المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

(*) ما زال الأديب الفلسطيني غسان كنفاني يقضّ مضجع إسرائيل بعد خمسين عاماً على استشهاده الذي صادفت ذكراه في يوم 8 تموز الحالي.

وقد تجلّى الأمر، من بين وقائع عديدة، في سلوك إدارة المكتبة الوطنية الإسرائيلية التي سارعت إلى إصدار أمر بشطب "بوست" ظهر في صفحتها الناطقة باللغة العربية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، كتبه على ما يبدو موظف (عربي؟) توهم للحظة بسعة صدر الديمقراطية الإسرائيلية التي ما زالت تتواتر التقارير بشأن كونها ديمقراطية ظاهرية، جوفاء، وكان آخرها تقرير "زولات" الذي تقرأون مادة عنه في مكان آخر.

وجاء في "البوست" وكان بعنوان "في ذكرى غسان": "ذهب غسان وبقيت روحه ورسائله وإرثه ورواياته ووصاياه عالقة في أذهان أحبائه. اليوم، في الذكرى الخمسين لرحيله، تلقي ذكرى غسان كنفاني الظلال لتغطي كل ما هو خارج البوصلة، ويبقى الدرب الذي اختاره مُضاء لمتابعيه ومحبيه". وبالرغم من أن النصّ، كما تلاحظون، يتناءى عمداً عن ذكر أن كنفاني "رحل" مقتولاً من طرف إسرائيل، فإن حركة "إم ترتسو" هاجمت إدارة المكتبة الوطنية، واتهمتها بالترويج لأحد "المخربين" الأعضاء في "منظمة إرهابية" هي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فقامت إدارة المكتبة على الفور بمحو النص من صفحتها وشدّدت على أن "البوست الذي نشر في صفحة المكتبة الوطنية بالعربية على موقع ’فيسبوك’ نجم عن خطأ جوهري في رجاحة الرأي. وفور أن نما هذا الأمر إلى علم إدارة المكتبة تم محو البوست، وجرى فتح تحقيق لاستيضاح هوية المسؤولين عن هذا الإخفاق بغية منع تكرار مثله في المستقبل".

ووفقاً لما قاله رئيس "إم ترتسو"، متان بيلغ، فإن الحركة تطالب عميد المكتبة الوطنية الإسرائيلية بأن يوضّح على وجه السرعة هوية المسؤول أو المسؤولين عن نشر هذا "البوست" باللغة العربية فضلاً عن نشر "بوستات" أخرى من هذا القبيل ولا سيما التي تكيل المديح لـ"الناشط الإسرائيلي اليساري المتطرّف أوري أفنيري الذي التقى مع القاتل ياسر عرفات"، على حدّ تعبيره. وادعى بيلغ بأنه لا يجوز استخدام المال الإسرائيلي العام من أجل تأجيج ما وصفها بأنها "حملة شيطنة إسرائيل".

وكتبت بعض المواقع الإسرائيلية اليمينية ("القناة 7" مثلاً) أن كنفاني هو كاتب فلسطيني قتل في العام 1972. وكان عضواً في "الجبهة الشعبية" والناطق الرسمي بلسانها. وفي عُرف هذه المواقع فهو اشتهر على نطاق واسع بعد أن وُزّعت له صورة مع إحدى "المخرّبات" التي كانت ضالعة في عملية مطار اللد التي قامت بتنفيذها المنظمة التي كان ناشطاً فيها. وبعد شهر ونصف شهر من تلك العملية، كما تضيف المواقع نفسها، قتل كنفاني لدى انفجار سيارته بالقرب من منزله في العاصمة اللبنانية بيروت. وحتى الآن من غير الواضح بعد ما إذا كان جهاز الموساد الإسرائيلي هو من قام بتصفيته، أم أن تصفيته تمت من جانب فصائل فلسطينية أخرى، أو قد تكون تصفيته نجمت عن "حادثة عمل غامضة" في إبان قيامه بنقل مغلفات مفخخة كان من المفروض أن يجري إرسالها إلى إسرائيل.

واضح أن محاولة دفع شبهة قتل كنفاني عن إسرائيل، كما تتراءى من السطور السالفة، من شأنها أن تثير السخرية فقط، ذلك بأن إسرائيل سبق أن اعترفت وبشكل رسمي بأن عملاء جهاز الموساد هم الذين اغتالوا كنفاني بزرع عبوة ناسفة في سيارته، وحدث ذلك في سياق تقرير بقلم المعلق الصحافي الواسع الاطلاع إيتان هابِر نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" في 3 تشرين الأول 2005، وانطوى في حينه على "كشف جديد" عن معلومات تتعلق بما أسمي بـ"حملة الثأر" التي نفذها عملاء الموساد في عدد من الدول ضد فلسطينيين ردّاً على العمليات الفدائية، وتصاعدت على نحو كبير في إثر مقتل رياضيين إسرائيليين خلال دورة الألعاب الأولمبية التي عقدت في مدينة ميونيخ الألمانية في العام 1972، بعد شهرين من جريمة اغتيال كنفاني.

وليست "حادثة المكتبة الوطنية الإسرائيلية"، إذا ما جاز التعبير، هي الواقعة الوحيدة التي تدلّ على مبلغ قضّ كنفاني مضجع إسرائيل.

ففي العام 2018 مارَسَ كل من وزير الداخلية الإسرائيلي السابق آرييه درعي، ووزيرة الثقافة الإسرائيلية السابقة ميري ريغف، ضغوطاً على لجنة أمناء الوقف الإسلامي في مدينة عكا، مسقط رأس كنفاني، لإزالة نصب تذكاري له أقيم في مدخل "مقبرة النبي صالح" في المدينة. وفي ذلك الوقت أكدت تحليلات إسرائيلية في الهامش أن مرور هذه الإزالة المُشينة مرّ الكرام في الحيّز الثقافيّ الإسرائيلي تعدّ دليلاً على عمق الولاء لثقافة ولغة الاحتلال والطرد وكل ما يرتبط بكفاح الشعب الفلسطيني من أجل حريته وهويته وحقه في تقرير مصيره.

قبل ذلك بعشرة أعوام، في صيف 2008، بدأت في "مسرح الكاميري" في تل أبيب عروض مسرحية "عائد إلى حيفا" المأخوذة عن رواية تحمل الاسم نفسه لكنفاني، والتي سبق أن تُرجمت إلى اللغة العبرية في العام 2001. وأعدّ النص المسرحي الكاتب والصحافي الإسرائيلي بوعز غاؤون. وجيّر معدّ النص المسرحيّ الثيمـة الرئيسة في الرواية، التي تحكي قصة عائلة فلسطينية شُرّدت من مدينة حيفا في العام 1948، وفي غمرة ذلك تركت وراءها طفلها الصغير، الذي سرعان ما تبنته عائلة يهودية لإحدى النساء الناجيات من المحرقة النازية وربته تربيةً صهيونيةً، كي يدخل مجموعة تعديلات على المسرحية تهدف إلى "معادلة" معاناة المشردين الفلسطينيين جراء النكبة بمعاناة ضحايا المحرقة النازية في الحرب العالمية الثانية، بقصد الإيحاء مسبق البرمجة والأدلجـة بأنه لا يجوز إعادة العجلة إلى الوراء، وذلك إخلاصاً لوجهة تأخذ في اعتبارها الحاضر أساساً، وليس الماضي التاريخي، والتي تعتبر أرضية صلبة لذريعة عدم جدوى فتح "ملف 1948" في نصوص أدبية إسرائيلية كثيرة. وعلى ما يبدو فإن هذه التعديلات ساهمت في "تخفيف" وطأة الطرح الأصلي الذي انطوت عليه رواية كنفاني، ومؤداه اعتبار إقامة إسرائيل محصلة إثم فظيع ارتكبته الحركة الصهيونية وتسبّب باقتلاع السكان الفلسطينيين من بيوتهم وتشريدهم من وطنهم.

لكن على الرغم من هذا فإن المسرحية أثارت عاصفة كبيرة حتى قبل أن يبدأ المسرح بعرضها على الجمهور الواسع. ومن جملة ذلك أنه في أوائل نيسان 2008، حضرت مجموعة من ناشطي اليمين الإسرائيلي المتطرّف إلى إحدى القاعات في مدينة يافا، حيث كانت تجري المراجعات الأخيرة على المسرحية، ونظمت قبالتها تظاهرة احتجاجية رفعت خلالها شعارات كتبت عليها عبارات من قبيل "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تحيي مسرح الكاميري على تشجيعه تحرير حيفا ويافا من ربقة الاحتلال الصهيوني" و"الله أكبر" و"اذبح اليهود"! وعقب هذه التظاهرة عممت بضعة تنظيمات يمينية إسرائيلية متطرفة بياناً على شبكة الإنترنت نعتت فيه كنفاني بلقب "القاتل الأكبر"، ودعت الجمهور الإسرائيلي العريض إلى مقاطعة المسرحية والمسرح الذي أنتجها.

وفي ردة فعل عاجلة على ذلك قال مؤلف المسرحية بوعز غاؤون لصحيفة "هآرتس": "لم أكن أعرف أن الرعب من النبش في جذور الصراع بات في الوقت الحالي أكبر مما كان عليه في العام 1969، لدى نشر الرواية الأصلية... لست معنياً بالدخول في جدل مع أشخاص يهاجمون المسرحية حتى قبل مشاهدتها، ومن دون قراءتها أو قراءة رواية كنفاني. ولعل الأمر الذي يخيف هؤلاء هو أن يكون هناك مشاهدون تؤدي المسرحية إلى تماهيهم مع معاناة الطرف الآخر".

ولا شك في أن غاؤون يشير، وإن من باب خفيّ، إلى تبرّم إسرائيل باليد التي تنتج ثقافة لا تدين بالولاء للغة المحو.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات