منذ هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وما أعقبه من حرب إبادة على قطاع غزة، شهدت إسرائيل نشوء موجة جديدة من الحركات الاجتماعية، اتخذت طابعاً سياسياً وأمنياً متزايداً، وانخرطت في قضايا الأمن، والاستيطان، وإعادة تعريف العلاقة مع الفلسطينيين. ومن بين هذه الحركات، برزت "حركة جيل النصر" بوصفها إحدى أبرز التعبيرات عن هذا التحوّل، لا سيما في أوساط جنود جيش الاحتياط. وقد لعبت هذه الحركة دوراً ملحوظاً في تعزيز الدعوات إلى الانتظام في صفوف الاحتياط، والتعبئة للحرب.
تستعرض هذه المساهمة نشوء حركة "جنود الاحتياط - جيل النصر" بوصفها إحدى الحركات الناشطة في صفوف جيش الاحتياط. وهي تركّز على تحليل البنية التنظيمية للحركة، وطرحها السياسي والأمني، علاقتها بالمؤسسة العسكرية، ودورها الميداني والإعلامي.
الخلفية التأسيسية للحركة
نشأة حركة "جيل النصر" في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر وما تلاها من حرب إبادة على قطاع غزة 2023، حيث شعر العديد من جنود الاحتياط بأنهم تُركوا في الميدان بلا غطاء من الدولة ولا دعم من المجتمع. وفي هذا المناخ، تبلورت الحركة بوصفها إطاراً احتجاجياً يقوده ضباط في الاحتياط، وعلى رأسهم جلعاد آخ وعومر فتسينياش، مدعومون بشكل غير مباشر من أوساط في اليمين الصهيوني القومي.[1]
وقد تمحور الخطاب التأسيسي للحركة حول رفض التراخي والعودة إلى سياسات الاحتواء المرحلي، رافعين شعارات حادة من قبيل: "لن نتوقف حتى نحسم"، و"دماؤنا ليست عبثاً"، في تعبير واضح عن نزعة استئصالية تسعى إلى فرض واقع جديد بالقوة والحسم.
وتوضح عومر فتسينياش - إحدى المؤسِّسات البارزات - المنطلقات العاطفية والأيديولوجية للحركة بقولها:
"نهضنا من قلب الميدان، خلال الحرب، وسط كارثة غيّرت تاريخ الشعب اليهودي ودولة إسرائيل. فهمنا أنه إذا لم نقف بثبات أمام العدو، سنكون في خطر وجودي. إن لم نتوحد ونرعَى جنودنا، وأسرانا في الأسر، ونصون كرامة من ذُبحوا وأُحرقوا في السابع من أكتوبر، فالمأساة القادمة قاب قوسين".
رؤيتان مركزيتان: التهجير والسيطرة
تبنّت حركة "جيل النصر" خطاباً أمنياً حادّاً، ويستند إلى تصور جذري للحسم والسيطرة. هذا الخطاب يُعيد تعريف العلاقة بين الأمن والسيادة، ويطرح تصورات تتقاطع مع طروحات اليمين. [2] ومن أبرزها:
أولاً، منطق الحسم بدل الردع: تعتبر الحركة أن الاستراتيجيات الأمنية الإسرائيلية التقليدية، خصوصاً سياسة "جز العشب"، قد فشلت في توفير الأمن الحقيقي، وتطالب بدلاً منها بإستراتيجية حاسمة تشمل إعادة احتلال غزة كلياً أو جزئياً، وتوسيع الحزام الأمني في لبنان حتى نهر الليطاني شمالاً.
ثانياً، تهجير الفلسطينيين: تدعو الحركة إلى فتح مسارات "هجرة طوعية" للفلسطينيين، وتقييد عودة السكان إلى المناطق المتضررة بعد إخضاعهم لـ"غربلة أمنية".
ثالثاً، الأمن كمعيار للسيادة: في خطاب "جيل النصر" الأمن هو المعيار السيادي؛ وكل تراجع ميداني يُعد مساساً بالسيادة. ولذلك، تُطرح المواجهة المستدامة كخيار وجودي وليس فقط عسكري.
البنية التنظيمية وآليات العمل
تتسم البنية التنظيمية لحركة "جيل النصر" بطابعها اللامركزي، حيث تعتمد على شبكات من جنود الاحتياط السابقين والمتطوعين المدنيين المنتشرين في مختلف مناطق إسرائيل. تُمكّن هذه الشبكات الحركة من التحرك بسرعة، وتنظيم الفعاليات في مواقع متباعدة، واستقطاب تأييد جماهيري متنوّع، بهدف تعزيز قدرتها على التأثير في الرأي العام وصانعي القرار.
تركز الحركة حضورها من خلال مخيمات رمزية ميدانية، والتي تقام في مواقع استراتيجية ذات دلالة سياسية وعسكرية، مثل "سديه تيمان" في النقب. كان من أبرزها إقامة "مخيم الاحتياط" في 2 كانون الثاني 2025 أمام مكتب نتنياهو في القدس، حيث احتشد عشرات من جنود الاحتياط العائدين حديثاً من القتال في قطاع غزة، مطالبين بعدم وقف العمليات العسكرية إلا بعد تحقيق "نصر حاسم" على حركة حماس. وقد وجّه الجنود نداءً علنياً إلى زملائهم المسرَّحين حديثاً يدعونهم فيه إلى الانضمام إلى الاعتصام مباشرةً بعتادهم العسكري والمبيت في الميدان.[3]
النشاط الإعلامي والدعائي
توظف الحركة أدوات دعائية متعددة، أبرزها مقاطع الفيديو وشهادات الجنود، إلى جانب "مُجسّمات رمزية" كنعوش وأطفال رضع ملفوفين بالأعلام، في محاولة لصناعة ذاكرة بصرية تحشد الرأي العام، وتؤطر خطابها كمظلومية وطنية. وتقوم بتوثيق قصص من الجنود والضباط الذين قاتلوا في الخطوط الأمامية خلال حرب؛ بهدف أن تواصل نقل إرث النصر والمعركة إلى الأجيال القادمة.[4]
كما تصعّد الحركة من حملاتها ضد المنظمات الدولية، وعلى رأسها وكالة الأونروا، التي تتهمها بالإرهاب والتحريض، وتطالب بإغلاق مكاتبها في القدس، وتدعم ذلك بتقديم شكاوى رسمية إلى الشرطة، في مسعى لربط المعركة الأمنية بالإطار القانوني المحلي والدولي.
فقد نشرت في كانون الأول 2024 حملة بعنوان "نطالب بالعدالة في الأكاديميا"، تضمنت إعلاناً اتُهم فيه النظام الجامعي الإسرائيلي بممارسة تمييز سلبي ضد جنود الاحتياط لصالح الطلاب العرب. الإعلان، الذي بثّته قناة "كان 11"، استعرض حالة اثنين من المتقدمين لكلية الطب: أحدهما "إيال"، الذي خدم في الاحتياط ونال 720 في اختبار البسيخومتري، لكنه رُفض؛ والثاني "أحمد"، الذي قُبل رغم حصوله على 680 فقط.[5]
أثارت الحملة ردود فعل مؤسسية، حيث توجهت لجنة رؤساء الجامعات في إسرائيل في 26 كانون الأول 2024 إلى جمعية "جيل النصر" مطالبةً بإزالة الإعلان وتقديم اعتذار علني، مؤكدةً أن الجامعات لا تطبق سياسات "تمييز إيجابي" لصالح العرب، وأنها تلتزم بمعايير أكاديمية موحدة.
البرامج التعبوية والتعليمية
إلى جانب الاحتجاجات والاعتصامات، تنشط الحركة في تنفيذ برامج توعوية وتعبوية موجهة إلى مختلف شرائح المجتمع الإسرائيلي، حيث تنظّم محاضرات في المدارس الدينية والعلمانية، وتعقد ندوات داخل الكنيست، وتنفّذ حملات ميدانية في مناطق الشمال والقدس، بالإضافة إلى المشاركة في تحركات ضد مؤسسات دولية، وعلى رأسها وكالة الأونروا، التي تتهمها الحركة مثلما ذكرنا بـ"التحريض" و"دعم الإرهاب".
وتكشف تصريحات قادة الحركة عن استعداد دائم للردّ الميداني على التهديدات، حتى خارج نطاق الجيش الرسمي. ففي تصريح للرائد جلعاد آخ، أحد مؤسسي الحركة، قال: "جاءت المبادرة بعد رصد معلومات من الإعلام العربي تشير إلى وجود نوايا لتنفيذ عمليات تخريبية. أطلقنا فوراً نداءً لأفراد المجتمع، ولحسن الحظ، استجاب المئات. نحن نؤمن بأن علينا حماية المزارع التي تحمي أرض الدولة."
العلاقة مع المستوى الرسمي
ثمة علاقة مركّبة بين حركة "جيل النصر" والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية؛ إذ تطرح الحركة نفسها باعتبارها المعبّرة عن جنود الاحتياط والمدافعة عن كرامة من خاضوا المعارك وقدموا التضحيات، غير أنها تُعبّر في بعض الأحيان عن موقف ناقد تجاه المؤسسة الرسمية، انطلاقاً من التباينات والخلافات الداخلية في إسرائيل.
برز ذلك في أحداث قاعدة "سديه تيمان"، حيث اعتقلت الشرطة العسكرية تسعة من جنود الاحتياط بتهمة أغتصاب أسير فلسطيني. وقد فجّرت هذه الواقعة موجة من الغضب داخل صفوف الحركة، ترافقت مع احتجاجات واسعة أمام القاعدة العسكرية، تخللتها دعوات إلى العصيان والتصعيد. في موازاة ذلك، تسعى الحركة إلى توسيع نفوذها في المجال العام من خلال العلاقة مع السياسيين، عبر الضغط لتمرير قوانين تمنح امتيازات أكاديمية لجنود الاحتياط، ومعاقبة المؤسسات التعليمية التي لا تُظهر دعماً علنياً لهم.
وتُعدّ "مظاهرة النصر" التي نُظّمت مساء يوم الخميس 8 شباط 2024 أمام مجمّع الوزارات في القدس، أبرز تجلّيات هذا التوجّه. فقد شارك فيها آلاف المواطنين، بعضهم وهو يرتدي قمصاناً برتقالية كُتب عليها "نعود إلى قطاع غزة"، وكانوا يرفعون لافتات تنادي بـ"النصر الكامل" و"تحقيق وصية الشهداء". وتضمنت الشعارات المرفوعة دعوات صريحة إلى تكثيف الضغط العسكري على حركة حماس كوسيلة وحيدة لاستعادة الأسرى من غزة.[6]
الرؤية في التعامل مع حزب الله
ترى الحركة أنه وفي ظل تزايد التحديات التي تواجهها إسرائيل في خوض حروب طويلة الأمد، لا سيما ما يتعلق بالتآكل التدريجي لقدراتها القتالية والتوترات المتصاعدة في جبهتها الداخلية، تبدو الحاجة إلى استراتيجية حاسمة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. كما ترى أنه بالرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبدها، يظل حزب الله يمثل تهديداً استراتيجياً بالغ الخطورة، كذراع عملياتية متقدمة لإيران في الجبهة الشمالية. وقد فاقم من هذا التهديد استمرار تهجير ما يقارب 100 ألف مستوطن من شمال إسرائيل، من دون أي أفق واضح لعودتهم إلى ديارهم.[7]
انطلاقاً من هذا السياق، ترى الحركة ضرورة حسم المواجهة عبر تحقيق نصر سريع وقاطع، يفضي إلى تغيير نوعي في المعادلة الإقليمية، ويعزز من الردع الإسرائيلي تجاه محور المقاومة. وترتكز هذه الرؤية على إنشاء منطقة أمنية عازلة دائمة تمتد حتى نهر الليطاني بعمق 10 كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية، وعلى "تطهير جنوب لبنان بالكامل من تواجد حزب الله". ويتطلب تنفيذ هذه الخطة شنّ ضربة جوية كبيرة ومركزة تعقبها مناورة برية واسعة النطاق لفرض السيطرة العملياتية على الأرض، وكل ذلك بالتوازي مع تثبيت وجود عسكري ضمن حزام أمني مستقر، بجانب دعم الأطراف اللبنانية المعارضة لحزب الله سياسياً وعسكرياً، بما يهيئ بيئة محلية طاردة له.
[1] جيني زراح، "مجتمع جنود الاحتياط – جيل النصر: 'حيثما يوجد فراغ، نكون هناك من أجل الدولة"، موقع أشدود نت، 30 أيار (مايو) 2024. https://2h.ae/IUWN
[2] للمزيد أنظر/ي الموقع الرسمي لحركة جيل النصر عبر الإنترنت. https://www.miluimnikim.org.il/
[3] روني غرين شاؤولوف. "آلاف في تظاهرة في القدس: 'وصية الشهداء – الاستمرار حتى النصر الكامل"'، يديعوت أحرنوت، 8 شباط 2024. https://www.ynet.co.il/news/article/rjk7apfo6
[4] للمزيد أنظر/ي الموقع الإلكتروني الرسمي للحركة عبر شبكة الإنترنت
[5] ليزا روزوفسكي، "الجامعات تطالب بإزالة حملة تدّعي أنها تميز ضد جنود الاحتياط مقارنة بالعرب"، هآرتس، 26 كانون الأول 2024. https://2h.ae/bTsF
[6] روني غرين شاؤولوف، مصدر سابق.
[7] للمزيد أنظر/ي الموقع الإلكتروني الرسمي للحركة عبر شبكة الإنترنت.