المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

منذ بدء الحرب الإسرائيلية الحاليّة على قطاع غزة التي جرى شنّها في إثر الهجوم المباغت لحركة حماس على مواقع عسكرية في منطقة الحدود مع قطاع غزة، وعلى ما يعرف باسم "بلدات غلاف غزة"، يوم 7 تشرين الأول الماضي، طفت على السطح عدة مقارنات مع حروب إسرائيلية أخرى. وتشكّل هذه المقارنات، من دون ريب، ردّة فعل على واقع يتسم بالصراع من جهة وبالحروب التي يمكن اعتبارها دوريّة من جهة أخرى، كما أنّها تمثّل استجابة لهواجس وتطلعات ومواقف محددة من طرف هذا الباحث والمحلل أو ذاك.

ولعلّ أول مقارنة صادفناها كانت مع حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 ("حرب يوم الغفران" في تسميتها الإسرائيلية)، وما انطوت عليه من مفاجأة (علماً بأن ثمة من ينفي عامل المفاجأة عن حرب 1973 من خلال توكيد أن إسرائيل كانت على علمٍ مسبقٍ بها وفقًا للمعلومة التي أحضرها رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي في حينه، تسفي زامير)، وكذلك من إخفاق استخباراتي مع الإشارة إلى أن التقصير أو الإخفاق في 1973 كان من نصيب فرع واحد في مؤسّسة الاستخبارات (شعبة الاستخبارات العسكرية- "أمان")، في حين أن الإخفاق في أكتوبر 2023 هو لهذه المؤسّسة برمتها التي لم تكن في حيازتها أي ذرّة من المعلومات عن نيّة حركة حماس.

وما زالت المقارنات تترى. ومن آخرها المقارنة بين الحرب الحالية والحرب ضد الفلسطينيين في لبنان العام 1982 والتي أصبحت تحمل اسم حرب لبنان الأولى بعد العام 2006 الذي شهد اندلاع حرب لبنان الثانية.

ويعود سبب هذه المقارنة، كما ينوّه مثلا المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل (17/11/2023)، إلى أن تلك الحرب أيضاً خاضها الجيش الإسرائيلي ضد منظمة فلسطينية (منظمة التحرير الفلسطينية) دأبت الحكومة الإسرائيلية على وصفها بأنها "إرهابية"، واندلعت في ظل خلافات داخلية حادّة استمرّت في أثناء الحرب وكان من نتائجها اغتيال أحد ناشطي السلام (إميل غرينتسفايغ) خلال مشاركته في تظاهرة احتجاج ضد الحرب على يدي ناشط يميني متطرف.  كما يعود إلى ما يمكن نعته بأنه الإسرائيلي البشع الذي ينجلي الآن في صورته الحقيقية في كل ما يخص الموقف من فلسطين والفلسطينيين، مثلما تثبت أمثلة يصعب أن نحصرها يؤكد معظمها أن السردية الأصح هي أن إسرائيل لا تحارب "منظمة إرهابية" بل "دولة إرهابية" هي غزة، كما كتب مثلاً اللواء احتياط غيورا أيلاند، الرئيس السابق لشعبة "أمان" ومجلس الأمن القومي الإسرائيلي ("يديعوت أحرونوت"، 19/11/2023). وبرأيه دولة غزة بالفعل تقودها حماس، وهذه الحركة نجحت في تجنيد كل مقدرات دولتها، من حيث تأييد معظم سكانها وولاء كل كوادرها من المدنيين لزعامة يحيى السنوار، إلى جانب التأييد الكامل لأيديولوجيته. وبهذا المفهوم باتت غزة، في قراءته، شبيهة جداً بألمانيا النازية، التي جرت فيها سيرورة مماثلة أيضاً. ولما كان هذا هو الوصف الدقيق للوضع فمن الصحيح إذاً إدارة الحرب والقتال بما يتناسب مع ذلك.

وبرأي أيلاند، الذي لا شك في أنه يعبّر عن شريحة واسعة جدّاً من الإسرائيليين، يُحظر بتاتاً تبنّي السرديّة الأميركية التي تجيز لإسرائيل أن تحارب مقاتلي حماس فقط بدلاً من أن تقوم بـ "الأمر الصحيح والمطلوب"، وهو القتال ضد كل منظومة الخصم، لأن انهيارها المدني من شأنه أن يقرب نهاية الحرب. وكتب حرفيّاً ما يلي: "عندما يقول المسؤولون الإسرائيليون في وسائل الإعلام ’إما نحن وإما هم’ فمن الصواب تحديد السؤال من نقصد بـ’هم’؟ إن ’هم’ ليسوا مقاتلي حماس الذين يحملون السلاح فقط، إنما كل السلك الوظيفيّ ’المدنيّ’ بمن في ذلك مديرو المستشفيات والمدارس، ونعم، كل السكان الغزيين أيضاً الذين أيدوا بحماسة حركة حماس وما أقدمت عليه من أفعال فظيعة في السابع من أكتوبر"!

وبالعودة إلى الحرب ضد الفلسطينيين في لبنان العام 1982، كان من بين الأمور التي شهدها الوسط الثقافي والصحافي في إسرائيل في أثنائها وفي عقبيها، مثلما يعيد هرئيل إلى الأذهان، جدل واسع بشأن دور الكاتب والصحافي في المعركة، ومدى فاعلية ما ينتجه كل منهما في تجنيب الجمهور العريض مظاهر حبلى بالكوارث من خلال التنبيه إلى عوامل من شأنها التعجيل بولادة تلك الكوارث وجعلها منتصبة على حوافر سوداء. ولمحدودية المساحة يمكن الإشارة، في معرض استكناه مستحصلات ذلك الجدل، إلى "رحلة تقصّ" قام بها الكاتب عاموس عوز، ونشر انطباعاته عنها في ملحق صحيفة "دافار"، ثم صدرت مجتمعة في كتاب في خريف 1982 تحت عنوان "هنا وهناك في أرض إسرائيل" (المقصود أراضي 1948 و1967).

وبدا جليّاً من فصول الكتاب في حينه، كما تناولناه في أكثر من مناسبة، أن الحرب المذكورة على لبنان أوقعت عوز في أزمة حادّة حاول مواجهتها عبر سبر غور المجتمع الذي قال إنه يتحمل المسؤولية كاملة عن تلك الحرب وموبقاتها، وارتأى أن يفعل ذلك عن طريق إبراز ما تراكم من مستجدات على الصعيد الإسرائيلي في إثر ما أسمي في القاموس السياسي الإسرائيلي بـ "انقلاب 1977"، والمقصود صعود حزب الليكود إلى سدّة الحكم بعد أن تربع عليها حزب العمل لمدة 29 عاماً متواصلة.

توزعت رحلة عوز على ثلاثة محاور، كان أبرزها المحور الذي استغرق فيه في تحليل إجراءات اجتماعية وسياسية ومعتقدات عقلية استشرت منذ "انقلاب 77" ومن شأنها، وفقاً لاعتقاده، أن تهدّد بالخطر صلب المجتمع ونظام الحكم في إسرائيل. وأشار من بينها على وجه الخصوص إلى ما يلي: تعاظم نفوذ القوى الدينية الغيبية التي رأى أنها مناهضة لـ "الصهيونية العلمانية"؛ التقاطب الآخذ بالازدياد بين اليهود الغربيين (الأشكناز) واليهود الشرقيين (السفاراديم)؛ تفاقم مظاهر التطرّف اليميني.

وكانت أول محطة له ضمن هذا المحور هي أحياء القدس الشمالية الغربية، التي عاش فيها طفولته، حيث سرعان ما استخلص أن الماضي الذي كان بالنسبة إليه متشكّلاً من مجتمع تعدّدي حوى شتى الفئات الاجتماعية ذات الثقافات المختلفة أخلى مكانه في الحاضر إلى مجتمع أرثوذكسي يتبّع نمط حياة الغيتو والتقوقع اليهودي، ويكفر بكل ما يحيد قيد أنملة عن تعاليم التناخ. وأكثر من ذلك مجتمع موبوء بالكراهية للعرب والغوييم (الأغيار)، يسرح فيه ويمرح ما أطلق عليه توصيف الإسرائيلي البشع.

وتطوّع أحد المُدرّسين في مدرسة دينية يهودية ليشرح أمام عوز ماهية هذا المجتمع، فنقل عنه أن طلاب الغيتو يتعلمون التناخ صباح مساء، ولا يتعلمون العلوم الطبيعية كونها رجس من صنع الشيطان، ولا المهن اليدوية. وعندما سُئل هذا المُدرّس عن سبب تجنب تعلّم المهن أشار للسائل نحو عمال تابعين لبلدية القدس العرب كانوا يعملون في ترميم سقف المدرسة وقال: "لماذا خلق الله هؤلاء؟ ولماذا سمّى يشماعئيل (وهو اسم إسماعيل بن إبراهيم بالعبرية ويعني "سمع الرب") بهذا الاسم تحديداً؟ هل تعرف؟ بالتأكيد لا. سأقول لك: سمّاه هكذا كي يسمع ما يأمره به إسحاق".

وسأل عوز فيما إذا كان الطلاب اليهود يتعلمون التاريخ العام؟ فأجاب المُدرّس: "حاشا وكلا. نحن شعب يعيش بمفرده ولذاته، ولا يحسب أي حساب للأغيار. فما لنا ولهذه النجاسة؟ هل تريدنا أن نعلّم أطفالنا القتل والنهب والسطو". وأشار الكاتب إلى أن هذه المزايا هي من خصائص الأغيار فقط بحسب عُرف هذا المجتمع.

كانت لعوز محطات أخرى، يمكن أن نذكر منها تلك في مستوطنتي "تقواع" و"عوفرا" في الضفة الغربية، حيث صادف نماذج أخرى من الإسرائيلي البشع موديل 1982. ولعلّ أكثرها تغوّلاً نموذج "المواطن تسادك"، الذي طلب عدم كشف هويته، وسمع منه كلاماً من هذا القبيل: "تستطيع أن تصف دولتنا بأنها نازية يهودية. لم لا؟ إنّ نازية يهودية هي أفضل من قديس ميت من دون شك". و"تسادك" هذا حزين، كما كتب عوز، لأن "مجزرة صغيرة مثل صبرا وشاتيلا (كذا في الأصل، مع تساؤل: هل تُعدّ مقتل خمسمئة شخص مجزرة كبيرة؟) ارتكبها حزب الكتائب وكان يجب أن يرتكبها الصهاينة بأيديهم الناعمة، كي تكون دولتنا مؤهلة لعضوية نادي المجرمين الدولي!".

ويختم المحلل العسكري لـ "هآرتس" تعليقه على مؤلف عوز هذا بقوله: يبدو بعد مرور 41 عاماً أن المحادثة نفسها بين تسادك وعوز يمكن أن تُعاد هذا الأسبوع أيضاً. وعلى خلفية الحرب الإسرائيلية ضد غزة، وما سبقها من هجوم حماس، يجوز أن أقوال تسادك لم تعد تثير قدراً من الاشمئزاز لدى الإسرائيليين مثلما أثارت في ذلك الوقت، في إشارة ضمنيّة إلى حقيقة أن صفة "الإسرائيلي البشع" لم تعد حكراً على فئات قليلة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات