المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أطلق مركز "عدالة" (المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل)، يوم الجمعة الأخير، حملة شعبية وإعلامية واسعة تحت عنوان "لن تسقط أم الحيران"، بغية التصدي لمخطط هدم وتهجير قرية عتير ـ أم الحيران البدوية في النقب، وذلك بالتعاون مع مركز "حملة" لتطوير الإعلام الاجتماعي.


وتأتي هذه الحملة، التي تتزامن مع حلول ذكرى النكبة الفلسطينية، في أعقاب قرار المحكمة العليا الإسرائيلية، الذي صدر يوم 5 أيار الجاري، ويقضي بهدم القرية وتهجير أهلها لإتاحة المجال أمام إنشاء مستوطنة يهودية على أرضها تحمل اسم "حيران"، في ختام نحو 13 عاماً من المرافعات والمداولات القضائية في هذا الشأن!


وجاء في تعريف هذه الحملة أنّ قرار المحكمة العليا يأتي "ضمن سلسة هجمات هدم وتهجير مكثّفة على بيوت وقرى الفلسطينيّين، بهدف تهويد البلاد من شمالها حتى جنوبها"، كما دعت الحملة جمهور متابعيها عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى عدم التردد "في اتخاذ خطوات جماهيريّة تليق بحجم القرارات والمخطّطات التي تدمّر وتهجّر وتهدّد وجوده".


وستصدر خلال الأيّام والأسابيع القريبة سلسلة من المواد الإعلاميّة والمعلوماتيّة، المرئيّة والمكتوبة، حول قضيّة عتير- أم الحيران.
واعتبر مركز "عدالة" أن قضية عتير ـ أم الحيران "قد دخلت مرحلة استنفاد الأدوات القضائية وعلى مجتمعنا أن يتحمل دورا رياديا ومسؤولية تاريخية في الدفاع عن القرية وأهلها وبيوتها"، مشيرا إلى الاجتماع الذي عقدته قيادات المواطنين العرب في إسرائيل في القرية نفسها، مساء الأحد الأخير، وجرى خلاله التباحث في الخطوات الجماهيرية المناسبة للدفاع عن القرية حتى إلغاء أمر الهدم والتهجير.

قرية أم الحيران

قرية عتير- أمّ الحيران هي واحدة من عشرات القرى "غير المعترف بها" في صحراء النقب، يقطنها أبناء عشيرة أبو القيعان البالغ عددهم قرابة الألف نسمة. تقع القرية في منطقة وادي عتير شمال شرقي بلدة حورة (على شارع 316، شارع شوكت ـ عراد).
وتنقسم القرية إلى منطقتين: أمّ الحيران وعتير. وقد أقيمت هذه القرية في العام 1956 بأمر من الحاكم العسكري الإسرائيلي حيث تم تهجير أهلها، إبان النكبة الفلسطينية في العام 1948، من منطقة "خربة زُبالة"، في منطقة وادي زبالة، إلى منطقة اللقية ولم يُسمح لهم بالعودة إلى خربة زبالة لاحقا.


وقبل قيام دولة إسرائيل، كان أهالي هذه القرية يقيمون في الشمال الغربي من منطقة النقب الجنوبية، في الموقع الذي أقيم فيه لاحقا "كيبوتس شوفال". وقد تم تهجيرهم وإخلاؤهم من هناك في العام 1952، ثم جرى نقلهم إلى منطقة "غابة يتير" التي تمتد على مساحة تبلغ نحو 30 ألف دونم إلى الجنوب من مدينة بئر السبع. وحينما بدأ "الكيرن كييمت" ("الصندوق القومي اليهودي") بغرس الأشجار في المنطقة لإقامة أحراش فيها، في العام 1952، قرر الحاكم العسكري الإسرائيلي إخلاء السكان من المنطقة وتهجيرهم مرة أخرى فتم نقلهم إلى موقع قريتهم الحالية ـ أم الحيران ـ والتي يقيمون فيها منذ أكثر من 60 سنة. وفي العام 1956، طالب أبناء عشيرة أبو القيعان القائدَ العسكريّ بالعودة إلى أراضيهم، لكن طلبهم قوبل بالرفض، وأمرهم الحاكم العسكريّ بالانتقال للسكن في منطقة "وادي عتّير".
وهكذا، استقرّ أبناء عشيرة أبو القيعان (الذين بلغ عددهم آنذاك نحو 200 نسمة) في منطقة عتير-أمّ الحيران، منذ العام 1956، حيث قاموا بتقسيم الأراضي بينهم للبناء وقاموا ببناء البيوت الحجريّة وغيرها وشقّ الطرق وحفر الآبار لتجميع مياه الأمطار وزراعة وفلاحة الأراضي التي قامت إسرائيل بتأجيرهم إياها.


وفي شهر تموز 2010، قررت "اللجنة الفرعية للشؤون التخطيطية المبدئية" (التابعة للمجلس القطري للتخطيط والبناء) الاعتراف بقريتي عتير ـ أم الحيران، سوية مع القرية الملاصقة لها، عتّير، غير أن هذه اللجنة ذاتها عادت وقررت لاحقا (بعد ثلاثة أسابيع من قرارها الأول) إلغاء قرارها الأول بشأن الاعتراف بالقريتين، وذلك في إثر تدخل مباشر وغير عادي من جانب ديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية.


وطوال هذه السنوات العديدة، التي تجاوزت الـ 60، يعيش أهالي أم الحيران في قريتهم في ظل حرمانهم من أبسط مقومات الحياة الأساسية، بما في ذلك مياه الشرب والكهرباء والصرف الصحي، ناهيك عن انعدام أية خدمات، مثل التعليم والصحة وغيرها.
أما الآن، وحيال المخطط الحكومي لإنشاء مستوطنة "حيران" اليهودية الجديدة على أراضي القرية، فقد سارعت الدولة وتجندت بمختلف مؤسستها وأذرعها لإخلاء أهالي أم الحيران وعتير والشروع في أعمال التطوير لتوفير البنى التحتية والخدمات الضرورية للسكان اليهود المستقبليين.

قرار الهدم والترحيل واستئنافات الأهالي

في العام 2002، اتخذت الحكومة الإسرائيلية (برئاسة أريئيل شارون ـ "حكومة شارون الأولى") قراراً يقضي بإقامة 14 مستوطنة يهودية جديدة، نصفها في النقب ومنها "حيران" على أراضي قرية أم الحيران، التي قضى القرار، أيضا، بهدم بيوتها وتهجير أهلها بزعم أنهم "تسللوا" إلى تلك الأراضي بصورة غير قانونية وأن المنطقة "غير مُعدّة للسكن، وفق التخطيطات الحكومية"!


ولكن، خلال المداولات القضائية في القضية (والتي سنفصلها لاحقا) تم الكشف عن مخطط حكومي لإنشاء مستوطنة يهودية باسم "حيران" على أنقاض القرية العربية المنوي هدمها وتهجير أهلها، ما يفنّد المزاعم الحكومية بأن "المنطقة غير معدّة للسكن".


وفي العام 2003، تقدّمت الدولة بطلب إلى محكمة الصلح في بئر السبع، لاستصدار أوامر هدم بيوت أمّ الحيران كلها، من دون إبلاغ الأهالي أصحاب البيوت (إجراء من طرف واحد). وفي العام 2004، استجابت المحكمة لطلب الدولة وأصدرت أوامر إخلاء لجميع بيوت القرية، بادعاء أن أهلها "ينتهكون حدود أراضي الدولة"! وهي الأوامر التي تم تنفيذ بعضها في العام 2007، إذ قامت أذرع السلطات الحكومية بهدم 27 بيتا.


في العام 2009، توجه مركز "عدالة" إلى محكمة الصلح في كريات غات مطالبا بإلغاء أوامر الهدم، وخاصة على ضوء إقرار محكمة الصلح والمحكمة المركزية في بئر السبع، ضمن دعاوى الإخلاء، بأن "سكان أم الحيران وعتير ليسوا غزاة أو معتدين على أراضي الدولة، بل يقيمون عليها بإذن من السلطات المختصة"! لكن المحكمة رفضت هذا الطلب وأقرت إبقاء أوامر الهدم على حالها. كما رفضت المحكمة المركزية في بئر السبع، أيضا، الاستئناف الذي تقدم به "عدالة" ضد قرار محكمة الصلح هذا بتثبيت أوامر الهدم. وعللت المحكمة المركزية رفضها هذا بأن أوامر الهدم تلك "تخدم مصلحة عامة" تتمثل في بناء المستوطنة الجديدة! وقررت المحكمة إجازة البدء بتنفيذ أوامر الهدم هذه "ابتداء من يوم 17/12/2014".


وفي أيلول 2014، رفضت المحكمة العليا طلب الأهالي منحهم حق تقديم استئناف على قرار المحكمة المركزية المذكور بزعم "انعدام مصلحة للجمهور" في هذه القضية التي "تخص شأنا خاصا للمستأنِفين"! وعشية الموعد المحدد للبدء بتنفيذ أوامر الهدم، طلب "عدالة" من المحكمة تمديد فترة تجميد هذه الأوامر "ريثما تقرر المحكمة العليا في دعوى الإخلاء والطرد"، فاستجابت المحكمة، جزئيا، وعلقت تنفيذ الأوامر لمدة 3 أشهر إضافية.


في موازاة هذه الإجراءات القضائية لتأجيل / وقف / إلغاء أوامر الهدم، تحرك مركز "عدالة" ومركز "بمكوم ـ مخططون من أجل حقوق التخطيط"، إداريا وقضائيا، لمحاولة إلغاء قرار إخلاء أهالي عتير ـ أم الحيران من أراضيهم وترحيلهم. وكان أول هذه التحركات تقديم اعتراض إلى "لجنة الاعتراضات" التابعة لـ"المجلس القطري للتخطيط والبناء" على مخطط إقامة مستوطنة "حيران" على أراضي عتير ـ أم الحيران. لكن اللجنة رفضت هذا الاعتراض.


وفي العام 2009، أقرت محكمة الصلح في بئر السبع دعوى الإخلاء بحق السكان التي قدمتها الدولة، رغم تأكيدها (المحكمة) بأن سكان عتير ـ أم الحيران "ليسوا متسللين"، إذ أن انتقالهم إلى تلك المنطقة تم "بتفويض من الدولة"، لكنها أضافت أن "الأراضي هي بملكية الدولة" وأن "هذا التفويض كان مجانيا دون مقابل مادي، مما يتيح للدولة إلغاءه ومطالبة السكان بالمغادرة"!


على هذا القرار، تقدم "عدالة" و"بمكوم" باستئناف إلى المحكمة المركزية في بئر السبع، التي قررت في العام 2011، تبني قرار محكمة الصلح المذكور، كاملا، بما في ذلك "انتقاد" الجهات الحكومية الرسمية جراء اعتبارها أهالي القرية "متسللين" وطريقة تعاملها معهم!
وفور صدور هذا القرار، تقدم "عدالة" و"بمكوم" بطلب استئناف إلى المحكمة العليا في 17 نيسان 2011. ونظرت المحكمة في هذا الاستئناف بتركيبة مكونة من ثلاثة قضاة طيلة أكثر من 4 سنوات (!!) حتى أصدرت قرارها النهائي بشأنه، يوم 5 أيار الجاري، وأسبغت من خلاله كامل الشرعية القضائية والقانونية على مخطط الاقتلاع والترحيل الحكومي بحق أهالي عتير ـ أم الحيران لغرض إنشاء مستوطنة يهودية جديدة في الموقع، على أراضيهم وفوق أنقاض بيوتهم!


وجاء قرار المحكمة العليا المصادقة على خطة الإخلاء والتهجير والاستيطان استنادا إلى الذريعة المركزية بأن "الدولة هي الجهة المالكة للأرض، وهي التي سمحت للأهالي بالإقامة عليها والمكوث فيها"، ما يعني أن بإمكانها "العودة عن قرارها ومطالبة السكان بإخلاء بيوتهم القائمة هناك"!
وقد تجاهلت المحكمة في قرارها هذه جملة من الحقائق الأساسيّة، في مقدمتها أنّ السلطات الإسرائيليّة هي تلك التي نقلت السكّان إلى الأرض قبل 60 عامًا بعد أن هجّرتهم من أرضهم التي عاشوا فيها قبل النكبة. وهي تتجاهل أن قرار الهدم والإخلاء حين اتُخذ، اتُخذ بناءً على ادعاء السلطات بأنّ الأهالي "دخلوا الأرض بشكلٍ غير قانونيّ"، وهو ما تبين للمحكمة، بالوثائق الرسمية، زيفه وكذبه. غير أن هذا كله لم يغير شيئا من نتيجة عمدت المحكمة إلى التوصل إليها، مسبقا وسلفا كما يبدو!


واتخذت المحكمة العليا قرارها هذا بأغلبية قاضيين (هما: إلياكيم روبنشطاين، الذي كتب نص القرار، ونيل هندل) مقابل معارضة ـ جزئية ـ من القاضية دافنا باراك ـ إيرز، التي دعت، أساسا، إلى "قبول الاستئناف وإصدار أمر إلى الدولة بإعادة النظر في مسألة التعويض الذي سيمنح للمستأنِفين في إطار عملية الإخلاء، من خلال فحص إمكانية المحافظة على علاقتهم وارتباطهم بالبيئة السكنية الخاصة بهم"!

حلقة أخرى في حرب الدولة ضد البدو في النقب

تكتسب قضية أم الحيران أهمية وخطورة مضاعفتين، ليس على خلفية واقع أهاليها تحديدا وما عانوه من اقتلاع وتهجير متكررين ومن حياة تفتقر إلى أبسط وأدنى المقومات الإنسانية فقط، بل بكونها تمثل حلقة أخرى في "مسلسل" الحرب الوجودية التي لم تتوقف الدولة عن شنها على المواطنين العرب في النقب، وما تمثله من عينة فاضحة للسياسات والمخططات الحكومية الإسرائيلية حيال المواطنين العرب البدو في النقب بأسرهم، تقوم أساساً على "مبدأ" أن جميع العرب البدو في النقب، سواء الذين ظلوا يقيمون على أراضيهم بعد نكبة 1948 أو الذين تم إخلاؤهم وتهجيرهم مرارا، لا يمتلكون أية حقوق ملكية على أراضيهم! وهو "المبدأ" الذي أقرته المحكمة العليا الإسرائيلية بقرارها الأخير هذا بشأن عتير ـ أم الحيران وأسبغت عليه كامل المشروعية القانونية والقضائية!


وفي الترجمة العملية لهذا "المبدأ" أن المواطنين العرب في البدو معرضون للاقتلاع والتهجير في أية لحظة تختارها السلطات الحكومية الرسمية، حتى ولو كان الهدف عنصريا خالصا ومن منطلقات عنصرية بحتة ـ جهرا وصراحة ـ يمثل استمرارا واضحا للسياسة التي اتبعتها الحركة الصهيونية عشية النكبة الفلسطينية وإبانها: تهجير المواطنين العرب من بيوتهم وأراضيهم لإحلال مستوطنين يهود وإسكانهم على هذه الأراضي وفوق أنقاض هذه البيوت!


وقد عبر مدير "دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية"، يارون بن عزرا، عن هذا الهدف بصورة صريحة، حين قال (في اقتباس ورد ضمن بحث أجراه "مركز الأبحاث والمعلومات" التابع للكنيست ونشر في كانون الأول 2011) إن "الهدف من هذا المخطط هو الاستيلاء على مساحات الأرض الأخيرة بما يضمن وضع حد لغزو البدو للأراضي القومية ومنع نشوء تتابع بدوي أو عربي إلى الجنوب من جبال الخليل باتجاه مدينة عراد، على مشارف ديمونا ويروحام، وكل المنطقة الواقعة بينها وبين بئر السبع"!
ويقضي هذا المخطط الاستيطاني بأن تستوعب مستوطنة "حيران" نحو عشرة آلاف مستوطن حتى العام 2030، علما بأن حركة "أور" الاستيطانية الدينية (من التيار "الديني القومي")، التي تتكفل بالتجنيد والإعداد لهذه المستوطنة الجديدة، تأسست في العام 2002 في مستوطنة "عيلي" في الضفة الغربية وهدفها "الاستيطان في النقب والجليل وتطويرهما". وهي تنشط بالتعاون مع "وزارة تطوير النقب والجليل"، "كيرن كييمت ليسرائيل" (الصندوق القومي اليهودي) وقسم الاستيطان في الوكالة اليهودية.

والمعروف أن السلطات الإسرائيلية كانت قد عمدت إلى تجميع البدو الذين بقوا في النقب بعد النكبة الفلسطينية ـ نحو 15 ألف إنسان يشكلون نحو ثـُمن السكان البدو في النقب قبل النكبة ـ وتركيزهم في منطقة تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة بئر السبع بلغت مساحتها نحو 900 ألف دونم وأطلق عليها "منطقة السياج". وقد شكلت هذه المنطقة نحو 7% فقط من مجمل المساحة الكلية لمحافظة بئر السبع، بينما تم إعلان جميع المساحات الواقعة خارج "منطقة السياج" مناطق عسكرية فتم إغلاقها وتسييجها ومنع المواطنين البدو من الدخول إليها، خشية محاولتهم استعادة أراضيهم والعودة إليها.

وخلال السنوات منذ ذلك الوقت، تقلصت مساحة "منطقة السياج" إلى نحو الربع فقط من المساحة الأصلية، حتى أصبحت لا تزيد عن 1% فقط (!!) من مجمل مساحة محافظة بئر السبع التي يشكل المواطنون البدو (192 ألفا) نحو 3% من مجموع السكان فيها. ويقيم نصف المواطنون البدو في النقب في 40 قرية غير معترف بها، منها عتير ـ أم الحيران، تمتد على مساحة تعادل 7ر2% فقط من مجمل مساحة منطقة النقب!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات