المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
من يوميات جيش الاحتلال: جنود على حاجز قلنديا يقطعون الطريق إلى القدس، يوم 16 نيسان الجاري. (أ.ف.ب)
من يوميات جيش الاحتلال: جنود على حاجز قلنديا يقطعون الطريق إلى القدس، يوم 16 نيسان الجاري. (أ.ف.ب)

في مطلع العام 2011، أطلق رئيس "مديرية القوى البشرية" في الجيش الإسرائيلي، الجنرال آفي زمير، تحذيراً في صلبه التخوف من أن استمرار وجهة التراجع والانخفاض المتواصلين في معدلات تجنّد أبناء وبنات الشبيبة وانخراطهم في صفوف هذا الجيش سيؤدي إلى "انهيار نموذج جيش الشعب حتى العام 2020". لكنّ هذا التحذير ظلّ هائماً في الهواء، على غرار تحذيرات أخرى عديدة أُطلِقت وتُطلَق في إسرائيل في مجالات مختلفة لكن لا أحد يصغي إليها، يتوقف عندها ويأخذ بها، وانتقل التحذير من المستوى النظري إلى مستوى التحقق الفعلي على أرض الواقع.

انقضى العام 2020 وأصبحنا في منتصف 2021 تقريباً ولم تتحقق "نبوءة" الجنرال زمير بعد. لكن حيال التآكل المستمر دون توقف في نموذج "جيش الشعب" في إسرائيل، بفعل عوامل عديدة، ديمغرافية واجتماعية واقتصادية مختلفة سنأتي عليها لاحقاً، وعلى ضوء ما يتعرض له هذا النموذج من انتقادات تتسع باستمرار، يبدو أن اضطرار الدولة وقياداتها، السياسية والعسكرية، إلى التخلي عن هذا النموذج واستبداله بنموذج "الجيش المهنيّ" لم يعد سوى مسألة وقت فقط. هذا، على الأقل، ما ترسمه خلاصات البحث الفريد من نوعه الذي أُجري حول هذه المسألة وصدرت مخرجاته في كتاب خاص عن منشورات "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" في نهاية شهر كانون الثاني الأخير تحت عنوان "صدوع في الإجماع ـ تحديات "جيش الشعب" ونمط التجنيد للجيش الإسرائيلي في واقع متغير".

قبل الخوض في قراءة هذا الكتاب ومحتوياته، من المفيد التوقف عند ماهية كل من نموذجيّ "جيش الشعب" و"الجيش المهني" وتوضيح الفرق بينهما.

النموذج الأول ("جيش الشعب") هو نمط معين قديم من تجنيد القوى البشرية للجيش يعتمد، بصورة أساسية، على ما يسمى "التجنيد الإلزامي" أو "التجنيد الإجباري" أو "الخدمة (العسكرية) الإلزامية" التي تكون مفروضة، بالقانون، على جميع السكان بشكل عام، باستثناء حالات قليلة لأسباب محددة. مرّ هذا النموذج بمراحل وتحولات عديدة على مر العصور كان آخرها في إثر الانحسار الحاد في عدد النزاعات المسلحة التي تُخاض بواسطة جيوش كبيرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مما دفع دولاً عديدة في العالم إلى التخلي عن نموذج التجنيد الإلزامي و"جيش الشعب" واستبداله بالنموذج الثاني ـ "الجيش المهنيّ" الذي يسمّى أيضاً "الجيش التطوعي". ويقوم هذا النموذج على فكرة مركزية مفادها أن مهمة الجيش تتلخص في "حماية أمن الدولة والدفاع عنه"، خلافاً للتوجهات الأخرى التي تضع للجيش أهدافاً إضافية أخرى، وهو ما تجسد بصورته الأبرز في نموذج "جيش الشعب" الذي اعتمدته دولة إسرائيل منذ تأسيسها، فأعدّت الجيش ليكون الأداة الأولى والأهمّ لتنفيذ وتطبيق سياسة "بوتقة الصهر" و"توحيد الشعب" التي كانت تعني وتقصد صهر اليهود المهاجرين من دول، أوطان ومجتمعات وثقافات مختلفة في "بوتقة إسرائيلية واحدة". وبينما يكون التجنيد في نموذج "جيش الشعب" إلزامياً ويسري على جميع المواطنين في الدولة فور بلوغهم سن الثامنة عشرة، إلا في حالات استثنائية قليلة ومحددة، يكون التجنيد في نموذج "الجيش المهني" أو "الجيش التطوعي" غير إلزاميّ وإنما طوعي بإرادة حرّة ويحظى المتجند براتب ماليّ مرتفع وبامتيازات مالية عديدة ومختلفة، كوسيلة لإغراء المرشحين على التجند ولضمان تجنيد الأكثر ملاءمة وكفاءة.

سيرورة التآكل في "جيش الشعب"

التآكل الحاصل في نموذج "جيش الشعب" هو سيرورة متواصلة منذ سنوات عديدة، لكنه بلغ درجة حرجة لا يمكن العودة منها إلى الوراء بل يمكن فقط التقدم إلى أمام وصولاً إلى ضرورة التخلي عنه واستبداله. كانت هذه السيرورة ومآلاتها المحتملة، بما فيها من انعكاسات وتداعيات، المحرك لهذا البحث الذي أجراه أساف ملحي، الباحث في برنامج "الحريديم في إسرائيل" وفي "مركز الأمن القومي والديمقراطية" التابعين لـ "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" والمحاضر في "جامعة بن غوريون" في بئر السبع في النقب والذي تتركز أبحاثه حول السياسات العامة لدمج اليهود الحريديم في سوق العمل، في الجيش وفي الأكاديميا، إضافة إلى العلاقات بين الجيش والمجتمع والتحولات الحاصلة في الرأي العام بشأن نمط التجنيد المعتمد في الجيش الإسرائيلي ودمج الفئات الاجتماعية الطرفية في الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي.

يمتد كتاب البحث على 88 صفحة تتوزع على المحتويات التالية: أ. موجز؛ ب. مدخل؛ ت. الفصل الأول: خلفية عامة ـ الانتقال من جيش المواطنين إلى جيش أجيرين تطوعي ـ تشغيلي نظرة تاريخية مقارِنة؛ ث. الفصل الثاني: أسطورة "جيش الشعب" في إسرائيل والسعي نحو الوحدة القومية؛ ج. الفصل الثالث: صدوع في نمط التجنيد وأسباب تصاعد النقد تجاه الجيش؛ ح. الفصل الرابع: المُخرَجات - 1. تحالفات طرَفية والمركز المهيمن؛ 2. النخب والهوامش الاجتماعية ـ الاقتصادية في مسألة نمط التجنيد للجيش؛ 3. محاور أجياليّة وعمريّة: هروب الشباب؛ 4. كيف تمت المحافظة على نمط التجنيد الإلزامي في إسرائيل؟؛ خ. الفصل الخامس: نقاش وخلاصات؛ د. ملاحق؛ ذ. لائحة بأسماء الذين أجريت معهم مقابلات؛ ر. ملحق ب؛ ز. أنماط الخدمة العسكرية في بعض الدول المختارة؛ س. قائمة المصادر.

تجسد التآكل في نموذج "جيش الشعب" في إسرائيل في جانبين أساسيين: الجانب الأول، الانخفاض المستمر في معدلات التجنيد لصفوف الجيش الإسرائيلي والذي تجسد في انخفاض نسبة الذكور المتجندين لصفوف الجيش من 75% (من مجمل الملزمين بالتجند) في العام 1990 إلى 69% في العام 2019. لهذا الانخفاض أسباب عدة ومختلفة من بينها: 1. الارتفاع الحاد والمستمر في معدلات طلاب المدارس الدينية (ييشيفوت) بين اليهود الحريديم، من 400 طالب خلال السنوات الأولى على قيام الدولة إلى نحو 7500 طالب في سنة 2010 (قبل 12 سنة!)، علماً بأن اليهود الحريديم أصبحوا يشكلون اليوم نحو 12% من مجمل عدد السكان في إسرائيل، مع الانتباه إلى أن معدلات التكاثر الطبيعي بينهم هي الأعلى في البلاد، بفارق كبير عن المجموعات السكانية الأخرى؛ 2. الارتفاع الحاد في نسبة شريحة الشباب بين المواطنين العرب، بما يعني بالتالي ارتفاعاً حاداً في نسبة المعفيين، بموجب القانون، من واجب الخدمة العسكرية الإجبارية؛ 3. الازدياد المستمر، من جانب الفتيات اليهوديات، في استغلال بند في "قانون الخدمة الأمنية" يتيح لهنّ الحصول على إعفاء من واجب تأدية الخدمة العسكرية الإلزامية. الجانب الثاني ـ زيادة وتوسيع مسارات الخدمة العسكرية المخصصة لقطاعات محددة من المواطنين المتجندين: وحدات عسكرية خاصة للمجندين الدروز، وحدات عسكرية خاصة لأبناء وأعضاء الحركات الشبابية، وحدات عسكرية خاصة للمجندين البدو، وحدة عسكرية خاصة للمجندين الحريديم (أنشئت في العام 2002) تبعتها وحدات عسكرية أخرى للحريديم. ينبغي التنويه هنا إلى أن مفهوم ونموذج "جيش الشعب" كانا يقتضيان عدم إنشاء وحدات عسكرية مخصصة لفئات معينة من السكان، غير أن إدراك القيادات العسكرية أساسًا، كما السياسية أيضاً، بأنه لولا إنشاء هذه المسارات الخاصة لما تجند الكثيرون جداً من المجندين هو الذي دفع إلى تخصيص هذه الوحدات العسكرية.

إذا كانت نسبة الذكور اليهود الذين يتجندون للجيش قد انخفضت إلى 69% في العام 2019، كما ورد أعلاه، فمعنى هذا أن نحو الثلث منهم لا يتجندون للجيش الإسرائيلي اليوم. وإذا أضفنا إلى هذا المعطى حقيقة أن الشبان العرب لا يتجندون، بموجب إعفائهم القانوني (باستثناء الشبان الدروز الذين يسري عليهم "قانون الخدمة العسكرية الإلزامية" وباستثناء حالات متفرقة من العرب من الطوائف الأخرى الذين ينخرطون في صفوف الجيش "تطوعاً")، فمعنى هذا أن نحو النصف فقط من الذكور في سن 18 عاماً، الملزمين حسب القانون بتأدية الخدمة العسكري، يتجندون للجيش الإسرائيلي ويؤدون الخدمة العسكرية (الإلزامية) في صفوفه. وهي معطيات تضع علامات استفهام جوهرية عميقة حول ماهية نموذج "جيش الشعب" والتجنيد الإلزامي ومدى فاعليتهما.

النقد والتحدي ـ من ثلاث فئات أساسية

يبدأ التقديم للكتاب بالتذكير باليوم الدراسي الذي عقد في الكنيست في شهر حزيران 2018 بمشاركة "كثيرين من ممثلي الجمهور وأعضاء الكنيست العرب واليهود، العلمانيين والمتدينين، النساء والرجال، الذين كان يبدو أن ليس ثمة بينهم أي قاسم مشترك من الناحية الإيديولوجية أو السياسية"، كما يسجل الكاتب مضيفاً إن "ما وحّد هؤلاء جميعاً تمثل في السعي إلى الدفع بإجراء تشريعيّ وجماهيري في صلبه إجراء محاكمة علنية لنموذج التجنيد الإلزامي البائس الذي يحتم، ظاهرياً، الانتقال السريع إلى نموذج التجنيد التطوعي بأجر". وقد تمحور الجزء الأكبر من الادعاءات ضد التجنيد الإلزامي حول الاعتبارات المتعلقة بواقع اللامساواة في النموذج القائم وحول عدم النجاعة الاقتصادية في تجنيد مجموعات سكانية غير مناسبة لتأدية الخدمة العسكرية. وخلص المتناقشون إلى أن "ثمة حاجة إلى إجراء تقليص، في أسرع وقت ممكن، في قوة الإكراه الدولانية التي تُستغل في عملية التجنيد للجيش باسم قيم الحرية والحرية الفردية".

ثم يشير الكاتب إلى أن بحثه هذا يقارب المفاهيم السائدة بين الجمهور بشأن نموذج التجنيد للجيش الإسرائيلي و"فكرة جيش الشعب" ويرمي إلى تحديد وتمييز المجموعات التي تتحدى نموذج التجنيد الإلزامي وتضع له بدائل للخدمة العسكرية مقابل أجر كامل، وذلك عبر محاولة الإجابة على جملة من الأسئلة المركزية في هذا الصدد، من بينها على سبيل المثال: ما الذي يدفع ممثلي الجمهور والنشطاء الاجتماعيين إلى الانتظام معاً ومحاولة تغيير نموذج التجنيد الإلزامي العريق في القِدم؟ ما هي الجهات السياسية والاجتماعية ـ الاقتصادية التي تتحدى نموذج التجنيد القائم بصورة فاعلة؟ وما هي التسويغات، الادعاءات والمواقف ضد نموذج التجنيد الإلزامي التي تطرحها هذه الجهات؟ ما هي مواقف الجمهور الإسرائيلي، على اختلاف فئاته، بشأن نموذج التجنيد الإلزامي؟ وغيرها من الأسئلة.

تصدر الأصوات التي تدعو إلى تغيير نموذج التجنيد القائم حالياً بصورة جذرية على خلفية الانخفاض المستمر في نسبة الذكور الذين يتجندون للجيش ويؤدون الخدمة العسكرية (الإلزامية) في صفوفه من بين جميع الملزَمين، بموجب القانون، بالتجند وتأدية الخدمة العسكرية. ذلك أن هذه الحقيقة تثير أسئلة جوهرية بشأن مدى صلاحية نموذج "جيش الشعب" والتجنيد الإلزامي. وتبين نتائج هذا البحث أن هنالك مُطالبة آخذة في الاتساع والتصاعد من جانب مجموعات هامشية، مدنية (جمعيات ومنظمات) واجتماعية (الحريديم، مثلاً)، باتخاذ قرار مبدئي حاسم يقضي بإلغاء نموذج التجنيد الإلزامي في إسرائيل، ولو بصورة تدريجية. وتقترب هذه المُطالَبات، تدريجياً، نحو المركز السياسي والاجتماعي المهيمن الذي لا يزال يؤيد نموذج التجنيد القائم بدرجة عالية.

يحدد الكاتب ثلاث فئات تشكل مصدر النقد والهجوم ضد نموذج التجنيد الإلزامي وتستأنف عليه مطالِبة بتغييره، هي:

الفئة الأولى ـ الجمهور العلماني من اليسار واليمين الذي يرفع راية التحرر الاقتصادي. وينتمي أعضاء هذه الفئة، أساساً، إلى المجموعات السكانية المقتدرة من الطبقة الوسطى العلمانية والمُعتبَرة، إجمالاً، جزءاً أصيلاً من الجمهور العلماني ـ اليسار الغني، وخصوصاً من أبناء الجيل الشاب في هذه الطبقة. فقد بلغت هذه المجموعات (المقتدرة) درجة السأم من الخدمة الإلزامية الطويلة (ثلاث سنوات متواصلة) التي تتطلب ليس وقتاً طويلاً فحسب وإنما جهداً كبيراً أيضاً دون أن يحصلوا على حد أدنى من المكافأة أو على ما يجزيهم بصورة تفضلهم عن المجموعات السكانية الأخرى. ولا تخشى هذه المجموعات من أن يمس نموذج التجنيد البديل، القائم على أساس تلقي المتجندين أجراً شهرياً، بمكانتها في إطار منظومة التراتبية المدنية ـ الاجتماعية أو بقوتها الاقتصادية. ذلك أن هذه القوة مرتبطة، ارتباطاً وثيقاً، بالتسويات المالية التي كرستها منظومات السوق النيوليبرالية التي تطورت في إسرائيل منذ أواسط الثمانينيات في القرن المنصرم.

إلى جانب هذه المجموعات المقتدرة، تشمل هذه الفئة أيضاً أوساط اليمين التي ترفع راية التحرر الاقتصادي وتشكل تحدياً لنموذج التجنيد الإلزامي في إسرائيل، من خلال القيم والمفاهيم التي تطرحها بواسطة ممثليها في السياسة ومنظمات المجتمع المدني والتي تشدد على حرية الفرد، ضرورة تراجع الدولة عن فرض التجنيد الإلزامي وإعلاء شأن النجاعة الاقتصادية والتشغيلية الكامنة في القوى البشرية التي يتم تجنيدها للجيش إلزامياً كل سنة.

الفئة الثانية ـ مجموعات سكانية هامشية لا تستفيد من التسويات القائمة، أي: اليهود الحريديم، بصورة أساسية. الجيش، في نظر هذه الفئة، لا يؤدي دوراً تمدينياً في المشروع القومي الصهيوني ـ العلماني؛ ولذلك، يسعى ممثلو هذه الفئة إلى جعل الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي خدمةً تطوعية ـ مهنية مدفوعة الأجر بحيث يكون الانخراط فيها مثل الانضمام إلى أية منظمة مدنية، وهو ما قد يؤدي إلى فقدان الجيش هيبته ومكانته المرموقة بين المؤسسات التي تمثل الدولة بصورة رسمية. وعندئذ، لن يكون المعنيون بتأدية الخدمة في هذا الجيش من أبناء المجموعات السكانية المقتدرة، على الغالب، وهو ما من شأنه أن يزيل حاجزاً أساسياً وجوهرياً في العلاقات ما بين الأغلبية التي تؤدي الخدمة في الجيش والأقلية التي تؤديها وأن يقلل بدرجة كبيرة مستوى الإحباط والغضب المتراكمين لدى الجمهور العلماني واللذين يوجههما ضد الجمهور الحريدي الذي لا يؤدي شبانه الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي.

الفئة الثالثة ـ أبناء الجيل الشاب. يبين البحث موضوع الكتاب أن أبناء الجيل الشاب في إسرائيل (18 ـ 34 عاماً) يؤيدون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نموذج التجنيد التطوعي المدفوع الأجر، بالمقارنة مع أبناء الجيل المتقدم ـ نحو 55% من فئة الشباب يؤيدون اليوم الانتقال إلى نموذج التجنيد التطوعي بأجر، مقابل 10% منهم فقط قبل عقدين من الزمن. ويطغى على موقف هذه الفئة الخطاب النيوليبرالي الذي يمجّد قيم المادية، تحقيق الإنجازات والتنافسية؛ وهي القيم التي تشكل جزءاً من الدافعية الفردية لتأدية الخدمة العسكرية، والتي تستوجب ـ في نظر أبناء الشبيبة ـ مكافأتهم مالياً بأجرٍ كامل. وهذا هو، بالتحديد، الدافع الأساس للتحول الحاصل في الجيش الإسرائيلي في الفترة الأخيرة، إذ بدأ باعتماد طريقة المكافأة للمتجندين في الخدمة الإلزامية، ولو بصورة غير رسمية من خلال مسارات مختلفة.

إعادة التفكير، ثم إجراء التغيير ـ حاجة ملحّة

يؤكد الكاتب أنه من الصعب مجرد الافتراض بأن من الممكن الاستمرار في اعتماد نموذج الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي والمحافظة على مشروعية هذا النموذج حيال علامات الاستفهام الكثيرة والواضحة التي تطرحها مجموعات سكانية آخذة في الازدياد والاتساع في داخل المجتمع الإسرائيلي. وستكشف الأيام، كما يقول، ما إذا كان الجيش سيجري استعداداته اللازمة لاستيعاب وتذويت التغييرات القيمية، الاجتماعية والثقافية التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة ومتى سيقوم بهذه الاستعدادات، إن هو اقتنع بضرورتها.

لكن ثمة ما هو أكثر أهمية حتى من هذه الاستعدادات أيضاً وهو: الحاجة التي ستنشأ في المستقبل القريب جداً إلى إثارة وإدارة نقاش جماهيري واسع، اجتماعي وسياسي، جدّي وعميق، حول الأسئلة المصيرية التي تتعلق بالمبدأ الناظم للمجتمع الإسرائيلي، بغية عدم ترك هذه النقاشات وما ستتمخض عنه من قرارات حاسمة في أيدي قادة الجيش والأجهزة الأمنية فقط. هذا هو أحد أهمّ السجالات الأكثر صلةً وجِدّة في المجتمع الإسرائيلي اليوم، لأن السجال حول الخدمة العسكرية والتضحيات المحتملة إبانها لم يعد، منذ زمن بعيد نسبياً، عاملاً محفزاً ومُجنداً لفئات اجتماعية كثيرة آخذة في الازدياد والاتساع في المجتمع الإسرائيلي. ويخلص هذا البحث في النهاية إلى الاستنتاج بأن الحاجة قد أصبحت ملحة جداً لإعادة التفكير في مسألة الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي وطريقة التجنيد لتأديتها سعياً إلى تغيير هذه الطريقة، من خلال إعادة صياغة "العقد الاجتماعي" ما بين مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية الإسرائيلية، من جهة، وبين الجيش الإسرائيلي من جهة أخرى، ومن خلال تحديث منظومة التوقعات حيال التغييرات المشار إليها آنفاً في مكانة نموذج "جيش الشعب" وموقعه، وهو الذي لا يزال على حاله "مثل جزيرة وحيدة وسط بيئة يحكمها الواقع النيوليبرالي الذي ترسخ في إسرائيل".

 

المصطلحات المستخدمة:

جيش الشعب, الكنيست, دورا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات