المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

نواصل هنا عرضنا للمفاهيم المركزية والأبرز التي شكلت قاعدة الرؤية الأمنية ـ السياسية الإسرائيلية التي يتعمق الإجماع الإسرائيلي على حقيقة أنها مُنيت بالفشل الذريع، بل بالانهيار التام، والتي تتزايد وتتعالى الأصوات الداعية إلى إعادة النظر فيها، لكن بعد صبّ الجهد بداية على تحديدها، من منطلق القناعة بأن تحديد تلك المفاهيم هو الخطوة الأولى التي لا مناص منها في مسيرة إعادة ترميم ما ينبغي ترميمه في العقيدة السياسية والأمنية الإسرائيلية، ثم في إعادة هيكلة الأجهزة، المنظومات والأذرع المكلفة بتطبيق هذه العقيدة في المستقبل.

يأتي هذا العرض استناداً إلى ما طرحه المشروع المشترك الذي أطلقته "مؤسسة بيرل كتسنلسون"، التي تضع لها شعاراً يقول "نبني أسساً طويلة الأمد لمعسكر المساواة في إسرائيل"، و"مركز مولاد لتجديد الديمقراطية في إسرائيل"، تحت عنوان "انهيار المفاهيم ـ الطريق إلى إخفاق 7 أكتوبر 2023"، وسعى إلى خارطة تفصيلية بهذه المفاهيم التي انهارت، فقادت بنفسها وبانهيارها إلى الإخفاق. وكنا قد عرضنا من قبل لثلاثة من المفاهيم المركزية العشرة التي حددتها تلك الخارطة، وكان آخرها مفهوم "مَن بحاجة إلى الولايات المتحدة والغرب" ـ "الابتعاد عن أميركا والغرب واستبدالهما بأصدقاء جُدُد". ونعرض، في هذه الحلقة، للمفهوم المركزي الرابع في تلك القائمة وهو "إمكانية تحقيق سلام بدون الشعب الفلسطيني". أما المفاهيم الخمسة الأخرى فهي: 5. ثمة جيش كافٍ للجميع؛ 6. اليمين قوي في الأمن؛ 7. الحوكمة هي الأساس؛ 8. لا حاجة إلى قطاع ثالث قوي؛ 9. التحريض لا يُضعف الأمن؛ 10. بالإمكان القيادة تحت عبء لوائح اتهام.

تحطّمت الخدعة فتعرّى الوهم!

تبدأ مراجعة مفهوم "السلام بدون الفلسطينيين" من الإشارة التهكمية إلى أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، "كان قد ظنّ أنه قد اجترح خدعة عبقرية تقول إنه بالإمكان تجاهل الصراع مع الفلسطينيين وعقد اتفاقيات سلام مع دول عربية مختلفة. وقد فاخَر نتنياهو حتى بالاسم الذي أطلقه على خدعته تلك ـ "السلام مقابل السلام"- عِوضاً عن الشعار الذي حكم الصراع مع الشعب الفلسطيني وهو: "الأرض مقابل السلام". لكن في يوم 7 تشرين الأول، تبين لنا جميعاً، بمزيد الدم والألم، ما قيمة تلك الخدعة"!

يتوقف معدّو هذه الوثيقة عند محطات مركزية في مسار هذه الخدعة، منذ ادعاء نتنياهو بأنه قد "استحدث أسلوباً فذّاً ولامعاً لمواجهة الإرهاب الفلسطيني وإثبات عدم جدواه، بل مردوده المأساوي على أصحابه فقط"، وذلك بالسعي الحثيث ـ ثم التطبيق الفعلي ـ إلى التوقيع على اتفاقيات سلام مع دول عربية مختلفة، وسط التجاهل التام والمطلق للقضية الفلسطينية، إلى أن "جاء يوم السبت الأسود (7 تشرين الثاني 2023) وتحطمت هذه الخدعة الخطيرة فتعرّى وهم تحقيق السلام مع الدول العربية بالقفز عن القضية الفلسطينية ودفنها".

أولى تلك المحطات في العام 1995 حين نشر نتنياهو كتابه المعنون بـ "مكان تحت الشمس" وادعى فيه بأن إسرائيل سوف توقع على اتفاقيات سلام مع دول المنطقة وسط التغاضي عن الفلسطينيين وبأنهم، في نهاية المطاف، سوف "يستسلمون ويتنازلون عن تطلعاتهم الوطنية". ثم جاءت المحطة الثانية في كانون الثاني 2020 حين عرض نتنياهو والرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، مشروع "صفقة القرن" التي تناقش مصير المناطق الفلسطينية وتقررها لكن بمعزل عن الفلسطينيين أنفسهم ودون مشاركتهم. ثم جاء التوقيع على "اتفاقيات أبراهام" في أيلول 2020 بين إسرائيل ودولتيّ الإمارات العربية المتحدة والبحرين، ثم انضمت إليهما لاحقاً كل من السودان والمغرب.

في كتابه "قصة حياتي"، الذي صدر في تشرين الأول 2022، عاد نتنياهو ليؤكد ثباته وإصراره على فكرته/ خدعته "العبقرية" إياها فكتب: "إن الطريق إلى السلام لا تمرّ عبر رام الله وإنما تتجاوزها"! وبعد ذلك بشهرين اثنين، في كانون الأول 2022، أدت حكومة نتنياهو السادسة اليمين الدستورية في الكنيست وجرى التصويت على منحها الثقة لمباشرة مزاولة مهامها. في "الخطوط العريضة" لسياستها المستقبلية وفي الاتفاقيات الائتلافية التي تم التوقيع عليها لتشكيل هذه الحكومة، لم يرد أي ذكر لأي مفاوضات سياسية مع الشعب الفلسطيني.

في آب 2023، تحدث نتنياهو في عدد من اللقاءات الصحافية إلى عدد من وسائل الإعلام المركزية في الولايات المتحدة. وفي جميع تلك المقابلات، التي ركزت أساساً على المساعي الحثيثة التي كانت تجري آنذاك، برعاية ووساطة أميركيتين، للتوقيع على اتفاقية سلام بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، كرر نتنياهو جملة شكلت إحدى حججه الأساسية لإثبات مفهومه عن "السلام بدون الفلسطينيين" فقال: "في المفاوضات مع السعودية، الفلسطينيون لا يشكلون أكثر من بند وحيد ينبغي أن نضع بجانبه شارة الإنجاز (v)". ثم في الشهر التالي مباشرة، أيلول 2023، ألقى نتنياهو خطاباً أمام الهيئة العامة للأمم المتحدة أعلن في سياقه: "اتفاقية السلام الوشيكة بين إسرائيل والسعودية سوف تُنهي الصراع الإسرائيلي ـ العربي". وخلال خطابه ذاك، عرض نتنياهو على الجمعية العامة خارطة للشرق الأوسط... خالية من أي ذكر أو حضور أو وجود للشعب الفلسطيني! وحين طالب الرئيس الأميركي، جو بايدن، في مطلع تشرين الأول 2023، بتضمين الاتفاق مع السعودية بعض المكرمات تجاه الفلسطينيين، رد نتنياهو عليه بالقول: "رئيس بلدية رام الله (أبو مازن) لن يقرر تفاصيل الاتفاق". لكن مع اندلاع الحرب الإسرائيلية التدميرية ضد قطاع غزة، وجدت السعودية نفسها مضطرة إلى تعليق الاتصالات مع إسرائيل والمطالبة بـ "اتفاقية عادلة وشاملة مع الفلسطينيين"، ناهيك عن التوتر الذي فرضته مجريات الحرب التدميرية الإبادية ضد قطاع غزة على العلاقات مع دول عربية أخرى، في مقدمتها مصر والأردن.

"وكأنّ الفلسطينيين غير موجودين البتّة"

خلال سنوات عديدة، أصرت الحكومات الإسرائيلية برئاسة نتنياهو على رفض التقدم في أي مفاوضات سلام مع الفلسطينيين. في بداية عهده في رئاسة الحكومة، كان نتنياهو يعزو حالة الجمود السياسي إلى مبررات مختلفة، من بينها على سبيل المثال "عدم اعتراف الفلسطينيين بدولة إسرائيل كدولة يهودية/ كدولة للشعب اليهودي" أو الادعاء بأن "إخلاء المستوطنات" (الذي لا يمكن قيام دولة فلسطينية بدونه) سيكون بمثابة "تطهير عِرقي لليهود". لكن في مقابل مشروع "معسكر السلام الإسرائيلي" الداعي إلى تطبيق "حل الدولتين" لإنهاء الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، والذي حظي بتأييد دولي لافت (ولو على المستوى التصريحي على الأقل، دون اتخاذ خطوات وإجراءات فاعلة لفرض تطبيقه!)، بقي تيار اليمين المركزي بزعامة نتنياهو عاجزاً عن طرح أي فكرة بديلة أو طريقة للالتفاف على المطلب الفلسطيني بإخلاء المستوطنات، إلى أن توصل نتنياهو إلى اجتراح "عصاه السحرية" الخاصة: لمَ التورط في عملية سلام مع الفلسطينيين، يكون في مركزها إخلاء مستوطنات إسرائيلية، طالما كان بالإمكان تحقيق السلام بدونهم؟ وكنت النتيجة العملية المباشرة لهذا التوجه الجديد ـ التوقيع على "اتفاقيات أبراهام" مع دولتيّ الإمارات العربية المتحدة والبحرين، في العام 2020. 

عشية التوقيع على تلك الاتفاقيات، تباهى نتنياهو بأنه "حقق اتفاقية تاريخية تشكل اختراقاً لفكرة أننا مُجبرون على اقتلاع مستوطنات وإلا فلن نتوصل إلى أي اتفاق مع أي دولة عربية". وأضاف، في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي في 16 آب 2020: "حطّمنا هذه النظرية الفظيعة والخطيرة"، ثم أطلق على "نظريته الجديدة" اسم "السلام مقابل السلام". وأوضح إنه إذا كانت الدول العربية تشترط في الماضي التوقيع على اتفاقيات مع إسرائيل، أو حتى تحقيق أي تقدم في هذا المسار، بأن تقوم إسرائيل بالانسحاب من مناطق معينة، فقد أصبح من الممكن الآن التوقيع معها على اتفاقيات رسمية "وكأنّ الفلسطينيين غير موجودين البتّة".

هكذا، استطاع نتنياهو أن ينشر بين قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي الوهمَ أنه بالإمكان الإبقاء على الوضع القائم لسنوات عديدة قادمة وليس ثمة ما يستدعي أي تحرك فعلي في اتجاه السلام مع الفلسطينيين، لأن أمن إسرائيل القومي لا يتقرر في الضفة الغربية أو في قطاع غزة وإنما في عدد من الدول العربية، وفي مقدمتها الدول الخليجية.  

غير أنّ ثمة حقيقة أساسية في هذا السياق غابت عن وعي الحكومات الإسرائيلية، وكذلك عن الجمهور الإسرائيلي عموماً أو غُيِّبَت عنه، مؤداها أن التقارب الذي حصل خلال السنوات الأخيرة بين إسرائيل وبعض دول المنطقة، وسط تغييب الشعب الفلسطيني وتجاهل قضيته وحقوقه، لم يكن ممكناً أصلاً لولا حالة الهدوء التي سادت في الضفة الغربية وفي قطاع غزة. كان أصدقاء نتنياهو وشركاؤه من الحكام العرب يفترضون ـ بحسب ما يسجله معدو الوثيقة ـ أن إسرائيل قادرة على المحافظة على الهدوء ومنع اندلاع أي موجات عنف على الساحة الفلسطينية، مما سيعفيهم بالتالي من مواجهة أي تحدٍّ يخص الرأي العام المحلي في بلدانهم. وبالفعل، هذا ما تحقق لسنوات غير قليلة مما "أقنع إسرائيل وشريكاتها العربيات بفرضية أن لا علاقة بين القضية الفلسطينية ومنظومة العلاقات بينها".

هذا الوهم، أيضاً، بدأ يتصدع فور تشكيل حكومة نتنياهو الأخيرة ـ الحالية بالشراكة مع إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، مما دفع بعض الدول الخليجية إلى الشروع في إعادة النظر في التحالف مع إسرائيل، وخاصة على خلفية التصريحات المتواترة من قلب هذه الحكومة ووزرائها البارزين بشأن السعي إلى ضم المناطق الفلسطينية إلى السيادة الإسرائيلية وتغيير الوضع الذي كان قائماً حتى ذلك الحين في الحرم القدسي الشريف والمسجد الأقصى المبارك. وتزامن ذلك، تماماً، مع استطلاعات للرأي العام في الدول العربية كشفت عن معارضة شديدة للتطبيع مع إسرائيل تنطلق من القناعة بأن "الأنظمة التي وقعت على اتفاقيات سلام مع إسرائيل قد باعت الفلسطينيين"!

لكنّ مفهوم/ وهم "السلام مقابل السلام" قد انهار تماماً، كلياً ونهائياً، يوم 7 تشرين الأول 2023. في البداية انهار وهم أن بإمكان إسرائيل السيطرة على "لهيب الصراع" مع الفلسطينيين والتحكّم به. ثم انهار، تالياً، وهم أن تصعيد هذا الصراع لن يمسّ بمصالح دول المنطقة، بما فيها الدول التي تقيم علاقات منذ سنوات عديدة مع إسرائيل، مثل مصر والأردن. وإلى ذلك، ينبغي أن يُضاف أيضاً تأثير التطبيع على الصراع نفسه، من حيث أن التقارب بين إسرائيل والسعودية "قد عزز استعداد حماس، بتشجيع إيراني، للمبادرة إلى عملية تصعيدية تقطع الطريق على هذا التقارب"، وهو ما يسجله معدّو هذه الوثيقة استناداً إلى "بعض المصادر"، كما يسمونها، مشيرين من بينها تحديداً إلى ما صرح به الرئيس الأميركي، جو بايدن، يوم 21 تشرين الأول الماضي، عن أنّ "أحد الأسباب التي دفعت حماس إلى شن هجومها على إسرائيل يوم 7 تشرين الأول هو محاولة تشويش مساعي التطبيع المحتمل بين إسرائيل والسعودية".

لم يكن نتنياهو يحاول ـ برأي معدّي الوثيقة ـ تقزيم القضية الفلسطينية من أجل تحقيق السلام مع دول المنطقة، وإنما كان يحاول صنع السلام مع هذه الدول من أجل إخفاء القضية الفلسطينية عن الوجود وتجنب أي حاجة إلى أي اتفاق سياسي بشأنها. "لكن نتائج هذه المحاولات ظهرت جيداً في أحداث 7 تشرين الأول التي كشفت حجم ومدى خطورة الوهم/ الخدعة التي عنونها بالسلام مقابل السلام".

وتشدد الوثيقة، في خلاصة الحديث عن انهيار مفهوم "السلام بدون الفلسطينيين"، على حقيقة أنه من المبكر الآن تقييم الأضرار الني ألحقتها أحداث 7 تشرين الأول والحرب التدميرية التي تلتها بمساعي التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي، إلا أنّ "ثمة شيئاً واحداً قد أصبح في منتهى الوضوح الآن، هو: أن أكذوبة السلام مقابل السلام قد أصبحت جزءاً من التاريخ. أما من الآن فصاعداً، فلم يعد في وسع أي طرف في هذه المنطقة التصرف وكأن الفلسطينيين غير موجودين. وحتى لو لم تطرح الجامعة العربية مبادرة سلام جديدة، على غرار تلك التي طرحتها في العام 2002، فإن الدول الأعضاء فيها ستكون شريكة، على الأقل، في الجهود الجارية من أجل منع التصعيد"!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات