في يوم 1 نيسان 2025 سجّل رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق نفتالي بينيت حزباً جديداً تحت الاسم الموقت "بينيت 2026". وقبل ذلك تم عدة مرات صدور تبليغات بشأن عودة بينيت إلى حلبة السياسة الإسرائيلية. وفي أيلول 2024، أدلى بمقابلة إلى صحيفة "بيلد" الألمانية قال فيها إنه لا يستبعد العودة إلى السياسة الإسرائيلية، أو حتى الانضمام إلى ائتلاف مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، مؤكداً أنه مستعد لأن يكون في أي منصب يستطيع فيه إحداث تغيير.
ولا بُدّ من الإشارة إلى أن الاستطلاعات الأسبوعية التي تجريها صحيفة "معاريف" تدأب منذ مدة على استطلاع موقف الرأي العام الإسرائيلي في حال إجراء الانتخابات الإسرائيلية العامة الآن وخاض هذه الانتخابات حزب جديد برئاسة بينيت، وتُظهر أنه سوف يحتل مكانة الحزب الأول، وسيحظى بائتلاف كافٍ لإقامة حكومة. كذلك ذكرت مواقع إخبارية إسرائيلية أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يفكر جدياً في توجيه دعوة إلى بينيت لزيارة البيت الأبيض، في خطوة رمزية تُعبّر عن الاستياء من أداء رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو.
كل هذه الأمور المستجدّة تستلزم منّا أن نستعيد فترة ولاية حكومة بينيت وما مثلته على صعيد السياسة الإسرائيلية عموماً وعلى مستوى الموقف من القضية الفلسطينية خصوصاً، وهي الحكومة التي عرفت باسم حكومة بينيت- لبيد واستمرت ولايتها من 13 حزيران 2021 حتى 29 كانون الأول 2022.
وأول ما يحضرنا في هذا الشأن أنه في أول عام من ولايتها، لم تنشغل تلك الحكومة الإسرائيلية، برئاسة زعيم حزب "يمينا" الصهيونيّ الدينيّ نفتالي بينيت، فقط في معركة بقائها التي فرضها واقع استنادها إلى أغلبية بفارق صوت واحد عرضة للتلاشي عند أي منعطف، بل أيضاً قامت بتطبيق سياسات داخلية وخارجية، وبالمصادقة على خططٍ بعيدة المدى، ولا سيما في مجال توسعة الاستيطان الكولونيالي. وفي ذلك الوقت نعت خصوم بينيت من الليكود وحلفائه حكومته بأنها "يسارية"، وبأنها أول حكومة إسرائيلية تتحالف بصورة مباشرة مع حزب عربي مستقل لا يدور في فلك الأحزاب الصهيونية، وهو ليس حزباً عربياً فقط بل إسلامي أيضاً. في المقابل أثبت أنصار الحكومة بالوقائع المُجرّدة أنها يمينية بامتياز، أو على الأقل أنها استمرار لحكومات نتنياهو في كل ما يرتبط بسياستها المنتهجة في الموضوعات الرئيسة الماثلة أمام إسرائيل، وبناء على ذلك فإن نعتها بأنها يسارية هو تأويل مُغرض لا أكثر، بل إن البعض اعتبره تهمة لا تمت إلى الحقيقة بأي صلة، في ضوء أن اليسار في إسرائيل لم يعد أصلاً ذا صلة بسيرورتها سواء في الوقت الراهن أو في الأفق المنظور، وأن وجوده قائم، أكثر شيء، في مخيلة نتنياهو لأسبابه المخصوصة.
ويظهر فحص في العمق أنه في كل الموضوعات "الحارقة" ظلت سياسة حكومة بينيت بمثابة استمرار لسياسة الحكومات السابقة، مثلاً في كل ما يتعلق بأعمال البناء في المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، وبمواجهة المشروع النووي الإيراني، وبالموقف العام من القضية الفلسطينية وبشكل جوهريّ من حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية... إلخ. أكثر من ذلك، في بعض تلك الموضوعات تبنى رئيس الحكومة بينيت مواقف أكثر يمينية وصقرية حتى من نتنياهو، فهو على سبيل المثال رئيس الحكومة الإسرائيلي الوحيد منذ اتفاقيات أوسلو الذي ليس أنه لم يجر مفاوضات مع الفلسطينيين فحسب، إنما أيضاً رفض عقد لقاء مع رئيس السلطة الفلسطينية ولو من أجل البروتوكول.
وفي موضوع الاستيطان على وجه التحديد كانت لحكومة بينيت بصمة أكثر يمينية وصهيونية من كل الحكومات اليمينية التي سبقتها في الأعوام الأخيرة، ولا ينحصر الأمر في أراضي الضفة الغربية. ففي كانون الأول 2021 صادقت الحكومة على ما يُعرف بـ "خطة المليار"، والتي وصفت في موقع رئيس الحكومة الإسرائيلية على الشبكة بأنها "خطة غير مسبوقة للاستثمار في الاستيطان في هضبة الجولان ومستوطنة كتسرين"، وتهدف وفقاً لما أكده بينيت نفسه إلى مضاعفة الاستيطان الإسرائيلي في الجولان السوريّ المحتل. وفي آذار 2022 صادقت الحكومة على خطة إقامة مستوطنات يهودية جديدة في منطقة النقب. وإن دلّت هاتان الخطتان على شيء فهما تدلّان على أن هناك اشتغالاً واضحاً على موضوع الاستيطان من طرف الحكومة بشكل مختلف عما سبق، بما يسهم في استكمال تأويليّة معنى وعد بينيت لدى تسلمه مهمات منصبه بأن تكون حكومته "يمينية أكثر من حكومات سلفه بعشر درجات".
ومن الصعوبة بمكان الإشارة إلى مسألة واحدة نجح فيها ما يوصف بأنه "الجناح اليساري" في تلك الحكومة الإسرائيلية في تغيير دفّة السفينة. وبموجب تحليلات متطابقة فإن بينيت يقوم بما يحلو له القيام به، وفي ضوء ما أومأنا إليه بشأن وعده، يُمكن العثور على كثير من المؤشرات التي تؤكد تحقق هذا الوعد في التطبيق العمليّ.
ومع دخول مرحلة العدّ التنازلي لتلك الحكومة التي ترأسها خلال ولايتها كحكومة فاعلة نفتالي بينيت، يمكن أن نقول إنه في كل ما يتعلّق بسياستها الخارجية، وخصوصاً حيال قضية فلسطين، كانت حكومة يمينية صقرية. وما يؤكده أنصار بينيت أنه إذ كان ميكيافيلياً في انخراطه ضمن صفوف هذه الحكومة بالذات، فإن غايته القصوى من وراء ذلك تمثلّت في استمرار سياسة إسرائيل اليمينية. وفي التحصيل الأخير، أتت هذه الغاية أكلها في اختبار التطبيق العملي، ولدى وضع السياسة العامة لحكومته على الأصعدة كافة في الميزان، ابتداءً من سياسة تكثيف الاستيطان في أراضي الضفة الغربية وشمل هضبة الجولان ضمن هذه السياسة (بشكل ينبغي القول إنه لم يسبق أن أقدمت عليه أي حكومة إسرائيلية في الماضي القريب)، وانتهاء بوضع حدّ لما وصف بأنه "سياسة احتواء" إطلاق البالونات الحارقة من قطاع غزة في اتجاه المستوطنات الإسرائيلية المحاذية للقطاع، مروراً بتصعيد العمليات ضد إيران ومشروعها النووي ومحاولاتها الرامية إلى بسط هيمنتها الإقليمية، وعدم تقديم أي تنازل فيما يخص تنظيم "مسيرة الأعلام" في مدينة القدس وفقاً لخطتها التقليدية ومسارها المشحون.
في واقع الأمر، تمثلت قوة بينيت عند تأليف الحكومة في عدم تقييد نفسه بخطوط سياسية عريضة، ما أتاح له إمكان أن يواصل سياسة الحكومة السابقة بل وأن يدّعي تشديدها.
وللتذكير: عندما أقيمت هذه الحكومة كان العنوان الرئيس لقناة التلفزة الإسرائيلية الرسمية "كان 11" هو التالي: "تأليف حكومة جديدة من دون خطوط عامة تفصيلية: ما يمكن الاتفاق عليه نقرّه وما لا نتفق عليه يُنحّى جانباً".
وجرى الاكتفاء، في مستهل مقدمة اتفاقية الائتلاف، بالإشارة إلى أنه نظراً إلى كون إسرائيل عالقة في أزمة سياسية حادّة وعدم استقرار حكومي حادّ منذ نحو عامين، ونظراً إلى أنه منذ الخروج من أزمة وباء كورونا يواجه الاقتصاد الإسرائيلي تحدّيات اقتصادية استثنائية بحجمها وتعقيداتها ما يستلزم وجود حكومة فاعلة بشكل فوري؛ قررت الكتل الموقعة على هذه الاتفاقية تأليف "حكومة وحدة" ستركّز على العمل في المجالين المدني والاقتصادي، من أجل تحسين رفاهية المواطنين الإسرائيليين من جميع الفئات والقطاعات، وأول ما ستفعله الحكومة هو عرض ميزانية عامة للدولة للعامين الجاري والمقبل على الكنيست.
عندما يُقال "المجال المدني" فهو يشمل ضمنياً ووفقاً لمنطق كل الأطياف السياسية في إسرائيل، المستوطنين الإسرائيليين في الأراضي المحتلة 1967 باعتبارهم "سكاناً مدنيين". وفي هذا الإطار كان من الطبيعي مثلاً أن يتم الاتفاق ضمن تلك الحكومة بين وزيرة الداخلية (من حزب بينيت) ووزيرة المواصلات (وهي رئيسة حزب العمل المحسوب على "اليسار الصهيوني")، على رصد ميزانيات ضخمة لشق شوارع وتسيير مواصلات عامة للمستوطنين في الضفة الغربية.
كما أن برنامج الحكومة عموماً تضمّن خطة لتطوير القدس وتعزيز وحدة شطريها كـ"عاصمة أبدية" لدولة الاحتلال. وقبل أن ينفرط عقد الحكومة، أقرّت يوم 29 أيار 2022 سلسلة من القرارات التي تنص على تطوير "المدينة الموحدة" بميزانية تفوق مليار شيكل في إطار خطة خماسية ستركز على التطوير الاقتصادي، والاستثمار في المؤسسات الأكاديمية، والنهوض بالقدس باعتبارها مركزاً سياحياً، وإيجاد فرص عمل جديدة في المدينة، إلى جانب خطط تطوير وتشييد طرق، وإخلاء نفايات، وترشيد استهلاك الطاقة، والاستثمار في بلدة سلوان (التي تسمى إسرائيلياً "مدينة داود") والتي اعتبرها بينيت "أحد أهم مواقعنا التراثية التاريخية"!
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, نفتالي بينيت