيا أوائل القرن العشرين، مرتبطة بالتطهير العرقي الذي جرى في "البوسنة" في نهاية القرن ذاته، بنفس الدرجة التي ترتبط فيها بمذبحة يهود أوكرانيا في أواسط القرن السابع عشر.

الإستنتاج المترتب على هذا الطرح (وبالفعل فقد كان هناك باحثون عبروا عن ذلك بوضوح) هو أن الكارثة (المحرقة النازية) تمثل في الواقع الممارسة العنصرية الأعنف في التاريخ البشري، وليس الحملة الأكثر دموية التي وجهت ضد اليهود. رداً على هذا النوع من الميول والنزعات العالمية اقتبست "حنه آرندت" قبل حوالي خمسين سنة، فقرة قصيرة مما وصفته بـ "نكتة" رويت في أعقاب الحرب العالمية الأولى:

إدعى أحد اللاساميين أن اليهود هم الذين يتحملون مسؤولية نشوب الحرب، فردوا عليه: أجل، اليهود وراكبي الدراجات الهوائية ... لماذا راكبي الدراجات؟- تساءل الرجل ... فردوا عليه: لماذا اليهود؟!

"جورج أورويل" أبدى ملاحظة مشابهة عام 1944 بقوله "حتى إذا كانت نظرية كبش الفداء صحيحة بمفاهيم عامة، فإنها لا تفسر لماذا يتم التعدي على اليهود بالذات دون سواهم من مجموعات الأقلية، كما أنها لا تبين ماهية التهمة المحددة التي تنسب إليهم".

بصرف النظر عن العيوب التي تشوب هذه التوجهات لا بد لي من الإعتراف بأن محاولتي كعقائدي لم تتكلل بنجاح أكبر.

قبل ثلاثة عقود، وعندما كنت ناشطاً سياسياً شاباً في الإتحاد السوفياتي، جمعت تقارير سرية حول حوادث لاسامية، لحساب صحافيين ودبلوماسيين غربيين. في تلك الأيام اعتقدت في قرارة نفسي أن سبب "المرض" (الظاهرة) هو الديكتاتورية، وأن دواءه يكمن في الديمقراطية. افترضت بأن اللاسامية ستموت من تلقاء ذاتها بعد استبدال النظام السوفياتي بنظام أكثر ديمقراطية. فالعالم الحر، هكذا اعتقدت، بات محصناً بالتأكيد في أعقاب "الكارثة" أمام خطر عودة الكراهية الفتاكة المناوئة لليهود، وأنه (أي العالم الحرّ) مرشح طبيعي لأن يكون حليفاً في هذا الصراع، بصفته الكيان السياسي الوحيد الذي يتمتع سواء بالوسائل والإمكانيات المادية أو بالإرادة لمحاربة الشيطان الأكبر.

لكنني بتّ أكثر إدراكاً ووعياً بمرور السنوات.

خلال هذا العام، وفي أعقاب نشر التقرير الذي أعده المنتدى الحكومي الإسرائيلي لمحاربة اللاسامية، حول وضع اللاسامية في أنحاء العالم، دعوت إلى مكتبي سفيري البلدين اللذين شهدا، حسب التقرير، أخطر الإعتداءات والحوادث المناوئة لليهود، فرنسا وبلجيكا، وهما من الديمقراطيات الأكثر تقدماً في وسط أوروبا الغربية.

مما لا شك فيه أن اللاسامية المنتشرة في الوقت الحالي في غرب أوروبا، تختلف جوهرياً عن اللاسامية التي اصطدمت بها قبل عشرين أو ثلاثين عاماً في الإتحاد السوفياتي. فالأخيرة نشأت ونميّت عن طريق تمييز مؤسسي منهجي ضد اليهود، فرض عملياً من جانب النظام.

في المقابل فإن اللاسامية في أوروبا الغربية تواجه في الغالب شجباً ومعارضة من جانب النظام (وإن ليس بالحزم المطلوب). لكن هذا الفرق يجعل فقط من اللاسامية المزدهرة في الأنظمة الديمقراطية موضوعاً مثيراً أكثر للقلق، كما أنه يحطم كلياً الوهم – الذي لم أكن الوحيد الذي وقعت في شركه – بأن النظام التمثيلي كفيل بمنع مظاهر الكراهية تجاه اليهود.

هناك وهم آخر تبدّد، له صلة أكبر بموضوعنا. فقد اقتنع (ثيودور) هرتسل، الذي ُصدم في أعماقه إزاء اللاسامية التي صادفها في فرنسا في أعقاب قضية درايفوس، بأن السبب الرئيسي وراء كراهية اليهود هو وضعهم اللاطبيعي: شعب بدون كيان سياسي مستقل. في كتابه "دولة اليهود"، الذي صدر بعد سنتين تقريباً من محاكمة درايفوس، تنبأ هرتسل بقيام كيان سياسي يهودي، بل وتوقع أنه في حالة هجرة يهود أوروبا جماعياً إلى هذا الكيان فإن ذلك سيضع حداً للاسامية.

غير أن توقّع هرتسل في هذه النقطة بالذات، التي وضع مشروعه برسمها، لم يقيّض له التحقق. فليس هناك اليوم من يمكنه الإدعاء بشكل جاد أن اللاسامية لفظت أنفاسها عقب قيام دولة إسرائيل. علىالعكس، فخلافاً لقناعة هرتسل، وصهيونيين كثيرين بعده، بأن قيام الدولة اليهودية سيقضي على كراهية اليهود، فإن الملاحظ حالياً هو الإنتشار المتزايد – حتى في صفوف اليهود – للإعتقاد أو الرأي المعاكس، القائل بأن نهاية اللاسامية ستتحقق فقط بعد زوال الدولة اليهودية.

هذه الفكرة سمعتها للمرة الأولى قبل سنوات بعيدة، في الإتحاد السوفياتي، وكان ذلك في فترة حرب "الأيام الستة" (حزيران 67)، وهي فترة عشنا فيها صحوة مفاجئة لهويتنا اليهودية.

أكثرت وسائل الإعلام السوفياتية إبان تلك الفترة من شن حملات مسمومة ضد إسرائيل والصهيونية، رافقتها موجة من المظاهر اللاسامية التي جرت برعاية الحكومة السوفياتية. وقد أدرك الكثيرون من يهود الإتحاد السوفياتي وقتئذٍ بأنهم قابعون في عالم لا يتيح لهم العيش بصورة علنية كيهود، ولا يمكنَّهم في الوقت ذاته من التملص من وصمة عار أصولهم اليهودية.

وكانت إسرائيل بالنسبة لهؤلاء اليهود جُزء من المشكلة وليس جزءًا من الحل، كما كانت في نظري ونظر آخرين.

أحد أقاربي عبَّر عن الشعور الذي ساد بلا شك في أوساط الكثيرين من اليهود في تلك الآونة بقوله: " لو لم تكن دولة إسرائيل قائمة لكان كل شيء على ما يرام".

خلال عشرات السنوات المنصرمة منذ ذلك الوقت، وخصوصاً خلال السنوات الثلاث الأخيرة، أضحى الفهم بأن إسرائيل هي أحد العوامل الرئيسية وراء اللاسامية، موضع قبول من قبل الكثيرين.

فكراهية العالم لليهود، هكذا يُنَبئنا الأصدقاء والأعداء على حد سواء، تتعاظم أكثر فأكثر كلما اشتدت كراهية هذا العالم لإسرائيل.

هذه الأفكار راودت على ما يبدو تفكير السفير البلجيكي عندما أخبرني خلال زيارته بأن اللاسامية في بلاده ستتوقف في اللحظة التي لا يضطر فيها البلجيكيون لرؤية صور جديدة في التلفزيون يظهر فيها يهود إسرائيليون يمارسون القمع ضد الفلسطينيين.

واضح أنه لا يمكن اعتبار إسرائيل عاملاً أو سبباً لظاهرة سبقتها بأكثر من ألفي سنة .. ولكن هل يمكن اعتبارها (أي إسرائيل) سبباً للاسامية المعاصرة؟ لا سيما وأنه لا يمكن إنكار أن دولة إسرائيل تقف في بؤرة كل عاصفة لاسامية في الوقت الحالي، وخصوصاً في الشرق الأوسط كما هو معروف.

من الصعب كبح الدهشة المتولدة لدينا إزاء كثرة المضامين اللاسامية المسمومة التي تروجها وتبثها وسائل الإعلام العربية الرسمية في الآونة الأخيرة. فرجال الدعاية والصحافيون والأكاديميون في العالم العربي يستخدمون بصورة دائمة أساليب ومصطلحات مستعارة من عالم اللاسامية المسيحية الكلاسيكية، فهم ينعتون اليهود بـ "قتلة المسيح" ويتهمونهم بـ "تسميم غير اليهود"، ويلفقون الإفتراءات ضدهم وغير ذلك. وهكذا، وللمفارقة، فإن الكراهية الفظيعة والعتيقة، تنمو وتنبعث من جديد وتكتسب جمهوراً واسعاً من المؤيدين في المكان الذي تعتبر فيه المسيحية بالذات غير "مزدهرة" بشكل خاص.

وبغية التدليل على الأمر سأسوق هنا حدثاً حصل مؤخراً في مصر. ففي مطلع العام 2003 إرتأت الحكومة المصرية، التي تقيم كما هو معروف علاقات سلام رسمية مع إسرائيل، أن تعرض في محطة التلفزيون الرسمي مسلسلاً من أربعين حلقة، يعتمد على كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون"، تلك الوثيقة التاريخية المزيفة التي تدعي كشف مؤامرة يهودية عالمية للسيطرة على العالم. وبغية ضمان نسبة مشاهدين عالية، جرى بث الحلقة الأولى من المسلسل في وقت الذروة في مشاهدة برامج التلفزيون، مباشرة بعد الإفطار في شهر رمضان. وبعد ذلك جرى أيضاً بث المسلسل في محطة التلفزيون الفضائية العربية، ليشاهده عشرات الملايين من المشاهدين العرب في الشرق الأوسط. في نفس الوقت أصبحت إسرائيل هدفاً مُفضلاً لسهام اللاسامية الأوروبية الراهنة، فالتهجمات والتعديات المادية والمعنوية على يهود أوروبا ترتبط دوماً بإسرائيل كذلك فإن موجة اللاسامية الأخيرة، التي بدأت مع إندلاع "هجمة الإرهاب" الفلسطينية في أيلول 2000 بلغت أوجها في أعقاب عملية "السور الواقي" في نهاية آذار 2002، وهو الشهر الذي قتل فيه 102 إسرائيلياً في هجمات فلسطينية.

وعلى الرغم من أن معظم الإعتداءات الجسدية على اليهود في أوروبا ارتكبت على يد مسلمين، إلاّ أن مصدر معظم الحملات الكلامية ضد اليهود هو الصفوة الأوروبية. وعلى سبيل المثال فقد نشرت صحيفة "لي ستامبا" الإيطالية رسمًا كاريكاتوريًا يظهر فيه المسيح كطفل مبطوح أمام دبابة إسرائيلية، متوسلاً: "لا تقل لي إنهم يريدون قتلي مرة أخرى".

كذلك فإن المقارنات المتكررة بين أريئيل شارون وأدولف هتلر، وبين الإسرائيليين والنازيين، لا ترد فقط على لسان مهووسين، وإنما تسمع أيضاً على لسان أكاديميين وكتاب صحافيين سليطي اللسان، من أمثال الحائز على جائزة نوبل للأدب خوزيه ساراماغو الذي صرّح بأن معاملة إسرائيل للفلسطينيين "تذكِّر بما حدث في أوشفيتس".

وتشكل إسرائيل في الحلبة الدولية أيضاً هدفاً مريحاً لشتى أنواع الحملات اللاسامية. فبعد حوالي سنة من إندلاع موجة العنف الفلسطينية الحالية، عقد برعاية الأمم المتحدة "المؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية" في جنوب أفريقيا، والذي سرعان ما تحول إلى "سِيرك" لاسامي لم يدخروا خلاله تهمة إلاّ وألقوها على إسرائيل، ابتداء من العنصرية والأبارتهايد وانتهاء بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والجينوسايد، وقد تحول اليهود أنفسهم في مسرح اللامعقول هذا إلى متهمين ببعث وإثارة نعرة اللاسامية وذلك بجريرة ما وصف بـ "الممارسات الصهيونية ضد السامية".

من هنا وعند البحث عن "مكمن الداء"، فإن من الطبيعي اعتبار إسرائيل المتهم الرئيسي، وهو اتهام عار عن الصحة .. إن الإدعاء بأن الدولة اليهودية هي المسبب للاسامية السائدة في هذا العصر ليس مقنعاً أكثر من القول إن غياب الدولة اليهودية كان السبب وراء اللاسامية قبل مئة عام.

وبغية فهم ذلك، ينبغي الوقوف باديء ذي بدء على ضبابية الخط المضلل بين مناهضة الصهيونية واللاسامية، فقد أصبحت إسرائيل بمثابة "يهودي العالم" وليس أدل على ذلك من أن الصرخة المرعبة التي تنبعث من مساجد الشرق الأوسط هي "الموت لليهود" وليس "الموت للإسرائيليين". ولكن حتى في المحافل الأكثر تنوراً، تهب رياح مشابهة. فقد اعترف أحد كتّاب الأعمدة في صحيفة "الأوبزيرفر" اللندنية بأنه يتجاهل رسائل القراء التي تعبر عن تأييد إسرائيل إذا كان كاتبو هذه الرسائل من اليهود، ولعل حقيقة أن مجلس الشكاوى التابع للصحافة البريطانية لم يجد في تصريح المذكور أي عيب أو قصد مريب إنما تبرهن إلى أي حد تغير واقع الحال منذ أن كتب أورويل عن بريطانيا عام 1945 بأنه "لا تُوجد اليوم للاسامية أية فرصة في أن تعتبر وجهة نظر متزنة".

وتروي مصادر وثيقة الإطلاع أن أجواء حفلات الكوكتيل في أنحاء أوروبا تحفل بالتفوهات والإساءات اللاساميًّة عندما يتناول الحديث الأحداث في الشرق الأوسط. فـ "أنماط الخطاب"، حسبما تسمى أحياناً، تبرهن تماماً على الظاهرة.

كما أن المعايير المزدوجة تمارس تقريباً بصورة دائمة في مواقف الأسرة الدولية تجاه الدولة اليهودية، التي يصدر بحقها سنوياً أكثر من عشرين قرار إدانة في المحافل الدولية.

وإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي التأمت بسبب ممارساتها "غير الملائمة" الجمعية العمومية المشتركة للدول الموقعة على معاهدة جنيف، وإسرائيل وحدها كانت مؤخراً هدفاً لسهام الدعاية الغربية التي دعت لفرض مقاطعة إقتصادية عليها ... ومن بين سائر أجهزة ومنظمات الإغاثة في العالم، كانت منظمة "نجمة داود الحمراء" الوحيدة التي حرمت من عضوية منظمة الصليب الأحمر الدولي ... ومع الأسف الشديد فإن القائمة لا تزال طويلة.

إن الفهم بأن إسرائيل تحولت إلى "يهودي العالم" وأن مناهضة الصهيونية، ليست سوى بديلاً للاسامية القديمة، ليس ثمرة أو نتاج الفترة الأخيرة.

ولكن إذا كانت إسرائيل حقاً ليست سوى "يهودي العالم"، فإنه لا يغدو عندئذٍ ثمة معنى للإدعاء القائل بأن عداء العالم لليهود يزداد نظراً لازدياد عداء هذا العالم لإسرائيل، تماماً مثلما أنه لا يوجد أي معنى للإدعاء بأن العالم يكره اليهود لأنه يكره اليهود. ويبقى السؤال: لماذا ؟ وهل حقاً رفض اليهود القيم التي سادت في العالم القديم، أم أن ذلك كان مجرد إدعاء من نسيج خيال أعدائهم ؟

وحتى إذا كانت الكثير من التهم التي ألصقت باليهود هي مجرد إفتراءات عارية عن الصحة - فهم لم يقتلوا غير اليهود لأغراض طقوس تعبدية، كما إدعى الكاتب اليوناني إفيون - فقد استند جزء منها بالتأكيد إلى وقائع حقيقية. فاليهود رفضوا بالفعل الزواج المختلط (مع غير اليهود)، كما رفضوا تقديم القرابين لآلهة غريبة، وأكدوا على أن قتل طفل وضع للتو هو جريمة.

لقد كان اليهود الشعب الوحيد الذي تجرأ على معارضة منظومة القيم اليونانية ... لم يكن اليهود مجرد "آخر" في العصور القديمة، بل كانوا "الآخر" مع أل التعريف، والذي أصر أيضاً على أن اليهودية ليست مجرد نمط حياة مختلف، وإنما التجسيد الحصري للحقيقة.

إن الإنطباع (الصحيح في جوهره) بأن اليهود كشعب عنيد، صعب المراس، يرفض منظومة القيم التي سادت في العالم القديم، هذا الإنطباع لا يبرر بطبيعة الحال الضغينة الموجهة ضد الشعب اليهودي، لكنه أخرج اللاسامية من حيز الترف وحولها إلى تصادم وصراع حقيقي بين مُثل وقيم متناقضة. وبعد ظهور المسيحية على مسرح التاريخ تعاظم هذا الصراع بما لا يقاس.

فإصرار الشعب اليهودي على عدم قبول "العهد الجديد" (الإنجيل) مكان "العهد القديم" (التوراة) اعتبر تهديداً لشرعية المسيحية في حد ذاتها، وهذا ما استدعى رداً منسقاً ومحسوباً.

من هنا دمغت الكنيسة اليهود بـ "قتلة المسيح" و "أحفاد الشيطان". وبمرور الزمن أضيفت لمسلسل الإفتراءات ضد اليهود اتهامات أخرى مثل تدنيس "خبز القرابين" والقتل لأهداف التعبد وتسميم آبار المياه، وهي اتهامات أذكت مجتمعة نار الكراهية أكثر فأكثر. وبعدما ازداد نفوذ الكنيسة المسيحية في العالم جرى ترويج هذه الإتهامات في سائر أرجاء المعمورة، ما أدى لظهور بوادر اللاسامية في أماكن لم تطأها أقدام اليهود قط.

إضطهاد اليهود المستضعفين برره عدد من المفكرين المسيحيين كإنتقام إلهي بسبب رفضهم لرسالة المسيح. هذا الإدعاء استغل مراراً عبر التاريخ ولا سيما من جانب أولئك الذين حاولوا - عبثاً- إقناع اليهود بالحقيقة السامية للمسيحية.

أحد النماذج الشهيرة على ذلك يتمثل في مارتن لوثر كينغ، الذي عامل اليهود في البداية بودّ بالغ، لكنه ومنذ أن أدرك أنه لن يفلح أبداً في إغرائهم علىاعتناق المسيحية الجديدة التي أسسها، أضحى عدواً لدوداً لهم.

هذا النمط من السلوك لم يقتصر على المسيحية فحسب. (فالنبي) مُحَّمَد أمل أيضاً في إستمالة الطوائف اليهودية في شبه الجزيرة العربية إلى الإسلام، وعليه فقد دمج في الدين الإسلامي مكونات يهودية (بجعل القدس قِبلة لصلاة المسلمين وبصيام "يوم الغفران"). ولكن عندما رفض اليهود قبول رسالته، صبّ عليهم (مُحَّمَد) جام غضبه وشتمهم بكلمات بدت مأخوذة من قاموس آباء ومؤسسي الكنيسة المسيحية الحافل بالكراهية لليهود.

من الممكن فهم ما يدعو هؤلاء لإتهام اليهود بالصلف والعناد. بديهي أن اليهود لم يكونوا أبداً من مصاصي دماء الأطفال، أو مسممي آبار، وأنهم لم يقترفوا أيٍّا من الجرائم والآثام المتخيَّلة الأخرى التي نسبها المسيحيون لهم. علاوة على ذلك فإن اليهود لم يرفضوا بالتأكيد مبادىء العقيدة التي استعارتها الديانتان، المسيحية والإسلامية، من اليهودية، لكن عندما طلب منهم تبني أفكار وأعراف غريبة على روح ديانتهم (اليهودية)، عندئذٍ أظهروا، بلا شك، تمسكاً صارماً بتقاليد آبائهم. هنا نصل إلى نقطة التحول الفاصلة بين كراهية اليهود في العصور القديمة وكراهية اليهود في العصر الحالي. فاللاسامية من النوع الأول، والتي إزدهرت طوال ألفي سنة، تركت لليهود مهرباً من التمييز والإضطهاد المؤسسي. فالعالم اليوناني – الروماني والكنيسة المسيحية والديانة الإسلامية، كل هذه الأطراف استوعبت بسرور كل من إختار الإنضمام إلى صفوفها. ولكن في العصر الحديث تبين في غير مرة أن هذا الإختيار مجرد وهم ليس إلاّ. فاليهود، سواء الذين ذابوا أو لم يذوبوا، المتزمتون والعلمانيون، جميعهم وقعوا ضحية لمذابح وملاحقات وعمليات إبادة. وفي الحقيقة فقد كان هناك من استخلص من العنف الذي استهدف اليهود الذين ذابوا في مجتمعات أوروبا الغربية، بأن الذوبان ليس فقط لم يضع حداً للاسامية، بل وساهم في إيقاظها من جديد.

ما الذي تعنيه هذه الإزدواجية ؟ في العالم قبل العصري لم يكن ثمة خلاف حقيقي بين اليهود والأغيار فيما يتعلق بالعوامل التي انغلقت اليهودية بسببها أمام المعتقدات والتقاليد الغربية، ولذلك فقد كان هناك أيضاً توافق فيما يتعلق بطريقة التحرر من هذه الإزدواجية، حيث انصب الجدل حول المعتقدات والمفاهيم الأخلاقية والممارسة الإجتماعية المنبثقة عنها. لكن الأمر كان مغايراً في العصر الحديث. صحيح أن السؤال بشأن ما إذا كان اليهودي مستعداً لتناول طعام من طعام جاره (غير اليهودي) أو عبادة إله جاره، لا يزال سؤالاً ذا صلة، لكنه فقد من أهميته وأخلى مكانه لمفهوم جديد: فاليهودي العصري لم يعد يُنظر إليه كمعتنق لعقيدة مختلفة وإنما كشخص ولد داخل الأمة اليهودية أو العرق اليهودي، وكإنسان تنغرس هويته الثقافية والأخلاقية في عمق كيانه وصيرورته. ومن هنا فإن الذوبان على اختلاف تلاوينه لا يمكن له أن يفعل أكثر من تمويه هذه الدمغة الأساسية، لكنه لا يستطيع بأي حال طمسها كلياً.

وجهات نظر من هذا النوع لم تكن غريبة حتى على اللاسامية القديمة. غير أن عبء تقديم البرهان الذي يَقَع اليوم على كاهل اليهودي العصري الذي يحاول إقناع الآخرين بقدرته على التسامي فوق "يهوديته" أضحى أثقل بكثير من العبء الذي أُلقي على كواهل آبائه.

فرغم علمنة وانفتاح المجتمع الأوروبي، اللذين خيل أنهما سيسهلان الذوبان، إلاّ أن المصاعب التي يواجهها اليهود العصريون الراغبون في أن يصبحوا فرنسيين أو ألمان "حقيقيين" تفوق بكثير المصاعب والعراقيل التي وضعت على طريق آبائهم الذين أرادوا التحول إلى يونانيين – إغريق – أو رومان، أو مسيحيين أو مسلمين.

جديد اللاسامية المعاصرة لا يكمن إذن في رؤية اليهود كأعداء للإنسانية. فأقوال هتلر التي ساقها في كتابه "كفاحي": "بِت أشاهد اليهود في كل مكان، وكلما شاهدتهم أكثر، كلما بدوا لي مختلفين أكثر فأكثر عن باقي البشر"، هذه الأقوال لا تختلف كثيراً عن الأقوال التي نطق بها فيلوسترتوس قبل 1700 سنة.

إن تجديد اللاسامية المعاصرة يكمن في حقيقة أنه بات من الصعب أكثر على اليهودي المعاصر – بل من المستحيل أحياناً – أن يكف عن كونه عدواً للإنسانية.

وبنظرة عن قرب، يمكن القول إن كراهية اليهود المعاصرة أضحت تبدو أكثر فأكثر استمراراً مباشراً – وإن كان أسوأ – للاسامية في فترة ما قبل العصرية.

وعلى غرار يهود العصر القديم، فقد ظل يهود العصر الحديث، كلما حاولوا الذوبان في البيئة المحيطة بهم، أو الإبتعاد عنها، يمثلون "الآخر" مع أل تعريف كبيرة، شعب صعب المراس لا صلاح له. هذه الإتهامات عارية عن الصحة تماماً. فالوقائع تثبت أن غالبية اليهود لم يفوّتوا فرصة سانحة في العصر الحديث في ان يكونوا مواطنين صالحين، بل وأظهروا قدرة كبيرة على مواءمة أنفسهم مع ثقافة الأغلبية ... إن الإفتراءات التي حيكت حول اليهود في العصر الحديث لهي إفتراءات كاذبة تماماً كتلك التي حيكت ضدهم في العصر القديم. فاليهود لم يسيطروا في أي وقت على البنوك أو على وسائل الإعلام، أو على أنظمة حكم، وبطبيعة الحال لم تكن لديهم، لا في الماضي ولا في الحاضر، أحلام بالسيطرة على العالم.

صحيح أن قسماً من اليهود، تمسكوا بحماس وعناد في أماكن وظروف مختلفة، بمثل ومبادىء وأهداف بدت نبيلة في نظرهم، ووجدوا أنفسهم مراراً في موقف رافض للقيم والمعتقدات السائدة، متسببين بذلك في إثارة "الوحش" اللاسامي، المتربص دوماً، ولعل قصة يهود الإتحاد السوفياتي تعتبر لافتة للنظر في هذا السياق.

وبالعودة إلى عصرنا الحالي، إلى الكراهية الموجهة ضد دولة إسرائيل، نجد أن هذه الدولة – يهودي العالم – تخوض صراعاً ضد نظامين سياسيين وأخلاقيين مختلفين: العالم العربي والإسلامي في الشرق الأوسط، والنظام الأوروبي. الأول يمكن فهمه بسهولة أكبر، لكن التصادم أو الصراع مع أوروبا يمكن أن يكون أشد خطراً.

تخضع القيم المهيمنة التي تصوغ اليوم الشرق الأوسط لسيطرة قوتين: الأصولية الإسلامية وديكتاتورية الدولة.

فالإسلام المتطرف يرى في أي كيان سيادي غير مسلم في المنطقة، رذيلة فحشاء، ولاسيما الدولة اليهودية التي أقيمت في قلب "دار الإسلام"، وهو لا يرى أية إمكانية للتسليم بهذا الكيان المارق وبالتالي فإنه (أي "الإسلام المتطرف" على رأي الكاتب) لن يهدأ أو يستكين إلا باجتثاث هذا الكيان نهائياً.

الأنظمة العربية العلمانية تشعر بالإحباط إزاء وجود إسرائيل بدرجة مماثلة لـ "الإسلام المتطرف"، لكن سبب عدائها إجتماعي أكثر منه ثيولوجي.

وبحسب توجه هذه الأنظمة، فإن المجتمع الحر، المنتج والديمقراطي، الذي بناه اليهود في إسرائيل يشكل إدانة مستمرة للأنظمة الفاسدة والمستبدة المحيطة بها، كما أنها ترى في الدولة اليهودية تجسيداً للحريات التي تهدد الثقافة الإسلامية والنظام العربي الديكتاتوري على حد سواء. ذلك هو السبب الذي تحول اليهود بجريرته، في وسائل الإعلام العربية الرسمية، وفي المساجد، إلى رمز للخطر الذي يتهدد الإسلام من جانب الغرب الديمقراطي، وهو السبب أيضاً وراء السمعة التي اشتهر بها اليهود كقوة ماكرة تدفع الولايات المتحدة نحو المواجهه مع الإسلام.

إن الديناميكية الخاصة للاسامية في الشرق الأوسط يمكن أن تفسر سبب عدم تراجع مستوى التحريض المناهض لليهود في المنطقة بعد انطلاق عملية أوسلو، هذا التحريض الذي اشتد وتصاعد من ناحية عملية (بعد أوسلو)، خلافاً لما حدث في أوروبا.

إن السبب في ذلك بسيط في الواقع: فكلما ازدادت فرص العملية السياسية في تحقيق مصالحة حقيقية مع إسرائيل، كلما تصاعد الخطر في أن تؤدي هذه العملية إلى إحباط "الهدف الأسمى" لدى المسلمين، وهو إقتلاع "الشر" اليهودي من قلب العالم العربي.

خلال التسعينات، وفي الوقت الذي كان فيه العالم المتنور والمجتمع الديمقراطي في إسرائيل يحتفلون بسرور (سابق لأوانه) بالأمل في بزوغ فجر جديد في الشرق الأوسط، كانت كتب التعليم والمدارس في رام الله وغزة والصحف في مصر ومحطات التلفزيون في المملكة السعودية، تعرض صورة أدق بشأن مشاعر العالم العربي.

وبالنسبة لأوروبا، فقد شهدت سمعة إسرائيل صعوداً وهبوطاً على مرّ السنوات. لغاية العام 1967، تمتعت إسرائيل، كدولة صغيرة تصارع من أجل وجودها وبقائها، بدرجة معينة من الحصانة أمام حملات النقد اللاذع في أوساط الشرائح والنخب السياسية الأوروبية. لكن كل ذلك تغير في أعقاب حرب "الأيام الستة"، بعد أن حققت إسرائيل إنتصاراً كاسحاً على أعدائها العرب، فتحولت الضحية بين ليلة وضحاها إلى دولة عدوانية.

لعله يجب التشكيك في صدقية القصة التالية حول المفكر (الفرنسي) جان بول سارتر، غير أنها تصوّر على أحسن وجه التغيير الذي طرأ على نظرة أوروبا لإسرائيل: قبل الحرب، وعندما كانت إسرائيل لا تزال تقبع في عزلة دبلوماسية، وقّع الفيلسوف الفرنسي المعروف (سارتر) على بيان تأييد للدولة اليهودية ...، بعد الحرب تراجع سارتر ووبخ الشخص الذي اقنعه بالتوقيع على البيان قائلاً له: "ولكنك تعهدت لي بأنهم – أي الإسرائيليون – سيخسرون الحرب".

قبل سنوات عديدة من رواج إصطلاح "إحتلال" على كل لسان، أضحت الأجواء لدى اليسار الأوروبي معادية تماماً وبشكل واضح لإسرائيل. ومن الواضح أن ذلك راجع إلى عوامل عديدة من ضمنها مصالح سياسية واقتصادية. بيد أن هذا التحول عكس أيضاً اتجاهات أيديولوجية مناهضة للغرب وللإمبريالية ومؤيدة لحركات التحرر. هذا العداء الجديد لإسرائيل تقف وراءه الأرثوذكسية الفكرية الجديدة التي رأت في إسرائيل قوة كولونيالية إمبريالية، مهيمنة وقمعية.

في التسعينات أخذ الوضع يتغير، حيث حدثت عدة تطورات هامة، مثل إلغاء القرار الذي يصف الصهيونية بـ "العنصرية". وخلال فترة قصيرة كانت أكثر من 65 دولة قد استأنفت أو أقامت للمرة الأولى علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.

فما الذي تغير ؟ هل جفت منابع النفط العربي ؟ هل ضعف فجأة نفوذ المسلمين السياسي في أوروبا؟ الجواب كلا بطبيعة الحال.

الذي تغير هو أن إسرائيل وافقت في مؤتمر مدريد أولاً، ثم في أوسلو، على توجيه خطاها وتحركاتها انسجاماً مع النموذج السائد في السياسة الدولية ... حيث مدت إسرائيل يدها إلى منظمة إرهابية – على الرغم من أن الأخيرة ظلت ملتزمة بتدمير إسرائيل – ووافقت على إقامة نظام ديكتاتوري قمعي في المناطق (الضفة الغربية وقطاع غزة)، وظلت ملتزمة بالعملية السلمية دون أية مراعاة لعدد اليهود الأبرياء الذين قتلوا وجرحوا بإسم "السلام". وبطبيعة الحال، لم تتأخر "العوائد والأرباح"، على الرغم من أنها كانت شكلية ومؤقتة ليس إلاّ. فنتيجة لمماشاة الخط السياسي الرسمي مع أنماط التفكير للمدافعين عن العدل والأخلاق في العالم جاءت المكاسب والفوائد لتعود ليس على إسرائيل وحسب، بل وعلى العالم اليهودي برمته أيضاً، إذ هبطت مؤشرات اللاسامية العالمية خلال التسعينات إلى أدنى درجة لها منذ الكارثة (المحرقة النازية). ولكن الأمر لم يعَّمِر لوقت طويل، ففي صيف العام 2000 اقترح رئيس وزراء إسرائيل إيهود باراك على الفلسطينيين في كامب ديفيد كل ما اعتقد أن زعامتهم تطالب به.

لكن إقتراحه قوبل بالرفض، وأطلق عرفات انتفاضته الدامية. لقد بات على إسرائيل الآن أن تدافع عن نفسها في وقت كفت فيه أوروبا عن التصفيق لها. وفي حينه بدا الأمر في نظر الكثير من اليهود غير مفهوم على الإطلاق: ألم تقم إسرائيل بكل خطوة ممكنة من أجل السلام؟!

ولكن أوروبا ظلت مخلصة لذاتها. وعندما رفضت إسرائيل تحمل مسؤولية "دائرة العنف" عادت لتجعل من نفسها الشرير المدان الذي ينبغي إيقافه عند حده. هذه الضغينة ذاتها وجهت أيضاً ضد يهود العالم الذين جرى ربطهم بالدولة اليهودية المتغطرسة، بصورة أوتوماتيكية، سواء أيدوا سياستها أم لم يؤيدوا.

(ترجمة "مدار")

* نتان شرانسكي – وزير "شؤون القدس والشتات اليهودي" في حكومة أريئيل شارون. والمقال أعلاه ظهر في العدد الأخير من مجلة اليمين الاسرائيلي الجديد "تخيلت" الصادرة عن مركز "شاليم" في القدس، العدد 14، صيف 2004.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات