مع استمرار الجدل الإسرائيلي الداخلي بشأن القدرة على إطاحة الحكومة الإسرائيلية الحالية التي تتألف، بحسب أوصاف عديد من المحللين، من "قيادة جامحة لا تعرف حدودها"، ومن "سياسيين متعطشين إلى السلطة نسوا لمصلحة مَن يعملون"، برزت على السطح مرة أخرى مسألة البديل المطروح من ناحية الجوهر.
وثمة تقديرات، سوف تبدي الأيام المقبلة ما إذا كانت صحيحة أم لا، بأن إسرائيل تقترب من تفكُّك الحكومة، ومن ثمّ التوجه إلى انتخابات جديدة. وهناك من يؤكد أن امتداد الحرب على قطاع غزة، إلى جانب الدفع قدماً بقانون الإعفاء من الخدمة العسكرية لمصلحة اليهود الحريديم المتشددين دينياً، يخلطان الأوراق، وهما من المؤشرات إلى أن الانتخابات باتت خطوة لا مفرّ منها.
وفيما لو صحّت هذه التقديرات فما الذي في انتظارنا في غضون الفترة المقبلة؟
بداية لا بدّ من التنويه بأن ما يجري التشديد عليه في هذا الخصوص، أكثر من أي شيء آخر، هو "التحذير من الوقوع مجدداً في فخّ بنيامين نتنياهو"، مثلما كتبت صحيفة "معاريف" مؤخراً والتي وصفت رئيس الحكومة بأنه "الرجل الذي حرص على تقسيم أبناء الشعب طوال أعوام من أجل الحفاظ على حُكمه المطلق" (8/5/2025). وفي ضوء ذلك فإن جوهر المعركة كما يرتسم الآن هو "نعم لنتنياهو" أو "لا لنتنياهو"، من دون التركيز على البديل المطلوب لا للشخص وإنما لسياسته العامة بالأساس.
وفي مجرّد هذا ما يستدعي أن نتوقف عند ما يلي:
أولاً، يتسبب التمحور من حول شخص نتنياهو، مثلما وصفت ذلك عضو الكنيست ميراف بن آري ("يوجد مستقبل")، بوضع الأيديولوجيات جانباً، وبهيمنة شعار "نعم لنتنياهو أو لا لنتنياهو". وفي ضوء ذلك فإن أكثر ما ينشغل الخطاب الإسرائيلي العام به هو شخصية أُخرى تكون قادرة على أن تشكّل خصماً له. وهذه الشخصية الآن هي رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق نفتالي بينيت. فبعد عامين ونصف العام على إنهائه مهماته يحظى بينيت بتعاطف شعبي كبير واستطلاعات رأي عام إيجابية، من أسبوع إلى آخر. وقد بدأ بينيت فعلاً بتسخين نفسه على الخط الجانبي، وقام مؤخراً بتسجيل حزبه الجديد في سجل الأحزاب.
ثانياً، سبق أن أوردنا مرات كثيرة أنه في كل ما يتعلّق بسياسة حكومة بينيت الخارجية، وخصوصاً حيال القضية الفلسطينية، كانت حكومة يمينية صقرية. وفي تلخيص ولايتها القصيرة التي بدأت يوم 13 حزيران 2021 واستمرت إلى ما قبل نهاية العام 2022، أشرنا إلى أن أبرز ما أفلح فيه رئيسها هو أن يحشد باستمرار دعم شركائه لجرّ عربة السياسة اليمينية التي يقودها. وما يؤكده أنصار بينيت أنه إذ كان ميكيافيلياً في انخراطه ضمن صفوف تلك الحكومة بالذات، فإن غايته القصوى من وراء ذلك تمثلّت في استمرار سياسة إسرائيل اليمينية. وفي التحصيل الأخير، أتت هذه الغاية أكلها في اختبار التطبيق العملي، ولدى وضع السياسة العامة لحكومته على الأصعدة كافة في الميزان، ابتداءً من سياسة تكثيف الاستيطان في أراضي الضفة الغربية وشمل هضبة الجولان ضمن هذه السياسة (بشكل ينبغي القول إنه لم يسبق أن أقدمت عليه أي حكومة إسرائيلية في الماضي القريب)، وانتهاء بوضع حدّ لما وصف بأنه "سياسة احتواء" إطلاق البالونات الحارقة من قطاع غزة في اتجاه المستوطنات الإسرائيلية المحاذية للقطاع، مروراً بتصعيد العمليات ضد إيران ومشروعها النووي ومحاولاتها الرامية إلى بسط هيمنتها الإقليمية، وعدم تقديم أي تنازل فيما يخص تنظيم "مسيرة الأعلام" في مدينة القدس وفقاً لخطتها التقليدية ومسارها المشحون. وبينيت نفسه صرّح بأنه يميني أكثر من الزعيم التقليديّ لليمين الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (الذي شق طريقه السياسي من خلال عمل مشترك معه) بعشر درجات على الأقل.
ثالثاً، ينبغي التذكير دائماً بأنه لدى متابعة ما يُنشر في الإعلام الإسرائيلي بشأن أسباب بقاء حكومة نتنياهو الحالية، فإن الاستنتاج الرئيس هو أن ثمة ثلاثة أسباب مركزية تتيح لنتنياهو إمكان البقاء في منصبه والاستئثار بصنع القرار فيما يتعلق بسير الحرب ومستقبلها. وهذه الأسباب الثلاثة هي: أولاً، كون المعارضة الإسرائيلية ضعيفة وليست موحدة في مواجهة الحكومة، وثانياً، وجود ائتلاف حكومي فاشل ولكنه متماسك، وبالأساس في ظل تراجع قوته في استطلاعات الرأي العام ما يجعله متمسكّاً بسدّة الحكم، وثالثاً، خطورة الأوضاع الأمنية والسياسية التي تجد إسرائيل نفسها في خضمها وتعتبر غير مسبوقة في تاريخها كلّه. وفيما يخصّ المعارضة الإسرائيلية لعلّ الأمر الأكثر أهمية من وحدتها، هو كونها فاقدة لأي بديل للسياسة التي يعرضها نتنياهو وعلى وجه الخصوص لما يوصف بأنه "اليوم التالي" للحرب. وهذا الواقع ليس جديداً، وبشكل عام فإن ما وصفه الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي، مع دخول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها السادس، بأنه الاشمئزاز من نتنياهو هو فقط ما يعيد التذكير بوجود معارضة في إسرائيل، ولكن هذا الاشمئزاز هو شخصي في الأصل، ولا وجود لمعارضة حقيقية بالنسبة إلى المسائل الأساسية التي يمكن أن تغيّر صورة إسرائيل في المدى القريب أو البعيد، كالاحتلال والحرب والديمقراطية، ففي هذه المسائل لا توجد فوارق كبيرة بين اليمين والوسط واليسار الصهيوني، وثمة دولة تتكلم بصوت واحد ولديها وجهة نظر واحدة ورأي واحد. وكانت هناك الكثير من الأدلة المستجدّة القاطعة على ذلك، ولعلّ أبرزها تصويت الكنيست الإسرائيلي يوم 21 شباط 2024 بأغلبية 99 عضو كنيست ضد 9 أعضاء تأييداً لقرار الحكومة معارضة الاعتراف الأحادي الجانب بالدولة الفلسطينية. كما سبق لنا أن لفتنا بأن البعض أعاد إلى الذاكرة من ماضي المعارضات في إسرائيل أمرين ينطويان على دلالة يوضحان التحوّل الذي تشهده الساحة السياسية الإسرائيلية خلال الحرب الحالية: الأول، أن اليسار والوسط في إسرائيل سبق أن أيّدا كل حروب إسرائيل السابقة، ولكنهما كانا في بعضها يعودان بسرعة إلى رُشدهما؛ الثاني، أنه في كل حرب كانت هناك معارضة. أمّا في هذه الحرب فلا يوجد صوت معارض واحد في الكنيست، باستثناء أصوات أعضاء الكنيست العرب.
رابعاً، كرّر الوزير الإسرائيلي السابق حاييم رامون قبل عدة أيّام أنه من المهم التذكير بأنه على الرغم من الاشمئزاز الشخصي من نتنياهو فإن معسكر الوسط- اليسار تبنى المواقف السياسية والأمنية لهذا الأخير. ومن ذلك، مثلاً، أن كلاً من يائير لبيد وبيني غانتس وكذلك بينيت أيدوا تكريس الانقسام الفلسطيني الجغرافي بين قطاع غزة والضفة الغربية. كما أن رئيس تحالف "الديمقراطيون" الذي يضم حزبي العمل وميرتس يائير غولان أكد أن هذا الانقسام هو بمثابة "رصيد أمني مهم" ("معاريف"، 10/5/2025).
وأضاف رامون أنه في هذا الأسبوع ثمّن رئيس الدولة الإسرائيلية إسحق هرتسوغ (والذي أشغل في السابق منصب رئيس حزب العمل) المستوطنات في الضفة الغربية ووصفها بأنها "السور الواقي لإسرائيل"، على الرغم من أن الجميع يدركون أن الهدف الأبعد من وراء هذه المستوطنات هو ضم الضفة. وهذا ما يؤكده غانتس أيضاً الذي وصف إخلاء مستوطنات شمال غزة بأنه خطأ، كما أن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش كشف النقاب عن أن غانتس حاول في بداية الحرب على غزة الدفع قدماً بخطة إعادة إقامة 3 مستوطنات في شمال قطاع غزة!
المصطلحات المستخدمة:
بتسلئيل, سجل الأحزاب, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, يائير لبيد, ميراف بن آري, نفتالي بينيت