المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

(مقال نقدي لكتاب "أيهود براك وحربه ضد العفاريت. ماذا حل به؟ ماذا حلّ بنا جميعًا؟". تأليف: ران ادليست، إصدار "كنيرت"، "زمورا بيتان" و"يديعوت أحرونوت"، 504 صفحات)كان هذا الكتاب متوقعًا كطلوع القمر بعد غيابه في اليوم السابق. فأيهود براك شعر بالحاجة الملحة، أكثر من أي شخص آخر شارك في العملية السياسية الاسرائيلية - العربية، لأن يوضح للجميع أسباب إنهيار هذه العملية، في فترة ولايته القصيرة كرئيس للحكومة، ومعها إنهيار ما سُمي بـ "معسكر السلام الاسرائيلي". وأحسّ براك جيدًا – وبحق - بأنه خرج من هذه القصة على أنه النذل الأكبر. اليمين يتهمه بأنه "أعطى أكثر من اللازم"، وبذلك خلق سابقة مستديمة حول تقسيم البلاد والقدس، بينما لا يكتفي اليسار (أو ما تبقى منه) باتهامه بأنه فوّت فرصةً تاريخيةً للتوصل لحل إقليمي، بل يتهمه أيضًا بتراجع عملية المصالحة لأجيال عديدة، وبمسؤوليته عن الدماء الكثيرة التي أريقت – والتي ستُراق - نتيجةً لذلك. ولو كانت هذه هي الطريقة لرواية قصة هذا الشخص – وبشكل كبير، هذه قصة ران ادليست - فإننا أمام ما يشبه بطل تراجيديا يونانية، نحن مشاهدوها ونحن المشاركون فيها ونحن ضحاياها. ويبدو لي أن ورود المصطلح deus ex machina عدة مرات في الكتاب، لم يكن من قبيل الصدفة.

هذا الكتاب كثير الصفحات، المثير أحيانًا والممل أحيانًا أخرى، يروي تأريخ أيام ولاية براك القصيرة، عن طريق تسجيل شبه يومي، وكأن المؤلف تتبع بحرص زائد أجندة لقاءات، ومحادثات ورحلات رئيس الحكومة اللانهائية. كما أن المجلد يحوي مونولوجات الشخص براك وتنظيراته الفلسفية والتاريخية - الجغرافية، غير العميقة، إلى درجة أنه يصعب أحيانًا التفرقة بينه وبين ادلست، مع أنه من الواضح أن براك قرأ وصادق على كل حرف وكل فاصلة قبل أن يرى الكتاب النور، بما في ذلك المقاطع اللاذعة التي لا تتصف بالإيجاب.

ويبدو أن براك وادلست إختارا إستراتيجية كتابة متذاكية. ومن أجل توفير المصداقية للبلاغات المركزية - أي نية براك الصادقة في تحقيق ترتيب إقليمي يضع حدًا للنزاع اليهودي العربي، من خلال تنازلات سخية من جهة واحدة، ومن خلال الحفاظ على المصالح الأمنية الاسرائيلية من جهة ثانية - تقرر عرض الجوانب الاشكالية أيضًا في شخصية براك وفي أدائه، المعروفة سلفًا عند الجمهور، مثل انسداده العاطفي في العلاقات الانسانية، وتوجهه المبني على القوة والبنيوية الهرمية التي استوردها مباشرة من الجيش، وصعوباته في العمل في طاقم من المتساوين والتساعد بمستشارين حقيقيين، وشكوكه المزمنة.

ولكن على الرغم من كل نقاط ضعفه، فإن عظمته وقدراته في مجالات لا تُحصى، تعوض عن ذلك: ذكاء مذهل، إستقامة شخصية، القدرة على قراءة الخرائط السياسية والعسكرية، رؤية واسعة الآفاق وكونية، بطولة شخصية وقدرة على الامتصاص ("الجندي صاحب أكبر عدد من الأوسمة في الجيش الاسرائيلي")، تفضيل المصلحة القومية على أية مصلحة شخصية وحزبية، فهم وقدرة ميكانيكية والتدقيق في التفاصيل الأكثر دقة (يفكك، يصلح ويركب الساعات) وقدرة موسيقية، وقدرة على تمييز الملامح الدقيقة (يعزف على البيانو)، وقدرة على إتخاذ القرارات الحاسمة بعد أيلاء الاعتبارات للأضرار والفوائد الدقيقة. باختصار- قائد قومي وعالمي متميز، لم يسبقه في صفاته في إسرائيل إلا بن غوريون. الوحيد الذي يقترب منه في العالم – ولكن لبراك عليه أيضًا مآخذ (لماذا لم يفرض على الجانبين إملاءً أمريكيًا مثل كارتر - هو بل كلينتون.

وفورًا، في بداية الكتاب يقرر ادلست (بصورة إسترجاعية): لإنسان مع كل هذه المميزات لا أمل أبدًا. أي، براك فشل بسبب مميزاته العليا وليس بسبب نواقصه، والشعب في إسرائيل لم يكن ناضجًا بما فيه الكفاية لقبول قائد كبير مثله. كما أن الكتاب مزروع بتفاصيل ببليوغرافية (التشديد بشكل خاص على طفولة مهانة بين أطفال الكيبوتس، التي أجبرته على أن يكون الطفل الأنجح بينهم)، لكنه لا يرتقي إلى مستوى ببليوغرافيا مكتملة، على الرغم من الادعائية لذلك.

وأثار فوز براك في الانتخابات الشخصية (مقابل نتنياهو) حقًا آمالاً كبيرةً عند قسم من الاسرائيليين، ومخاوف كبيرة عند قسم آخر. هذه المخاوف سادت بشكل خاص بين الأوساط الإستيطانية، بين المتدينين والحريديم - وذلك في ضوء المحورين المركزيين اللذين كانا في صلب وعوده للناخبين: المحور الأول كان وعده بالاستمرار في "ميراث رابين" وإنهاء العملية السياسية مع الفلسطينيين، وربما مع سائر الدول العربية، والمحور الثاني كان وعده بتحقيق ثورة إجتماعية، بمعنى "الفصل بين الدين والسياسة" وتجنيد غالبية طلاب "اليشيفوت". كما أن إنتخابه كان بشرى مدوية أيضًا، بين أوساط العرب في إسرائيل (أكثر من 90% منهم صوتوا له)، وبين الفلسطينيين، وقيادات الدول العربية (خاصةً مبارك وعبدالله)، وباقي دول العالم المسمى بالغرب.

ولكن لبراك كانت أجندة خاصة به. صحيح أنه كان يواجه مشكلة "التعادل" البرلماني بين الجسمين، ولكن هناك شك كبير في أن تكون هذه المشكلة هي السبب في تشكيله لحكومة حوت "ميرتس" إلى جانب "المفدال"، "يسرائيل بعلياه" و"شاس". "أنا أقرب أكثر إلى يتسحاق ليفي من يوسي سريد"، أعلن، ويبدو أن ذلك لم يكن صدفةً. فقد كان يفضل أن يشكّل حكومة مع "الليكود" برئاسة شارون، الذي يقدره جدًا منذ خدمتيهما معًا في مهام أمنية مختلفة. وهكذا، ومنذ بداية طريقه، ابتعد براك بعدة مناهج أساسية عن حكم رابين. أولا، صحيح أنه اعترف بضائقة المواطنين العرب وأعلن أنه سيعمل من أجل المساواة التامة، ولكن ذلك سيتم بعد التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين. وأكثر من ذلك: انه لم يكن معنيًا بدعم العرب، وكان من المهم بالنسبة له أن تحظى خطواته بـ ‘أغلبية يهودية‘". وهكذا، عاد براك إلى السياسة العنصرية التي ميّزت كل حكومات إسرائيل، ما عدا حكومة رابين. وخلال كل فترة ولايته امتنع براك عن القيام ولو بلفتة صغيرة باتجاه السكان العرب.

ومع إندلاع "أحداث أكتوبر" أعطى الدعم لشلومو بن عامي ولأليك رون (وكتحصيل حاصل، لنفسه أيضًا)، بشأن قرارهم إستخدام الذخيرة الحية وقتل مواطنين عرب. والكتاب يخصص لكل هذه القضية المركزية عدة أسطر إعتراضية فقط، وهذه الأسطر كُتبت في سياق "نقل الانتفاضة إلى داخل الخط الأخضر". من هنا أيضًا الاستنتاج المفترض والمفروغ منه، وكأن الشرطة كانت ملزمة بالتصرف بما يشابه تصرفات الجيش في المناطق المحتلة.

وهكذا يتجاوز براك وادلست بأناقة مواضيع إشكالية أخرى على طول الكتاب. مثلا، قضية "تسئيليم ب" مذكورة في السياق المفهومي عند براك، بأنه لا يستطيع مساعدة المصابين. مقابل ذلك، تحظى العملية غير المسؤولة ولكن "الناجحة" لقتل عدة شخصيات من "م.ت.ف" في بيروت، بصفحات كثيرة وبوصف دقيق. كما أن يوني نتنياهو يسرق من براك مجد قيادته لحملة "عنتيبه"، على الرغم من أنه لم يشارك في التخطيط لها.

ويشكل براك حكومته بحسب نهج "الزوبور" العسكري (كنية لمسيرة الاذلال والمهانة غير الرسمية التي يتعرض لها الجنود الجدد في الجيش الاسرائيلي "لقبولهم" لصفوف الجنود الجيدين- المترجم)، ويبدو أن كل واحد من وزرائه، باستثناء شوحط وسريد، حصل على الحقيبة التي لم يرغب بها والتي لا يلائمه. لكن سريد حظي بنائبه مشولام نهاري، الذي كان من المفوض أن يدير التعليم التوراتي، والذي رفض سريد أن يمنحه الصلاحيات وأن يمرر لـ "شاس" ميزانيات لا تلائم المعايير الخاصة بالادارة السليمة. وقبل ذلك، اشترط براك ضم "شاس" إلى الحكومة بطرد أرييه درعي، الذي كان يخضع وقتها للمحاكمة، وتنصيب أيلي يشاي بدلا منه. وعندها كان يشاي المهدد من قبل مقربي درعي بحاجة إلى الكثير من الانجازات (الميزانيات لشبكة التعليم التابعة لـ "شاس"، خصوصًا)، بينما كان سريد يشعر بالتهديد من حزب لبيد الجديد ("شينوي"). في ضمن هذه المعطيات اندلعت أزمة المولدات الكهربائية الشهيرة.

وهكذا يتضح أن براك أفنى الكثير من وقته – وادليست، قسمًا هامًا من كتابه - على حروب "شاس" ضد "ميرتس" وبالعكس، وعلى علاج الأزمات الائتلافية المزمنة. كما أن غالبية الوزراء لم يكونوا "مطيعين" و"مخلصين"، ولذلك فضّل براك العمل مع الموظفين الحكوميين، حيث سادت بينهم الهرمية التي إعتاد عليها (في الجيش). براك لا يفهم كيف باستطاعة السياسيين أن يصروا على صغائر الأمور، مثل الكرامة والمكانة الشخصية أو الميزانيات، فيما تلح مواضيع الأمة المصيرية، خاصةً وأنه لا يهتم بإشراكهم في هذه العمليات.

ولكن الفارق الجوهري الأكبر بين نهج رابين وبين نهج براك هو قرار الأخير بعدم الاستمرار في تنفيذ الاتفاقات المرحلية مع الفلسطينيين، بل التطرق رأسًا إلى المفاوضات على الحل الدائم للنزاع، لتتحول حين يحين الوقت إلى مطلب باتفاق إطار للحل الدائم. وسويةً مع ذلك، يقرر براك منح أفضلية لتحقيق إتفاق سلام وتطبيع مع سوريا. النتيجة كانت إستمرار الجمود في تطبيق إتفاقات أوسلو- واي (عدا فتح شارع الشهداء في الخليل، وهذا تم أصلا بعد تأخيرات كثيرة). القيادة الفلسطينية توسلت لمنحها إنجازات مقابل الضغوط المفعلة عليها من الأسفل، وخصوصًا إطلاق سراح الأسرى، أكثر المواضيع أيلامًا في الشارع الفلسطيني. من جهة، عليهم أن يتصرفوا كما فعل بن غوريون في قضية "ألطلينا"، ومن جهة ثانية ليس بمقدورهم أن يحققوا لشعبهم إنجازات تُذكر. "الشاباك" ينذر بضعف الرقابة على السلطة وبازدياد قوة "حماس" و"الجهاد"، لكن براك يصرّ على أنه لا يجب إطلاق سراح الأسرى "مع دم على أيديهم" أو "التنازل" عن مناطق، قبل تحقيق الحل النهائي.

قبل إنتخابه قال براك مرةً إنه يتفهم الفلسطينيين، ولو كان شابًا فلسطينيًأ لكان إنضمّ إلى تنظيم "إرهابي". وبالطبع، أثيرت فورًا جلبة كبيرة واضطر براك لأن يوضح أنه لم يُفهم بالشكل الصحيح، وأن أقواله أخرجت من سياقها وهكذا. بعد قراءة كتاب ادليست بتّ أصدقه. براك لا يملك ولم يملك أي تعاطف مع غريميه، وهذا كان بلا شك واحدًا من أسباب فشله في المفاوضات مع الأسد وعرفات ومع السياسيين في إسرائيل من حزبه ومن الأحزاب الغريمة. (بالمناسبة، طيلة الوقت الذي قرأت في الحديث عن "الدم على اليدين" لم أستطع الامتناع عن التفكير في كمية الدم العربي التي على يدي هذا الانسان وعلى غالبية أيدي المحيطين به في مكتبه، غالبيتهم من "فرقة القيادة العامة").

الخطوة المهمة الأولى التي قام بها براك هي محاولة الوصول إلى إتفاق سلام وتطبيع في العلاقات مع سوريا، وقد حاول الاستمرار، على الرغم من إنكاراته، من النقطة التي توقف عندها رابين، ونتنياهو فيما بعده. الاعتبارات مضاعفة: يبدو حل النزاع مع سوريا سهلا وأقل رمزيةً وإثارة للمشاعر، نسبةً للنزاع مع الفلسطينيين، والسبب الثاني والأقل صراحةً هو محاولة عزل الفلسطينيين، لكي يوافقوا على التوقيع على نهاية النزاع بشروط براك. بالاضافة إلى ذلك، هناك أهمية في نظر براك للأيفاء بوعده بالانسحاب (باتفاق مع سوريا) من "الحزام الأمني" في جنوب لبنان. ولذلك تغاضى عن الحساسيات وأدار محادثات مع وزير الخارجية السوري، فاروق الشرع، تحت رعاية بيل كلينتون في بلدة "شيبردس تاون". وطلب السوريون الإنسحاب إلى حدود الرابع من حزيران ووافق براك على الانسحاب إلى الحدود الدولية، كما رُسمت في إتفاقات "سايكس- بيكو" وبحسب الخارطة المرسومة في العام 1923. الفرق بين الخارطة السورية وتلك الاسرائيلية هو عدة عشرات من الأمتار حول بحيرة طبريه.

السوريون طلبوا الوصول إلى شاطئ البحيرة وبراك عارض ذلك. في تتمة المحادثات بدا أنه من الممكن التوصل إلى تفاهم مع سوريا بشأن سائر النقاط المختلف عليها: إعادة كل الهضبة للسيادة السورية وتفكيك كل المستوطنات مقابل إتفاق سلام (بارد جدًا) وتأسيس علاقات دبلوماسية، وإخلاء وتخفيف القوات العسكرية في الهضبة (مقابل نزع عدة عشرات من الكيلومترات في شمال إسرائيل من السلاح) وإبقاء المراقبة على القسم الأكبر من مصادر نهر الأردن تحت السيطرة الاسرائيلية. وقد تفجرت المحادثات في شبردس تاون، بالأساس، نتيجة الجدال حول الأمتار المعدودة على شاطئ البحيرة، التي كانت أصلا ستكون منزوعة السلاح. لكن المفاوضات مع سوريا استمرت بعد ذلك أيضًا، إلى حين وفاة الأسد الأب.

من المثير للاهتمام قراءة تقدير السفير الأمريكي، مارتين أينديك، عن هذه المحادثات: "في كانون الأول 1999، عندما كان الأسد مستعدًا للتوصل إلى إتفاق، كان ذلك براك الذي ارتدع. السبب كان سياسيًا وداخليًا. كما أن ظاهرة "المضحوك عليهم"، التي تميز الاسرائيليين جيدًا، كان لها الدور في ذلك. في نيسان 2000، عندما كان براك مستعدًا لذلك، لم يكن الأسد يملك الوقت. فقد كان منشغلاً في مهمة نقل الورثة إلى إبنه". بعد فشل المحادثات مع سوريا يقرر براك، على الرغم من معارضة قائد الأركان البارزة، أن ينسحب من دون أي إتفاق من لبنان- وهو إنجازه الوحيد في كل فترة ولايته.

وعندها، بعد زمن طويل، وعلى مشارف نهاية ولاية كلينتون، ونهاية ولايته هو أيضًا، كما اتضح فيما بعد، تفرغ براك لمحادثات حقيقية مع الفلسطينيين. لكن براعم عدم الثقة المتبادل بين عرفات وبراك كانت قد بُذرت عندها. ومع أن لقاءات لا نهائية على كل المستويات، سبقت المفاوضات المركزية في كامب ديفيد، إلا هذه اللقاءات كانت في الغالب لقاءات عقيمة. عرفات عارض مسبقًا توجه براك، الذي طالب بتجميد "النبضة" الثالثة وسائر الالتزامات الموقع عليها مع إسرائيل، والانتقال إلى محادثات حول شروط الحل الدائم. ولكن، بما أن الأوراق كانت بيد إسرائيل، فإنه لم يكن لعرفات خيار سوى الموافقة على الانجرار إلى كامب ديفيد.

كانت خطة الحل الاسرائيلية، كما عُرضت على كلنتون، مفصلة جدًا: على المستوى الجغرافي عُرض على الفلسطينيين 10- 20- 70. أي، 70% من المساحة الشاملة للضفة والقطاع تخضع لسيادة الدولة الفلسطينية، 20% تُضم إلى إٍسرائيل وبضمنها مناطق موزعة على سبع تكتلات إستيطانية (تشمل حوالي 80% من المستوطنين) و 10% (القصد عن غور الأردن) تخضع لإسرائيل في إتفاق أيجار طويل الأمد (لأسباب أمنية). بعد ذلك، كُتب أن وضع غور الأردن تحت السيادة الاسرائيلية، هو مهم للأردن بوجه خاص، الذي يخشى من تطلع فلسطيني للإلحاق وتوحيد الضفتين. سيتم الاعتراف بحق العودة إلى داخل الدولة الفلسطينية فقط، وصحيح أن إسرائيل ستساعد في إعادة توطين اللاجئين، إلا أنها لن تعترف بأية مسؤولية أخلاقية وقضائية عن نشوء المشكلة. وسيُبنى جسر على أعمدة يصل بين الضفة وغزة.

لا شك في الاقتراح الأكثر إبداعًا كان في مسألة القدس: توسيع المساحة البلدية للمدينة (من خلال ضم أبو ديس، العيزرية وعدة قرى أخرى، على ما يبدو)، لكي يكون هناك ما يمكن تقسيمه. والمقصد من وراء ذلك كان إبقاء غالبية المساحة الحالية للمدينة تحت السيادة الاسرائيلية، بينما تُباع المساحة الاضافية للفلسطينيين على انها "القدس"، من خلال شق شارع ملتف على شرقي المدينة للراغبين في الصلاة في الحرم الشريف. بلغة الثلاثي الاسرائيلي الساخر، يسمون هذا "يسرابلوف" (خزعبلات إسرائيلية).

يجب التذكر أن كل هذا أقترح في أعقاب إعتراف الفلسطينيين في إتفاقات أوسلو، بقيام دولة إسرائيل على 78% من فلسطين التاريخية، وأملوا في أعقاب إتفاقات السلام مع مصر والأردن والتفسير العربي لقراري مجلس الأمن 242 و338 (الانسحاب من كامل المناطق التي أحتلت في العام 1967)، أن يستعيدوا الـ 22% كاملةً، مع بعض التصحيحات الحدودية الصغيرة. بعد ذلك طرأ تراجع معين على الشروط الاسرائيلية، لكن الحديث بقي عن حوالي 12% من مساحة الضفة، من خلال خلق ثلاث كتل إستيطانية، تقسّم الدولة الفلسطينية إلى ثلاثة كانتونات، يكون الربط بينها أمرًا إشكاليًا جدًا. وسمّى الفلسطينيون بعض الأقسام التي أعطيت لهم بـ "بنتوستنات"، ولكن في الواقع، كانت مناطق الـ " بنتوستنات" الأصلية أكبر بكثير من "الجزر" التي حواها عرض براك الكريم.

قبل مؤتمر "كامب ديفيد" اتفق براك مع كلينتون على التنسيق المسبق بالنسبة لكل الخطوات والاقتراحات، بين إسرائيل والولايات المتحدة، وفي حالة فشل المؤتمر، لن يُلقى بالذنب على إسرائيل. وقد احترم كلينتون هذا الاتفاق (ما عدا مساره بالنسبة لاستمرار المحادثات الذي نشره بعد المؤتمر)، كما فعل غالبية المسؤول عنهم، ما عدا روبرت مالي، الذي نشر فيما بعد تلخيصًا له للقمة، حيث وزع المسؤولية عن فشلها على الأطراف الثلاثة. فما العجب إذًا أن عرفات، الواعي للموقف الأمريكي - الاسرائيلي المنسّق، جُرّ إلى القمة رغمًا عنه، وأنه قرر على ما يبدو أن يتبع مسبقًا إستراتيجية رفض أوتوماتيكية لكل عرض؟ هذا القرار الخاطئ جدًا من جهته.

وقد كانت اللحظات التي حصل فيها عرفات على تصديق لمخاوفه، عندما تهجم عليه كلنتون، عصبي المزاج، ومسّ بكرامته إلى أبعد الحدود. الموقف الثاني كان عندما انجرّت البعثات الثلاث إلى نقاش ديني حول مسألة ما إذا كانت بقايا "بيت الهيكل" مدفونة حقًا تحت الحرم الشريف. عرفات ادعى بفظاظة مثيرة للأعصاب، من ناحية الطرف الاسرائيلي، أن لا شيء موجود تحت الأقصى، ولكن من فقد السيطرة على نفسه كان كلينتون بالذات، المسيحي البروتستانتي، الذي ردّ بوعظ يليق بالكهنة عن هيكل سليمان المقدس المذكور في التوراة. وتدخل واحد من مساعدي الرئيس اليهود لكي ينقذه من الموقف المحرج، وأورد ملاحظة أن هذا رأي الرئيس الشخصي ولا يعكس موقف أمريكا الرسمي. وادعى شلومو بن عامي في أحاديثه عن قمة كامب ديفيد، أن هذه القصة تثبت الدرجة التي كان عرفات مسبيًا بها بخرافاته الشخصية. ولكن هذا الموقف الغريب يعكس إلى أية درجة كان كل طرف منغمسًا في الخرافات والميتافيزيقا. وهذا على ما يبدو السبب المركزي الذي أدى في النهاية إلى تحطم المحادثات حول مكانة الحرم الشريف، أو سؤال لمن ستكون السيادة على المنطقة المقدسة، على الرغم من أن الفلسطينيين كانوا وافقوا في هذه المرحلة على تقسيم المدينة وعلى سيادة إسرائيل على الحائط الغربي (حائط المبكى)، مقابل السيادة الفلسطينية على باقي مناطق الحرم والأحياء العربية.

وحقًا، وافق براك عدة مرات خلال المحادثات على تليين المقترحات الاسرائيلية في كل المجالات، وحتى أنه كان قريبًا من التنازل عن أكثر من 92% من المناطق. لكن كل عرض في كل مجال جاء منفردًا، من خلال التشديد على أنه لم يُتفق على شيء، ما لم يُتفق على كل شيء. وهكذا عُرضت على الفلسطينيين عروضات كريمة جدًا في عدة مجالات، كل عرض على حدة، إنطلاقًا من الإيمان بأن كل عرض سيُرفض، فيما لم يقدم الفلسطينيون من جانبهم أي عرض. وبعد ذلك كان بإمكان براك أن يجمع كل العروض المنفردة سويةً وأن يدعي أنه عرض على الفلسطينيين عروضًا كريمة غير مسبوقة.

وعندما فشلت المحادثات، كان كلينتون خارج دائرة التأثير تقريبًا، وفقد براك ما تبقى من حكومته. في تلك اللحظة من اليأس خرج بإعلانه الخاطئ بأنه "لا شريك" في الجانب الفلسطيني، كما أن كلينتون، إنطلاقًا من مصلحة شخصية صافية، حافظ على وعده ودعم هذا الاستخلاص. في الجيش يسمون هذا "تغطية مؤخرة". كما كانت هناك "لا محادثات" في طابا وفي أماكن أخرى، لكن من ناحية براك وعرفات فإن النهاية كانت في كامب ديفيد. من هنا وحتى العنف المسلح كانت الطريق قصيرة.

ومع ذلك، من الجدير ذكر أن الفلسطينيين في طابا عرضوا تبديل مناطق بنسبة 3.1%، ما كان من الممكن أن يسمح لإسرائيل بضم غالبية الكتل الاستيطانية، ولكن من دون إحتياط الأراضي الذي رغب به الاسرائيليون، ومع سيطرة الفلسطينيين على المداخل والطرق التي بين هذه الكتل. ولكن إسرائيل لم تفحص هذا الخيار بجدية.

بعد سبع سنوات من المحادثات غير المجدية، التي لم تدفع المسألة الفلسطينية بشيء يُذكر، لم يكن السؤال "إذا" بل متى سيندلع الغضب والعنف، وبأي شكل. الفلسطينيون كانوا واعين بما يكفي لغياب التناسبية في ميزان القوى مع إسرائيل، لكنهم غيروا برنامجهم. من محاولة الانتهاء من الاحتلال والحصول على الاستقلال بفضل من اليهود، إنتقلوا إلى حرب إستقلال، تكون فيها الشعوب مستعدة لدفع أثمان شخصية وجمعيّة عالية لتحقيق هذا الهدف السامي في نظرها.

من هذه الناحية، فإن زيارة شارون الاستفزازية للحرم الشريف كانت عود الثقاب فقط الذي أشعل الحريق في مخزون الوقود الضخم الذي بناه بحرص شمعون بيرس، ونتنياهو وبراك، كلٌ بدوره وبطريقته. يجب الذكر أنه كان لا زال بإمكان براك أن يهتم بأن يقلب الصورة، لكنه لم يقم بذلك، أو أنه قام بما لا يجب القيام به. لا يجب التصديق أنه لم يرغب في النجاح، أو أنه بيّت نوايا عكسية - لقد كان ببساطة الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب وفي الوقت غير المناسب. ودفاعًا عنه، يمكن القول إنه عمل في ظروف تكاد تكون مستحيلة، من الناحية السياسية، كما أنه أبدى في أحيانٍ شجاعةً باديةً، عندما وقف مثلا أمام رجال الجولان قبل المحادثات مع سوريا وأعلن أمامهم أن عليهم الاستعداد لإخلائهم.

هذا الكتاب هو وثيقة مهمة من عدة نواحٍ، كما أن قراءته ودراسته هامتان أيضًا. أولا، يمكن فهم ما أدى إلى تفجّر عملية المصالحة بين اليهود والعرب، إلى إندلاع المواجهة المسلحة، وإلى إرتفاع شأن اليمين (قسم منه تحت تعريف "المركز") إلى درجة الحكم المطلق والتحطم (الوقتي؟) لمعسكر السلام. كما أن الكتاب يحوي مقاطعَ هامةً أخرى، مثل كيفية كتابة التقديرات الاستخباراتية (المخابرات العسكرية، "الموساد" و"الشاباك") بحسب أهواء وميول أعضاء هذه التنظيمات السياسية، وكيف يتعامل رئيس الحكومة مع مثل هذه التقديرات، وكيف يملي الجيش في الميدان السياسة الفعلية لإسرائيل. وكل هذا كنتاج لخيال مؤرخ جديد - قديم، ولكن من خلال ما يقوله براك، الذي يؤمن أن من واجب قياديي الجيش أن يعبّروا عن آرائهم في الشؤون الأمنية، وأن يطبقوا في ذات الوقت، من دون إستئناف، رغبات المستوى السياسي.

الكتاب ينتهي بوعد براك بأن يعود إلى إستلام دفة القيادة عندما تنضج الظروف لذلك. وقد أعذر من أنذر.

(ملحق "كُتُب"، هآرتس 2/4، ترجمة: "مدار")

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات