المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
منظومة السيطرة الإسرائيلية: صورة من الخليل. (أ.ف.ب)

أثارت العملية التي نفذها الشهيد محمد الصوف عند مدخل مستوطنة أريئيل جدلا واسعا داخل الجيش الإسرائيلي في ما يخص قضية خصخصة الحواجز، إذ أن أحد الحراس التابعين لشركة خاصة "اكتفى" بإطلاق النار في الهواء عندما شاهد ما يجري. هذه المقالة تستعرض قضية خصخصة الحواجز الإسرائيلية، والنقاشات الإسرائيلية المرتبطة بانتقال تشغيلها وإدارتها من الجيش الإسرائيلي إلى شركات إسرائيلية "مدنية" خاصة.

تعتبر الضفة الغربية من أكثر مناطق العالم تعقيدا من ناحية الأدوات الاستعمارية التي توظفها إسرائيل لإدارة السكان الفلسطينيين وإخضاعهم والتحكم في معظم مناحي حياتهم الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية وحتى النفسية. تحتوي البنية التحتية لنظام التحكم الاستعماري على ثلاث أدوات: 1) التقسيم الجغرافي لأراضي الضفة الغربية والذي يميز سياديا، وإداريا، وقانونيا وحقوقيا ما بين مناطق "أ"، "ب"، "ج"، "H1"، "H2"، "J1"، "J2"، و"مناطق الجدار". 2) نظام العبور أو التصاريح حيث توظف إسرائيل ما يزيد عن 50 نوعاً من التصاريح التي تحدد من يستطيع أن يمر، وعبر أي مناطق، وضمن أي ساعات، بالإضافة إلى إخضاع حرية حركة كل فرد فلسطيني إلى معايير اجتماعية (العمر، الحالة الاجتماعية، العائلة، منطقة السكن، التوصيف السياسي للشخص) ومعايير أمنية، بالإضافة إلى معايير اقتصادية (لأي طبقة اقتصادية ينتمي). 3) الحواجز.[1]

وتعتبر الحواجز أداة أساسية في نظام التحكم الاستعماري إذ أنها، من الناحية المجردة، تشكل المنفذ الوحيد بين حيزين. وبالتالي، فإن عمل الجهة التي تدير الحواجز (سواء الجيش الإسرائيلي أو شركات إسرائيلية خاصة) سيؤثر على قضايا مهمة، منها:

1) القدرة على تحقيق الهدف الإسرائيلي من الحواجز والمتمثل في ضبط حياة الفلسطينيين، التحكم بهم، إخضاعهم. فمقياس "جدارة" الجهة التشغيلية لا يقاس بدرجة تحقيق "الأمن" الإسرائيلي كما تروج إسرائيل، وذلك ببساطة لأن الفلسطينيين والإسرائيليين يحتكون مع بعضهم البعض وبشكل يومي في معظم مساحات الضفة الغربية، وفي شبكة الشوارع المترامية في المنطقة "ج"، ولا تعتبر الحواجز إدارة للفصل ("أمنيا") بين الإسرائيلي والفلسطيني.

2) حياة الفلسطينيين نفسها. فمدى "مهنية" الجهة التي تشغل الحواجز، أو "تساهلها"، أو "قساوتها"، قد تنعكس بشكل مباشر على الحياة اليومية للفلسطينيين. 

3) الموقف الدولي للمنظمات والدول التي تراقب انتهاكات حقوق الإنسان، وانعكاسات هذه المواقف على مؤسسات دولة إسرائيل.

عند الأخذ بعين الاعتبار التفتت الجغرافي للضفة الغربية إلى كانتونات مغلقة، مستوطنات، مناطق عسكرية، شوارع التفافية، بوابات صفراء محيطة بكل قرية... إلخ، يبرز الدور المحوري لشبكة الحواجز في منظومة السيطرة الاستعمارية. ومنذ توطيد هذا النظام من التحكم في أعقاب انتفاضة الأقصى (2000-2004)، وبعد الانتهاء من تشييد معظم مقاطع جدار الضم والفصل العنصري (2002-2008)، ظهر إلى السطح نقاش حقوقي وأخلاقي، إسرائيلي ودولي، حول طريقة إدارة الحواجز. في تلك الفترة، بدأ الجيش الإسرائيلي (الذي يصارع عبثا على تقديم نفسه كأكثر جيش "أخلاقي" في العالم) والمنظمات المدنية الإسرائيلية (أهمها "محسوم ووتش"، و"بتسيلم") والدولية (مثل منظمة العفو الدولية، و"هيومان رايتس ووتش" و"أوتشا") والحكومات الأجنبية في انتقاد طريقة تشغيل الحواجز ومسيرة الإذلال التي يمر بها كل فلسطيني بشكل يومي. بدا الأمر مضرا وبشكل مباشر بصورة الجيش الإسرائيلي و"سمعته"، خصوصا بعد أن تحول الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية من "احتلال خفي" (1967-1991)، إلى نظام فصل عنصري خفي (1991-2000)، إلى منظومة تحكم واضحة بدون مواربة وهي منظومة توظف كل أدوات الحبس والإهانة والعنف المنفلت من عقاله (2004 حتى اليوم). 

هذه الخلفية التاريخية كانت تقف وراء خصخصة الحواجز لإعفاء الجيش الإسرائيلي (والمؤسسة الأمنية بشكلها الأشمل) من الانتقادات المتعالية. وتجدر الإشارة إلى أن وزارة الدفاع الإسرائيلية قد عينت لجنة (لجنة شبيغل) لبحث موضوع الحواجز والانتهاكات الإسرائيلية المتعلقة بها، خصوصا بعد توارد الكثير من الشهادات والأفلام والمقالات حول الحواجز خلصت إلى أن الجنود الإسرائيليين ليسوا "مهنيين" بما فيه الكفاية وأن الحواجز تعمل بشكل تعسفي وعشوائي.[2]

بدأت فكرة خصخصة نقاط التفتيش في العام 2003 بعد نقاشات داخل الحكومة الإسرائيلية التي بدا واضحا أمامها، في خضم الانتفاضة الثانية، بأن الحواجز ستصبح أداة أساسية على المدى البعيد. في العام 2005، قامت وزارة الدفاع الإسرائيلية بإنشاء دائرة اسمها "إدارة المعابر" وهدفها الأساس هو خصخصة المعابر. والمقصود بخصخصة المعابر، حسب الموقع الرسمي لـ "إدارة المعابر"، هو: " استبدال الجنود العساكر الذين يعملون في المعابر في مجالات الأمن والتفتيش، فحص الهويات بأفراد مدنيين مدربين على نحو متخصص ومهني. في الوقت نفسه، يتم شراء ودمج الأنظمة التكنولوجية الأكثر تقدمًا في العالم من أجل تحسين وتبسيط عملية حركة البضائع والمشاة في المعابر. في نهاية العملية (التي تسمى "مدننة" الحواجز، أي تحويلها إلى إدارة "مدنية") تنتقل المسؤولية الكاملة عن تشغيل المعابر من الجيش الإسرائيلي إلى "سلطة المعابر البرية". 

تقوم "سلطة المعابر البرية"، والتي هي دائرة داخل وزارة الدفاع الإسرائيلية، بطرح مناقصات كبرى لاستدراج عروض من شركات حراسة إسرائيلية خاصة، بحيث أن هذه الشركات هي التي تنشر "موظفيها" على الحواجز والمعابر. ويتألف الموظفون في المعابر من مديري وموظفي وزارة الدفاع (مدير عبور وحارس أمن ومدير عمليات) وإلى جانبهم موظفو شركات الحراسة والأمن التي فازت بمناقصة وزارة الدفاع. وفي العام 2005، أقرت الحكومة الإسرائيلية "قرار حكومي رقم ب/43" والذي يحدّد صلاحيات الجهات الإسرائيلية التي تشغل المعابر بحيث أن المخابرات الإسرائيلية (الشاباك) والشرطة الإسرائيلية هما جهتان أساسيتان تقفان خلف عمل "سلطة إدارة المعابر" وتوجهها من بعيد. 

ثمة ثلاثة أهداف أساسية من عملية الخصخصة والتي يجب أن تأخذ بالحسبان فهم منطق عمل نظام التحكم الاسرائيلي:

أولا، إزالة الاحتكاك بين جنود الجيش الإسرائيلي والسكان الفلسطينيين وإعفاء الجيش الإسرائيلي من المساءلة والمحاسبة، على الأقل في القنوات الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان. 

ثانيا، على العكس من الجنود الإسرائيليين الشبان (الذي يخدمون لمدة سنتين أو ينيف)، والذي لا يدركون معنى إدارة "معبر حدودي"، فإن الشركات الخاصة لديها مهارات أهم من التفتيش وهي مكافحة التهريب، ضبط التبادل التجاري، الاهتمام بتسجيل الضرائب، الحدّ من سرقات السيارات، تنظيم مرور البضائع والأغذية والأدوية غير المصرح بها وغير الخاضعة للرقابة ومنع إدخال المواد الخطرة والمحظورة على الفلسطينيين... وهي أمور تحتاج إلى تدريب من نوع خاص. كما أن خصخصة المعابر، وفق هذا الفهم، تحول المعابر ما بين الضفة الغربية وإسرائيل من حواجز إلى ما يشبه المعابر الدولية، وتعطي انطباعاً بأنها تيرمينال حدودي، وبالتالي تكف عن كونها مجرد حواجز لضبط وعرقلة حياة الفلسطينيين أو إذلالهم وتتحوّل إلى "تيرمينال" حدودي يشبه كل المعابر الحدودية في العالم. وبينما أن الأمر يبدو أكثر وضوحا في المعابر ما بين الضفة الغربية وإسرائيل (وعددها حوالي 48 معبرا)، الا أن الخصخصة أيضا تطال الحواجز الأساسية داخل الضفة الغربية والتي تفصل بين مناطق "ج" (المتاحة لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين) والمستوطنات الكبرى، أو المناطق الصناعية الإسرائيلية، والتي تكون متاحة فقط للإسرائيلي ومن يملك تصريح عبور من الفلسطينيين، مثل حاجز أريئيل الذي قام محمد الصوف بتنفيذ عمليته منه.

ثالثا، وهذا هو الأهم، تعكس عملية خصخصة الحواجز التشابكات بين البنى الاستعمارية ورأس المال الخاص الربحي بحيث أنه لا يمكن النظر الى مشروع الاستعمار الاستيطاني فقط من خلال عدسات الصراع القومي- الديني- السياسي (مستوطن صهيوني في مقابل سكان أصلانيين فلسطينيين)، وانما لا بد من رؤية تقاطعات النيو ليبرالية ودور رأس المال في تحويل الصراع السياسي إلى ميدان لدر الأرباح. الأمر لا يتعلق فقط برأس مال إسرائيلي مثل شركات الحراسة الخاصة والتي تدخل في علاقات سوق واستنفاع متبادل ما بينها وما بين وزارة الدفاع الإسرائيلية (مثلا شركة أراكس "ARAKS")، بل إن هناك أيضاً تقارير تشير إلى أن شركات إقليمية وعربية وفلسطينية بالإضافة إلى منظمات دولية استفادت أيضاً، أحيانا بشكل غير مباشر، من قضية خصخصة الحواجز وتجهيزها. 

وفق هذا الاستطراد التاريخي لتطور فكرة خصخصة الحواجز/ المعابر، فإن انتقادات الجيش الإسرائيلي لأداء بعض شركات الأمن الخاصة لا يجب أن يؤخذ بجدية كبيرة. عند الأخذ بعين الاعتبار تقاطعات البنى الاستعمارية والسوق النيو ليبرالية وتحول الضفة الغربية إلى مختبر ضخم لتطوير وبيع تقنيات الضبط والتحكم الحركة، فإن انتقادات الجيش لحارس المستوطنة الذي أطلق النار "في الهواء" في الوقت الذي كان يشاهد عملية فدائية ذات نتائج قاتلة قد لا تعدو كونها انتقادات يراد منها طمأنة الجمهور الإسرائيلي ومنح الشعور بأن الجيش موجود ويراقب بنقدية، ويحاول أن يستخلص العبر لمنع تكرار العمليات. لكن في الواقع، فإن الحواجز تنطوي على business يفوق في تشابكاته كل اعتبارات الأمن الإسرائيلية.

ومع ذلك، فإن المعابر المخصخصة ما تزال عاجزة عن وضع بروتوكول لمواجهة هجمات المقاومين الفلسطينيين. في أيلول 2017، وعند المعبر القائم على مدخل مستوطنة هار أدار، قام عامل فلسطيني يعمل في المستوطنة بقتل اثنين من حراس الأمن التابعين لشركة خاصة بالإضافة إلى ضابط حرس حدود. على الفور، قامت المنظومة الأمنية الإسرائيلية بتطوير برتوكول تشغيلي يأخذ بعين الاعتبار التضاريس الجغرافية لكل حاجز عسكري، وطبيعة الفلسطينيين المحيطين به، وإمكانية تنفيذ عمليات، وتدريب أفراد الأمن على هذا البروتوكول.[3] على ما يبدو، فإن هذا البروتوكول التشغيلي ظل موضوعا في الجارور، على حد تعبير الجيش الإسرائيلي، وهو ما ساهم في الوصول إلى عدد قتلى عال نسبيا في العملية الأخيرة عند مستوطنة أريئيل.

 

[1]  راجع/ي مقالة وليد حباس في عدد سابق من ملحق "المشهد الإسرائيلي"، بعنوان "عن منظومة الحواجز العسكرية والمعابر في الضفة الغربية.. عددها، أنواعها ووظائفها!"، على الرابط التالي: https://bit.ly/3AsGkwK

[2] بالإمكان الاطلاع على دراسة أكاديمية حول خصخصة الحواجز على الرابط التالي: https://freeacademic.com/products/9923؛ بالإضافة الى دراسة مسحية أجرتها السيدة إيلات ماعوز من "محسوم ووتش" في العام 2008، والمنشورة بالعبرية على الرابط التالي: https://machsomwatch.org/he/node/50301

[3] حول أمن الحواجز والشركات الإسرائيلية القائمة عليه، أنظر/ي: https://www.araks.co.il/border-crossing-security/

المصطلحات المستخدمة:

بتسيلم, معبرا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات