المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في موازاة حرب التدمير والإبادة التي تواصل إسرائيل شنّها ضد قطاع غزة للأسبوع السادس على التوالي، تزداد اتساعاً، يوماً بعد يوم، دائرة وحدّة الأصوات الداعية في إسرائيل إلى تحديد المفاهيم المركزية التي شكلت قاعدة الرؤية الأمنية ـ السياسية الإسرائيلية التي يسود الإجماع على حقيقة أنها مُنيت بالفشل الذريع، بل بالانهيار التام، انطلاقاً من القناعة بأن تحديد تلك المفاهيم هو الشرط الأول والضروري في مسيرة إعادة ترميم ما ينبغي ترميمه في العقيدة السياسية والأمنية الإسرائيلية، ثم في إعادة هيكلة الأجهزة، المنظومات والأذرع المكلفة بتطبيق هذه العقيدة في المستقبل.

وقد أشرنا من قبل إلى أن في مقدمة هذه الأصوات مشروعاً مشتركاً أطلقته مؤخراً مؤسستان بحثيتان إسرائيليتان هما "مؤسسة بيرل كتسنلسون"، التي تضع لها شعاراً يقول "نبني أسساً طويلة الأمد لمعسكر المساواة في إسرائيل"، و"مركز مولاد لتجديد الديمقراطية في إسرائيل". والمشروع، الذي يأتي تحت عنوان "انهيار المفاهيم ـ الطريق إلى إخفاق تشرين الأول/ أكتوبر 2023"، يتوخى رسم خارطة تفصيلية بهذه المفاهيم التي انهارت، فقادت بنفسها وبانهيارها إلى الإخفاق. وتشمل هذه الخارطة عشرة مفاهيم أساسية هي التالية: 1. إدارة الصراع؛ 2. تقوية حماس؛ 3. من بحاجة إلى الولايات المتحدة والغرب؟؛ 4. سلام بدون الفلسطينيين؛ 5. ثمة جيش كافٍ للجميع؛ 6. اليمين قوي في الأمن؛ 7. الحوكمة هي الأساس؛ 8. لا حاجة إلى قطاع ثالث قوي؛ 9. التحريض لا يُضعف الأمن؛ 10. بالإمكان القيادة تحت عبء لوائح اتهام.

وكنا قد عرَضنا هنا رؤية هذا المشروع فيما يتعلق بالمفهومين الأولين ـ إدارة الصراع وتقوية حماس باعتبارهما المفهومين المركزيين اللذين انهارا وأدى انهيارهما إلى هذا الإخفاق المريع. ونعرض فيما يلي للمفهوم الثالث في هذه القائمة ـ من بحاجة إلى الولايات المتحدة والغرب؟  

بداية الانزياح وبوادره الأولى

يشدد مُعدّو وثيقة المفاهيم هذه على أن السمة المركزية الأبرز في السياسة الخارجية التي اعتمدتها حكومات بنيامين نتنياهو كلها تتمثل في الاستهتار المستمر بالدول الحليفة لإسرائيل في الغرب، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية بالطبع، مقابل الانحياز والتقرّب نحو قادة الدول الذين اصطفوا في المحور المعادي لليبرالية، وأبرزهم ـ وفق التشخيص ذاته ـ فلاديمير بوتين (روسيا) وجايير بولسونارو (البرازيل) وفيكتور أوربان (هنغاريا). ظهرت بوادر هذا التحول في السياسة الخارجية الإسرائيلية بُعيد عودة نتنياهو إلى الحكم في العام 2009، إذ بدأ يُبعد إسرائيل عن حلفائها التقليديين ويُقرّبها من المحور المضاد.

تستعرض الوثيقة محطات رئيسة في هذا التحوّل تبدأ أوائل العام 2010 ـ بعد أشهر من عودة نتنياهو إلى الحكم ـ حين عقد عدد كبير من أعضاء الكنيست من الأحزاب اليمينية في إسرائيل لقاءات علنية واسعة مع قادة أحزاب اليمين المتطرف في عدد من الدول الأوروبية، خارقين بذلك مقاطعة إسرائيلية غير رسمية وغير معلنة لتلك الأحزاب التي تحمل الكثير منها سِمات لاسامية ولها جذور فاشية. وفي العام 2015 يُحدث نتنياهو الشرخ الأول وغير المسبوق في العلاقة بين إسرائيل والحزب الديمقراطي الأميركي حين ألقى خطاباً في اجتماع مشترك لمجلسيّ النواب والشيوخ الأميركيين، على الرغم من معارضة الرئيس الأميركي آنذاك، باراك أوباما، لهذه الخطوة. وفي تموز 2017، شارك نتنياهو في مؤتمر "مجموعة فيشغراد" (تحالف ثقافي وسياسي لأربع دول في وسط أوروبا هي التشيك، المجر، بولندا وسلوفاكيا، الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو) وألقى خطاباً في المؤتمر شنّ فيه هجوماً حاداً ضد الاتحاد الأوروبي الذي "يتآمر على دولة إسرائيل"، كما قال.

بين هذه وتلك، شارك نتنياهو في حفلين رسميين لتنصيب كل من فيكتور أوربان وجايير بولسونارو في هنغاريا والبرازيل إلى جانب مجموعة من أبرز قادة محور معاداة الليبرالية، وسط غياب جميع قادة الدول الغربية المصنّفة في "المحور الليبرالي". وفي نيسان 2019، في خضم معركة الانتخابات العامة في إسرائيل، وضع حزب الليكود على مقره المركزي في تل أبيب يافطات كبيرة الحجم ظهر فيها زعيمه ومرشحه لرئاسة الحكومة، نتنياهو، في صورة واحدة مع فلاديمير بوتين ودونالد ترامب وفوقها الشعار الانتخابي المركزي: "نتنياهو، قائد من فئة أخرى". وفي كانون الثاني 2020 استقبل نتنياهو بوتين في القدس وقال في خطابه الترحيبيّ: "أريد أن أرحّب بصديقنا الكبير، الرئيس الروسي، وأن أشكره على هذه العلاقات الشجاعة معنا". وخلال العقد الأخير، زار نتنياهو موسكو عشر مرات على الأقل. وفي كانون الثاني 2023، اقترح مئير روبين، مدير جمعية "منتدى كوهيلت" ("نحن دماغ اليمين الإسرائيلي، معظم ما يقوم به اليمين يأتي من خلالنا"- على حد توصيف موشيه كوبل، رئيس الجمعية) على الحكومة الإسرائيلية "التوقف عن تلقي المساعدات الأمنية من الولايات المتحدة والبحث عن دولة حليفة أخرى في العالم". وفي شباط 2023، شن "وزير المنافي"، عميحاي شيكلي (الذي انتقل من "البيت اليهودي" بزامة نفتالي بينيت إلى الليكود)، هجوماً شخصياً حاداً على السفير الأميركي في إسرائيل وقال، مخاطباً إياه: "كفاكم تدخلاً في شؤون إسرائيل الداخلية". وفي الشهر التالي، آذار 2023، قال وزير الأمن القومي وزعيم حزب "عوتسما يهوديت"، إيتمار بن غفير، إن "إسرائيل ليست نجمة إضافية أخرى في العَلَم الأميركي"، فيما قال عضو الكنيست نيسيم فاتوري (من الليكود): "نعرف كيف ندافع عن أنفسنا حتى بدون الولايات المتحدة". وفي تموز 2023، وعلى خلفية التوتر الشديد الذي خيم على العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وإسرائيل ـ على خلفية إصرار نتنياهو وائتلافه الحكومي على الاستمرار في تشريع قوانين "الانقلاب القضائي" ـ أعلن نتنياهو أنه سيقوم بزيارة رسمية إلى الصين وأرفق ذلك بصورة شخصية له يحمل نسخة موقعة من كتاب الرئيس الصيني، شي جين بينغ. وفي أيلول 2023 التقى نتنياهو الرئيس الأميركي، جو بايدن، على هامش اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة في نيويورك، لكنّ البيت الأبيض أصرّ على عدم دعوة نتنياهو إلى البيت الأبيض.

"أصدقاء نتنياهو واليمين الجُدُد أعداء لإسرائيل"

الرسالة المركزية التي أراد نتنياهو بثها كانت، بحسب تحليل هذه الوثيقة، واضحة ومفادها أنه (نتنياهو) هو "سيد الدبلوماسية" الذي سيبني لإسرائيل شبكة جديدة من التحالفات والحلفاء مع قادة غير ليبراليين في مختلف أنحاء العالم فيقود إسرائيل نحو عهد جديد في الساحة الدولية وفي علاقاتها الدولية بحيث لا تبقى "أسيرة العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة والغرب". وخلال السنوات الـ 14 الأخيرة، أوصل نتنياهو العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة تحديداً إلى حضيض غير مسبوق منذ إنشاء دولة إسرائيل، وذلك ـ أساساً ـ بخرقه إحدى المسلمات البديهية الأساسية التي تصرف بموجبها جميع رؤساء الحكومات الإسرائيلية السابقة، سواء كانوا من اليمين أو من "اليسار"، فحوّل الدعم الأميركي لإسرائيل من مسألة تحتل قلب الإجماع في السياسة الأميركية إلى مسألة خلافية ومثير للانقسام.

هذا السلوك "عديم المسؤولية"، كما تصفه الوثيقة، ألحق بإسرائيل أضراراً جسيمة تمثل بعضها في فقدان دراماتيكي للتأييد الذي كانت تحظى به، سواء بين منتخَبي الحزب الديمقراطي أو بين يهود الولايات المتحدة الذين يؤيد معظمهم هذا الحزب. وقد بينت نتائج استطلاعات للرأي في الولايات المتحدة خلال الأشهر الأخيرة أن "تأييد الجيل الشاب هناك لدولة إسرائيل هو أقل بكثير مما كان عليه في الماضي، بسبب سياسة حكومات اليمين".

غير أنّ يوم السابع من تشرين الأول 2023 والحرب التي تلته "كشفت حقيقة مؤلمة هي: "أن الاستراتيجية الدبلوماسية التي اعتمدتها حكومات اليمين شكلت فشلاً مدويّاً". فقد تبين أن جميع أصدقاء اليمين الإسرائيلي الجُدُد هم ليسوا أكثر من "جدار مائل" لا يمكن الاعتماد ولا التعويل عليه، بل إن بعضهم "اختار الاصطفاف العلني إلى جانب حركة حماس، بينما اكتفى آخرون بالتنديدات الخجولة". أما نجما حملة الليكود الدعائية في انتخابات 2019، فقد "برزا بشكل خاص في مدى العدائية التي أظهراها تجاه إسرائيل في أيامها الأقسى عبر تاريخها": فقد استغل دونالد ترامب خطاباً ألقاه أمام مؤيدين له بعد 7 تشرين الأول بأيام قليلة لكيل المدائح لحزب الله اللبناني والتهكم على الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بينما رفض بوتين بإصرار التنديد بعمليات القتل والخطف في بلدات "غلاف غزة" ثم استخدم حق النقض (الفيتو) الروسي لإحباط مشروع قرار لإدانة حركة حماس في مجلس الأمن الدولي وبعد "السبت الأسود" بثلاثة أسابيع، استقبل في موسكو وفداً عن حركة حماس.

في المقابل، كانت الدول الغربية الحليفة لإسرائيل تقليدياً ـ تلك التي تعرضت للهجوم من جانب نتنياهو وحلفائه ـ أول من هب لدعم إسرائيل في مأزقها، بالتصريحات وبالأفعال. فبينما وقفت روسيا مدافعة عن حماس، أرسلت الولايات المتحدة إلى المنطقة قوات عسكرية هائلة، شملت أيضاً حاملتي طائرات وقطاراً جوياً للتجهيزات والمنظومات الدفاعية المتطورة، بما في ذلك لردع حزب الله من مهاجمة إسرائيل. وبينما رفضت الصين التنديد بما حصل في "يوم السبت الأسود"، أعلن البرلمان الأوروبي عن "دعمه الكامل لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وتلا ذلك سلسلة من زيارات الدعم والتأييد التي قام بها إلى إسرائيل عدد من قادة الدول الغربية، وفي مقدمتها فرنسا وإيطاليا وإنكلترا، علاوة على الرئيس الأميركي جو بايدن ووزيريّ الخارجية والدفاع في إدارته، في أعقاب "خطاب التأييد والدعم التاريخي الذي ألقاه والذي سوف تتذكره أجيال كثيرة قادمة".

في المحصلة النهائية، وفي غضون ساعات قليلة، "شهدنا الانهيار التام للمفهوم والتوجه الدبلوماسيين اللذين ارتكزت عليهما حكومات اليمين وقادتهما خلال العقد ونصف العقد السابقين"، حين حاولت إبعاد إسرائيل عن حليفاتها التقليدية في الغرب، والتي اعتُبرت "ليبرالية أكثر مما يجب"، واستبدالها بـ"دول غير ديمقراطية تساند منظمات الإرهاب في المنطقة (مثل روسيا والصين) ودول يقودها زعماء غير ليبراليين (مثل هنغاريا، الهند والبرازيل)".

وينتهي معدّو الوثيقة إلى تسجيل الخلاصة التالية: ثمة وراء هذا التحوّل التاريخي الذي سعت حكومات نتنياهو إلى تحقيقه في علاقات إسرائيل الخارجية دافعية بسيطة هي: لا أحد من هؤلاء "الأصدقاء الجُدد" يبدي أي اهتمام أو قلق بشأن الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، أو ينتقد سياسات الحكومة (الإسرائيلية) في المناطق الفلسطينية المحتلة أو يهتم ببقاء إسرائيل دولة ديمقراطية. "بكلمات أخرى، كان نتنياهو يبحث لنفسه عن شركاء سياسيين مريحين، حتى ولو بثمن المس بأمن إسرائيل القومي".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات