المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
الوقائع اليمينية على الأرض الفلسطينية: جندي يحرس بؤرة استيطانية (في الخلفية)، بينما يمنع الفلسطينيين قطف الزيتون، في قرية كوبر، برام الله. (أ.ف.ب)
  • كلمة في البداية
  • 16
  • أنطوان شلحت

مع تواتر الحديث عن الانتخابات الإسرائيلية العامة المقبلة وما يمكن أن تؤول إليه من نتائج تؤثر في المشهد السياسي العام، نرى من الواجب أن نشير إلى مسألتين تكمن فيهما دلائل قوية على أن اليمين في إسرائيل حاز على موطئ قدم ثابت، بحيث أنه من غير المبالغة القول إنه من المرجّح أن يستمر في احتلال موقع قوي خلال الأعوام القليلة المقبلة.

المسألة الأولى، سبق لنا تأكيد أن أحد أبرز الاستنتاجات من نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة في العام 2022، تمثّل في أن انزياح إسرائيل، نظاماً ومجتمعاً، نحو اليمين، وبالأساس من الناحية السياسية، بلغ على ما يبدو نقطة اللاعودة. وكان هناك إجماع حول هذا الاستنتاج لأسباب كثيرة. أما الجدل المباشر الذي تفجّر بعد تلك الانتخابات فدار جوهره بالأساس حول ما إذا كانت إسرائيل، اليمينية قبل الانتخابات أيضاً، ستشهد تحوّلاً نحو ما هو أسوأ، وهذا في حال نجاح زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو في الفوز مع حلفائه بأغلبية تتيح له إمكان تأليف حكومة جديدة، بما في ذلك مع تيار "الصهيونية الدينية" ذي الملامح الفاشية الذي دلت الانتخابات على تحوّله إلى قوة برلمانية ثالثة، أو أنها ستبقى تحت سلطة اليمين الذي يوصف بأنه ناعم، كما عبّرت عنه حكومة الأحزاب المناهضة لنتنياهو، على غرار الحكومة السابقة المنتهية ولايتها (حكومة بينيت- لبيد). وهذا هو ما أثبتته بوضوح أكبر الأيام اللاحقة مع تشكيل حكومة نتنياهو السادسة الحالية.

ونوهنا في حينه بأن أهم أسباب الاستنتاج بشأن بلوغ انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين نقطة اللاعودة، ربما يكمن في تركيبتها الديموغرافية الحالية، وفي الاتجاهات شبه الحتميّة لهذه التركيبة في المستقبل، التي يظهر من الآن أن العامل الأبرز فيها سيظل تعزّز أرثوذكسيتها، على خلفية الزيادة الطبيعية في أعداد اليهود الحريديم المتشددين دينياً. فبموجب أحدث استطلاعات الرأي العام آنذاك، فإن صعود قوة "الصهيونية الدينية" راجع من ضمن أمور أخرى إلى ارتفاع نسبة التأييد لها في أوساط الشباب الحريديم، حيث أشارت التقديرات إلى أنها حصلت على ما نسبته 20 بالمائة من الأصوات بينهم. وهو ما يُعدّ بمثابة تحصيل حاصل على خلفية التحالف التاريخي الذي عقدته أحزاب اليهود الحريديم مع اليمين في إسرائيل منذ العام 1990.

كذلك لفتنا إلى أن دراسة عدد المتدينين في إسرائيل تُعدّ من القضايا المختلف عليها، وهناك تقديرات مختلفة لعددهم، ولتحديد صفة المتدين اليهوديّ عموماً. وعلى نحوٍ عامٍ تُقسّم المجموعات الدينية في المجتمع الإسرائيلي إلى ثلاث مجموعات أساسية: المحافظون أي أصحاب التديّن المحافظ الشعبي؛ المتدينون الأرثوذكس (الحريديم) من شرقيين وأشكنازيين؛ المتدينون القوميون، أي أبناء تيّار "الصهيونية الدينية". وفيما يخصّ الحريديم لا بُدّ من ذكر أنه في العام 2010 بلغت نسبتهم نحو 11 بالمائة من مجمل سكان إسرائيل، ونحو 13.6 بالمائة من السكان اليهود فيها. وبحسب معطيات أحد مراكز الإحصاء في معهد التخنيون في حيفا، يتراوح معدل زيادة عدد الحريديم في إسرائيل بين 4-7 بالمائة سنوياً، ما يعني أنهم يضاعفون عددهم كل 10-16 عاماً. ووفقاً لتقرير صدر العام 2008 وحمل عنوان "إسرائيل 2028"، فإنه في حال استمرار المؤشرات الديموغرافية للحريديم آنذاك في الاتجاه ذاته، فإن نسبتهم في عام 2028، ستصبح نحو 20 بالمائة من السكان اليهود، وسيشكل الطلاب الحريديم الذين سيلتحقون بالصف الأول نحو 40 بالمائة من مجمل طلاب الصف الأول اليهود في نفس العام.

وفي وقتنا الراهن تشير آخر تقديرات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، المعتمدة على السمات الديموغرافية الحالية لليهود الحريديم في إسرائيل، إلى أن نسبتهم ستصل في العام 2059 إلى نحو 35 بالمائة من مجمل السكان في إسرائيل، بينما ستشكل شريحة الجيل 0-19 عاماً في صفوفهم في نفس العام ما يقارب 50 بالمائة من مجمل السكان في الدولة (وليس اليهود فقط). كما توضح هذه المعطيات أن معدل التكاثر الطبيعي للمرأة الحريدية يصل إلى 6.5 بالمائة بينما لا يتجاوز 2.9 بالمائة في المجتمع اليهودي عموماً.

ولا شك في أن هذه الاتجاهات الديموغرافية تستلزم استشراف عدة سيناريوهات، سواء تلك المرتبطة بالعلاقة مع المواطنين الفلسطينيين والقضية الفلسطينية عموماً، أو بالشروخ الداخلية القائمة بين شتى فئات السكان اليهود والمرشحة لأن تتفاقم، مع وجوب الإشارة إلى أن وجود الحريديم في الحكومات الإسرائيلية الأخيرة تسبّب بأن تتخذ تلك الحكومات سلسلة من القوانين التي تهدف إلى تعزيز أرثوذكسية المجال العمومي في إسرائيل.

كما أنه يجب أن نلفت الانتباه إلى أن كل هذه المعطيات كانت سابقة لموجة الهجرة من إسرائيل الآخذة بالتصاعد على خلفية الحرب على غزة، والتي تشمل بشكل رئيس فئات السكان اليهود غير المحسوبين بكيفية ما لا على المتدينين والحريديم، ولا على اليمين.

*****

المسألة الثانية، أنه على الرغم من كل ما حدث في إبان تولي نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية منذ العام 2009، وبالأساس في كل ما يتعلّق بالحرب على قطاع غزة خلال العامين الفائتين، فإن نحو نصف الإسرائيليين فقط لا يرغبون به رئيساً للحكومة، مثلما تشير استطلاعات الرأي العام في إسرائيل. وثمة تركيز في بعض التحليلات الإسرائيلية على أنه قبل الحرب على غزة اتسمت فترة حكم نتنياهو بأمور عديدة منها سلسلة ملفات جنائية أدت إلى توجيه لائحة اتهام، ومحاولة ترسيخ عبادة الشخصية، وسحق قيَم ديمقراطية.  

ولعل المعطيات الأهم في هذه الاستطلاعات هي التالية:

أولاً، بالنسبة إلى نتنياهو فإن أكثر من ثلث الإسرائيليين ما زالوا يريدونه رئيساً للحكومة، أو على الأقل لا يعارضون ذلك.

ثانياً، نصف الجمهور الذي لا يريد نتنياهو يضم فئات تواصل منح اليمين واليمين المتطرف تأييدها. فبموجب استطلاعات الرأي العام يبدو ظاهرياً أن الصراع هو بين نتنياهو ورئيس الحكومة السابق نفتالي بينيت، وكأنما ما يجري الحديث عنه هو انتخابات شخصية يطرح كل واحد من المرشحيْن الأساسييْن فيها أيديولوجيا منافسة، أو على الأقل لديه مجموعة مزايا شخصية تفرّق بينه وبين خصمه بصورة واضحة.

ثالثاً، مثلما أكدت عدة قراءات إسرائيلية جديدة، بالنسبة إلى الجمهور العريض في إسرائيل لن تكون الانتخابات المقبلة بشأن زعامة جديدة، ولغة سياسية جديدة، أو لائحة قيَم جديدة، وحتى لو كان هناك شعور بالتململ من نتنياهو فهذا الجمهور متمسك في معظمه بطريقه. وكتب أحد المحللين في "هآرتس" أن بينيت وحتى بيني غانتس وغادي أيزنكوت استوعبوا هذه الحقيقة، والدليل على ذلك "الحاجة إلى عدسة مكبّرة كي يكون بالإمكان رؤية الفروقات الفكرية بينهم وبين نتنياهو". وأضاف: هذا هو الجمهور الذي، في أغلبيته، يكره العرب والأجانب، ويؤيد الحرب في قطاع غزة، وتوسيع المستوطنات، وقصّ أجنحة المحكمة العليا، والتمييز الجندري في جهاز التربية والتعليم. هذا هو الجمهور الذي ذاق الطعم الحلو للتفوّق اليهودي، ويرتاح إلى الحاضنة العنصرية التي ترعاها الحكومة بعناية، ولا تعترف ديمقراطيته بشرعية الرأي الآخر.

رابعاً، معسكر أحزاب الوسط في إسرائيل كما يمثله يائير لبيد وكذلك غانتس وأيزنكوت، ليست له صفات خاصة به. ووفقاً لوقائع الماضي وصولاً إلى الحاضر فإن هويته يستمدها من المسافة التي تفصل بينه وبين اليمين المتطرف، ومن مدى كراهيته لـ"اليسار الصهيوني".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات