المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 2154
  • أنطوان شلحت

أعلن وزير العدل الإسرائيلي ياريف ليفين (الليكود) يوم الأربعاء الماضي (4/1/2023) عن "خطة إصلاح" شاملة وواسعة النطاق ومثيرة للجدل بشأن النظام القانوني والمنظومة القضائية في إسرائيل، والتي في حال إقرارها، ستكون بمثابة أكثر التغييرات جذرية على الإطلاق في نظام الحكم في إسرائيل.ومن المتوقع أن تؤدي التغييرات التي حدّدها ليفين خلال مؤتمر صحافي في الكنيست، إلى الحدّ بشدّة من سلطة محكمة العدل العليا، وإلى منح الحكومة الإسرائيلية السيطرة على لجنة اختيار القضاة، وإلى الحدّ بشكل كبير من سلطة المستشارين القانونيين للحكومة والوزارات المختلفة.

وحدّد ليفين التغيير الذي يتطلّع إليه في أربعة مجالات أساسية: 

أولاً، تقييد قدرة المحكمة العليا على إلغاء القوانين والقرارات الحكومية، بحيث سيتطلب ذلك هيئة مؤلفة من جميع قضاة هذه المحكمة الخمسة عشر وأغلبية خاصة، إلى جانب سنّ "فقرة التغلّب" لتمكين الكنيست من إعادة تشريع مثل هذه القوانين في حال إلغائها بأغلبية 61 من أعضاء الكنيست؛ 

ثانياً، تغيير عملية اختيار القضاة بغية منح الحكومة الحالية سيطرة فعالة على لجنة اختيار القضاة؛ 

ثالثاً، منع المحكمة من استخدام اختبار المعقولية للحكم على التشريعات والقرارات الحكومية؛ 

رابعاً، السماح للوزراء بتعيين مستشاريهم القانونيين بدلاً من تعيين مستشارين يعملون تحت إشراف وزارة العدل والمستشار القانوني للحكومة، بحيث سيصبح تعيينهم في المنصب تعييناً سياسياً. ويجادل ليفين وغيره من المدافعين عن هذه الخطة من اليمين، بأن المستشارين القانونيين غالباً ما يمثلون عقبة أمام قدرة الوزراء على وضع السياسات التي يرغبون فيها، ويُنظر إلى هذه الخطوة على أنها حاسمة في منح الوزراء سيطرة أكبر على وضع السياسات.

وادعى ليفين أن ما يُعرف باسم "الثورة الدستورية" والتدخل المتزايد باستمرار للمنظومة القضائية في قرارات الحكومة وتشريعات الكنيست تسبّبا بتدني ثقة الجمهور في النظام القانوني إلى مستوى خطر، وأدى إلى انعدام القدرة على الحكم، ووجه ضربة قاسية إلى الديمقراطية. كما أشار إلى أنه سبق أن حذّر من الضرر الناجم عن ذلك، والآن حان وقت العمل.

وشجب قادة المعارضة في الكنيست الخطة التي اقترحها ليفين، واعتبروها خطراً واضحاً على الديمقراطية الإسرائيلية، وعلى نظام التوازنات والكوابح إزاء سلطة الحكومة.

ودان زعيم المعارضة ورئيس حزب "يوجد مستقبل" يائير لبيد، وكذلك زعيم تحالف "المعسكر الرسمي" بيني غانتس، خطة ليفين ووصفاها بأنها "انقلاب سياسي"، بينما اتهمت زعيمة حزب العمل ميراف ميخائيلي الحكومة بالتصرف مثل المافيا بسبب توقيت إعلان الخطة.

ولا تزال هذه الخطة تثير الجدل بين مختلف الأوساط في إسرائيل. ومن المتوقع أن يستمر ذلك إلى حين إقرارها.

وفيما يلي نماذج مما كتب بصددها خلال الأيام القليلة الفائتة، وهي نماذج في وسعها أن تسلط الضوء على جوهر تلك الخطة وما تتطلّع إلى تحقيقه ولا سيما على المستوى الإسرائيلي الداخليّ:

(*) "إن ’فقرة التغلب’ المُخطط لها هي فقرة هدم المحكمة العليا والقضاء على حقوق الإنسان في الدولة"-د. إليعاد شراغا، رئيس "الحركة من أجل جودة الحكم".

(*) "قام وزير العدل بجمع كل الاقتراحات السيئة والشريرة التي طرحت على مدار الأعوام وجعل منهاسلسلة من شأنها أن تخنق الديمقراطية الإسرائيلية، ولا يوجد أسوأ من هذا الانقلاب الدستوري والذي يشبهإلى حد كبير انقلاباً بواسطة دبابات الجيش... في حال تطبيق خطة وزير العدل ستتحول إسرائيل إلىديمقراطية جوفاء على غرار بولندا وهنغاريا"- القاضي المتقاعد أهارون باراك، الرئيس السابق للمحكمة العليا، و"المتهم" بأنه وقف وراء "الثورة الدستورية".

(*) "إن مأساتنا تكمن في أن الكثيرين من منتخبي الجمهور لا يفهمون معنى الديمقراطية. فالديمقراطية ليست فقط حكم الأكثرية عبر الدفاع عن الأقلية، كما يعرف كثيرون أن يتبجحوا، إنما أيضاً وجود ثلاث سلطات حكم مستقلة، ما يعني وجود سلطتين أخريين إلى جانب الحكومة التي تُعرّف بأنها السلطة التنفيذية. وفي الدولة التي تحكم فيها السلطة التنفيذية فقط فإن التعريف الوحيد الذي ينطبق عليها هو أنها دكتاتورية"- د. أريك كرمون، مؤسس "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية".

(*) "عملياً وفي ظل الوضع القائم فإن السلطة القضائية هي الهيئة الوحيدة التي يمكنها أن تطبّق نقدها الناجع على السلطة الائتلافية كي لا تعمل بخلاف القانون عموماً وقوانين الأساس خصوصاً وكي لا تخرق الصلاحية الممنوحة لها من طرف الشعب ولا تقوم باستغلال هذه الصلاحية على نحو سيء. ولذا فمن الجليّ تماماً أن ’فقرة التغلّب’ التي تتيح إمكان إحباط أي نقد قضائي حيال السلطة الائتلافية ستفتح الطريق نحو شرعنة أي استبداد وفساد"- البروفسور إسحق زامير، المستشار القانوني السابق للحكومة والقاضي المتقاعد في المحكمة العليا، والعميد السابق لكلية الحقوق في الجامعة العبرية- القدس.

(*) "ثمة هنا عصابة عنيفة متعطشة للقوة والمال تعمل معاً من أجل تفكيك المؤسسات الديمقراطية وإقامة نظام أشد أوتوقراطية وفساداً في إسرائيل، يخدم الأقوياء والأثرياء ويدوس على جميع الباقين. إن سلسلة الخطوات والمبادرات والأفكار التي تطرحها حكومة بنيامين نتنياهو السادسة وتدفع قدماً بها في الأيام الأخيرة خطرة ومرعبة وبالأساس قامعة أكثر من أي لحظة أخرى شهدناها هنا في العقود الأخيرة.

"لم تأت كل هذه الخطوات على حين غرة، ذلك أن لوبي "كوهيلت" ومعهد الأبحاث التابع له، واللذين يتم تمويلهما من جانب أثرياء أميركيين يمينيين، استثمرا عشرات ملايين الشواكل في العقد الأخير في سبيل تمهيد الأرضية لهذه الخطة التي تهدف إلى إضعاف الجهاز القضائي وتركيز قوة هائلة في يدي الحكومة وتحويل الفساد في قطاع الخدمات الجماهيرية إلى قانوني وشرعي. 

"يتذرع الواقفون وراء هذه الخطة بشعار ’الحوكمة’. ولكن الحقيقة أنهم يريدون جهازاً قضائياً ضعيفاً وملجوماً وذلك كي يدفعوا إلى الأمام سياستهم بكل قوة وبأي ثمن، حتى لو كانت سياسة غير معقولة وتمس الأقليات. وهذا هو جوهر الديمقراطية التي يريدونها. بكلمات أخرى، يرغب هؤلاء بجعل إسرائيل بمثابة ملكية خاصة للسياسيين والمقربين منهم. وفي سبيل ذلك هناك نية لإلغاء البند رقم 248 من قانون العقوبات المتعلق بارتكاب مخالفة الخداع وخيانة الأمانة. ولا بد من القول إنه في اليوم الذي تُمحى فيه هذه المخالفة من سجل القوانين، ستتحول إسرائيل إلى كلِبتوقراطية (حُكم اللصوص: حكومة يستخدم قادتها الفاسدونالسلطة السياسية للاستيلاء على ثروة شعوبهم، عادةً عن طريق اختلاس أو سرقة الأموال الحكومية علىحساب عموم السكان. وهذه الكلمة مركبة من مقطعين باللغة الإغريقية، أولهما كلبتو بمعنى لص، وثانيهماقراط بمعنى حُكم- أ. ش). وستصبح دولة تتيح منظومة القوانين فيها لأي سياسي وأي عضو كنيست وأي وزير وأي موظف حكومي أن ينهب أموال الجمهور من أجل الدفع قدماً بمصالحه الشخصية"- الصحافي غاي رولنيك، ملحق "ذي ماركر". 

(*) "إن خطة الإصلاح التي طرحها وزير العدل ياريف ليفين ليست إصلاحاً، بل هي تغيير جذري لطريقة الحكم. في حال تمرير جزء صغير من الاقتراحات التي طرحها ستكون إسرائيل في أحسن الحالات ديمقراطية جوفاء وسلطوية على غرار هنغاريا وبولندا وتركيا... إن الخطة المقترحة تمحو عملياً أي إمكانية للنقد القضائي وتحوّل الأكثرية الائتلافية إلى هيئة ذات قوة مطلقة وتجعل حقوق الإنسان أشبه بمداس، فضلاً عن أنها تحول دون القدرة على مراقبة إنفاذ القانون وتفاقم الفساد... لا يوجد في العالم الديمقراطي كله نموذج ديمقراطية ضعيفة مثل هذا النموذج [الإسرائيلي] من ناحية التوازنات والكوابح. وإسرائيل كانت ضعيفة أصلاً في هذا المجال منذ إقامتها: فلديها برلمان واحد تسيطر عليه الحكومة، ولا يوجد لديها دستور بل قوانين أساس يمكن تعديلها طوال الوقت وهي ليست خاضعة إلى أي محكمة دولية لحقوق الإنسان (على غرار دول أوروبا بما في ذلك بريطانيا). إن الدفاعات الوحيدة فيها تكمن في قوة المحكمة العليا واستقلاليتها، وإلى حدّ ما في المكانة المستقلة للمستشارين القانونيين وخضوعهم للمستشار القانوني للحكومة... صحيح أن الحكومة الجديدة حازت على الأغلبية في صناديق الاقتراع ولكن هذا لا يعني أن لديها شرعية لتخريب طريقة الحكم وأن تحتكر الدفاع عن حقوق الإنسان بما في ذلك حرية التعبير وحتى الحق في الترشح والانتخاب. يتعين على جميع القوى التي تناصر الحرية وحقوق الإنسان أن تتحد معاً من أجل إحباط مؤامرة نتنياهو وليفين"- من افتتاحية صحيفة "هآرتس" يوم 6 كانون الثاني 2023 بعنوان "خطة الهدم".  

(*) "في يوم 4 كانون الثاني 2023 طرح وزير العدل ياريف ليفين 4 مبادرات لتغييرات بنيوية بعيدة المدى في جهاز القضاء والعلاقات بين سلطات الحكم في إسرائيل... إن التأثير الذي سيترتب على هذه المبادرات الأربع هو منح قوة غير محدودة إلى الأكثرية الائتلافية والخرق بعيد المدى للتوازنات والكوابح بين السلطات في إسرائيل"- المعهد الإسرائيلي للديمقراطية.  

*****

عند هذا الحدّ ينبغي تذكير القراء بأنه على نحو شبه دائم كانت الأنظار متجهة نحو المحكمة الإسرائيلية العليا، بصفتها السلطة الأعلى لتجسيد العدل (حين تعترضه عقبات سلطوية)، وكذلك حين يوضع مبدأ المساواة على المحكّ... وحين... وحين... إلخ. ولا شكّ في أن "خطة ليفين" هذه تأتي على ركام حملات اتهام لهذه المحكمة، ولا سيما من طرف جهات يمينية ومحافظة، بأنها تقف حجر عثرة أمام ما توصف بأنها "الحوكمة"، عبر تدخلها في عمل الحكومة والكنيست، بموازاة حملات تحت غطاء غاية إعادة السلطة القضائية إلى "وظيفتها المُهمة للغاية"، وهي تفسير المعايير التي أقرها المُشرّع لا تغييرها. وتشير هذه الحملات، كما أكدنا في الماضي مرات عديدة، إلى أن معسكر اليمين في إسرائيل يعتقد أنه آن الأوان لتنفيذ مشروع أكبر يتطلع إليه منذ أعوام كثيرة، ومؤداه تكبيل يدي المحكمة العليا، ووقف ما سمي قبل نحو ثلاثة عقود بـ "الثورة الدستورية"، وبالأساس من خلال تعيين قضاة جدد محسوبين على التيار المحافظ. ويتهم اليمين هذه المحكمة بالتدخل في قضايا ليست لها، وبالتمادي في إلغاء قوانين سنّها الكنيست وتراها المحكمة غير دستورية. غير أن التهمة الأنكى هي أن المحكمة العليا تناصر الفلسطيني الذي يتوجه إليها مشتكياً من ممارسات الاحتلال أو المستوطنين في أراضي 1967، بالرغم من كونها تهمة لا تستند إلى أي قرائن جادّة. ويعمل اليمين على حصر دور المحكمة في تفسير القانون، لا في النظر في قضايا تخص السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست). ويجادل عدد من قادة اليمين بأن المحكمة العليا أخذت لنفسها دوراً غير منصوص عليه في أي قانون، واستغلت عدم وجود دستور في إسرائيل وباتت تحكم على هواها، معتمدةً على "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" من العام 1992 والذي ترى فيه المحكمة بمثابة دستور بديل، فيما يراه اليمين "أساس الشرّ" الذي اعتمدت المحكمة عليه لتلغي قوانين عاديّة للكنيست.

ومن المقالات العديدة التي تطرقنا فيها إلى هذه القضية في "المشهد الإسرائيلي"، مقال نُشر قبل نحو عام تحت العنوان "المحكمة الإسرائيلية العليا في ’عين العاصفة’"، ومما ورد فيه: 

إذا كان اليمين في إسرائيل يعتقد أن المحكمة العليا تعتدي على حقوق السلطتين التنفيذية والتشريعية المُنتخبتين، فهذا لا يعني بأي حال أنها كذلك في كل ما يتعلق بالقضايا التي تندرج تحت مُسمّى "الأمن". ولعلّ ما يستحضر الالتفات إلى هذا الأمر الآن هو الشهادة التي نشرها محلل الشؤون الاستخباراتية والأمنية، يوسي ميلمان، في صحيفة "هآرتس" يوم 2/1/2022 على خلفية ما بات يُعرف باسم "قضية بيغاسوس" (برنامج التجسس على الهواتف الخليوية التابع لشركة "إن. إس. أو" الإسرائيلية)، وذكر فيها أنه بعد نحو نصف قرن من العمل الصحافيّ أيقن بما لا يدع مجالاً لأيّ شكّ بأن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تعمل مثل دولة داخل دولة، وتفعل كل ما يحلو لها من دون رقابة برلمانية ناجعة، وبتعاون وثيق ودعم من الجهاز القضائي وعلى رأسه المحكمة العليا. وأكّد أنه يشعر بأن قوته نفدت، وبأنه يحارب ضد طواحين الهواء مثل دون كيشوت.

ومما كتبه ميلمان حرفياً ما يلي: أنا صحافيّ منذ 47 عاماً، منها 38 عاماً كنت فيها مختصاً في تغطية شؤون الاستخبارات والأمن. وفي جزء كبير من هذه الفترة وإلى جانب الكتابة في المجال القانوني، عملت في عشرات محاولات رفع أوامر منع النشر عن قضايا أمنية. ولكن في أواخر سنوات حياتي، أُدرك بأن الوضع آخذ في التدهور، وأن جهاز المناعة لدى القضاة وقدرته على مواجهة المؤسسة الأمنية آخذان في التلاشي. راكمتُ تجربة من طلبات الالتماس التي قدمتها إلى جميع الهيئات القضائية في إسرائيل، مثل محكمة الصلح والمحكمة المركزية والمحكمة العليا. وقد مثلت أمام قضاة ليبراليين، وأمام قضاة محافظين أيضاً، ولا توجد بينهم أي فروقات في كل ما يتعلق بشؤون الأمن. جميعهم يقفون بصمت عند سماع كلمة أمن. جميعهم قضاة لجهاز الأمن. هم مستعدون لتطهير أي ظلم يرتكبه جهاز الأمن، وإبعاد أي استئناف أو طلب لوسائل إعلام أو محامين أو ناشطي حقوق إنسان أو أي شخص يحب العدالة، بسرعة وبدون نقاش معمق ومن خلال إظهار مزاج قضائي مستخف ومتهوّر.

ومثلما ينوّه ميلمان، ففي الأعوام الأخيرة وافق القضاة وبرروا قرارات وزارة الدفاع وجهاز الموساد بشأن تسليح زعماء يخرقون حقوق الإنسان ودكتاتوريين في عدة دول، وقرارات منع نشر وثائق من أرشيف الدولة عن مذابح وعمليات اغتصاب وطرد في حرب 1948 وعن قتل أسرى في الحروب، أو عن عمليات استخباراتية شارك فيها تجار مخدرات. وبالطبع كل ذلك تم باسم الأمن القومي. 

ويصل ميلمان إلى بيت القصيد حين يكتب أن مصطلحDeep State  أو الدولة العميقة هو من مجال العلوم السياسية ويصف وضعاً تتكوّن فيه مجموعة سرية من شبكات خفيّة للقوى تعمل بصورة مستقلة خارج القيادة السياسية المنتخبة في الدولة وتحاول الدفع قدماً بأجندتها أو أهدافها. وبرز هذا المصطلح وحصل على الشرعية على نحو خاص في عهد ولاية دونالد ترامب في الولايات المتحدة وبدأت تستخدمه أوساط اليمين المتطرف هناك وفي إسرائيل، وأخذ هؤلاء ينشرون نظريات تآمرية كاذبة بهدف ضرب دوائر اليسار والليبرالية وإضعاف القضاء والإعلام والمس بالديمقراطية، غير أن هذا المصطلح في السياق الإسرائيلي يناسب جهاز الأمن الذي يعمل مثل دولة داخل دولة، مثلما سلفت الإشارة.

كما ورد في المقال نفسه:

أمّا عن دور المحكمة الإسرائيلية العليا في شرعنة احتلال 1967 فحدّث ولا حرج. وهنا يجدر التذكير بأن كتاب المحامية سوسن زهر "قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة1967" الصادر مؤخراً عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، يقدّم صورة موثقة عن هذا الأمر. ويشتمل الكتاب على الكثير من الوقائع المرتبطة بالموضوع المبحوث. وهو يشير على نحو خاص إلى أنه على الرغم من اعتبار أراضي 1967 بموجب القانون الدولي الإنساني أراضي محتلة، فإن المحكمة الإسرائيلية العليا لم تعترف مُطلقاً بكونها محتلة وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة، ولم تعترف أبداً بأن إسرائيل "دولة محتلة". بدلاً من ذلك استخدمت المحكمة مصطلحات غايتها التهرّب من الاعتراف بوجود احتلال إسرائيلي. وهكذا، على سبيل المثال، فإن عبارات مثل "قوة محتلة" أو "قوة عظمى محتلة" ترِد على الدوام في قرارات القضاة بصيغة "القوة المسيطِرة" أو "الجهة المُسيطرة". وبدلاً من الإشارة إلى الضفة الغربية كأرضٍ محتلة، استخدمت المحكمة مصطلح "المناطق" أو "المناطق المُدارة" أو الاسم التوراتي "أراضي يهودا والسامرة"، وبدلاً من "احتلال" انتهجت المحكمة استخدام مصطلح "حيازة". وسوّغ أحد رؤساء هذه المحكمة الموقف حيال عدم تطبيق معاهدة جنيف الرابعة على الأراضي المحتلة بكون هذه المعاهدة تسري على أراضٍ احتلتها دولة سيادية شرعية، وبما أنه لم يتم الاعتراف بسيادة الأردن ومصر على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة قبل أن تحتلها إسرائيل في العام 1967، واعتبرت أغلبية دول العالم سيطرتهما هذه غير شرعية، فإن هذه الأراضي لم تكن تحت سيادة أي دولة من قبل، ما يعني أن إسرائيل لا تُعتبر قوة محتلة!

كما يؤكد الكتاب أن رفض الغالبية العظمى من طلبات الالتماس التي قدمها فلسطينيون من أراضي 1967 أو قدمتها منظمات حقوقية باسمهم بالنيابة عنهم، كما يتضح من قرارات الحكم التي أصدرتها المحكمة العليا، يدلّ على أن هذه المحكمة قامت بتوفير ختم/ مسوّغ قانوني لا لتعزيز الاحتلال وإدامته فقط إنما أيضاً لتنفيذ العديد من الإجراءات المختلفة التي تشكل انتهاكات صارخة للقانون الدولي الإنساني، وتعتبر في جزء كبير منها "جرائم حرب"، كما جرى تحديدها وتعريفها في نصوص معاهدة روما. وكما هو معروف، اتخذ المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، مؤخراً، قراراً يقضي بفتح تحقيق جنائي في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في الأراضي المحتلة، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية (تلفت مؤلفة الكتاب إلى أن هذا القرار هو جزء من خطاب جديد آخذ بالتعزّز سواء بين منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية أو بين العديد من الأكاديميين الذين يسعون لدراسة التطورات السياسية والقضائية بما يتجاوز تعريف قوانين الاحتلال التقليدية). ومن المتوقع أن يشمل التحقيق المذكور الجرائم التي وقعت منذ حزيران 2014 فصاعداً. ولكن ما من شك في أن قرارات الحكم التي أصدرتها المحكمة الإسرائيلية العليا قبل هذا التاريخ وصادقت من خلالها على ممارسات وإجراءات دولة إسرائيل كقوة محتلة، سيكون لها وزن جادّ في فحص الوضع القضائي من وجهة نظر السلطات الإسرائيلية، وستكون لها إسقاطات محلية إسرائيلية على مسألة توفير الحصانة الإسرائيلية المحلية لممارسات الجيش بما يخالف أحكام القانون الدولي.

ومع أن هذا الكتاب المرجعيّ ينفض الغبار عن دور المحكمة الإسرائيلية العليا في توفير غطاء لاحتلال أراضي 1967 وممارسات إسرائيل في الضفة والقطاع، وهذه غايته المحدّدة، فإن من شأنه أيضاً أن يعيد إلى الأذهان ما يُوصف حتى من طرف باحثين إسرائيليين ليبراليين بأنه دور مفقود لهذه المحكمة في كل ما يتعلق بموضوع احترام حقوق الإنسان حتى داخل "الخط الأخضر"، حيث اعتبرت هذه الحقوق وما زالت تعتبر بمثابة عائق أمام الدولة وأمام قدرة أدائها، وكما لو أنها تقوّض "حقوق الدولة"، ما أفضى إلى عدم رسوخ حقوق الإنسان كجزء من مفهوم إسرائيل للديمقراطية، وإلى بقائها هشّة وغير مضمونة إلى حدٍّ كبيرٍ.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات