منذ 7 تشرين أول/ أكتوبر، 2023، دخلت إسرائيل في واحدة من أكثر مراحلها دموية واضطراباً، معلنةً أن هذه الحرب ليست مجرّد جولة مواجهة عسكرية، أو حرباً تُشبه سابقاتها، بل صنّفتها كـ "حرب وجودية تهددّها على جبهات مختلفة". إن ما ميّز هذه الحرب هو عدم اقتصارها على فصائل المقاومة في قطاع غزة، حيث امتدّ نطاقها ليشمل جبهات متعدّدة، اعتبرتها إسرائيل حرباً على 7 جبهات في الوقت ذاته من غزة وهي ساحة الحرب الأساسية، وحزب الله في الشمال، إلى الحوثيين في اليمن، مروراً بفصائل المقاومة في العراق، وبعض التنظيمات المدعومة من إيران في سورية، وصولاً إلى المواجهة المفتوحة مع إيران نفسها في أكثر من مرة، وهو ما أكسب هذه الحرب أهمية من الناحية الإسرائيلية على المدى البعيد، على الرغم من كل الاعتبارات المحيطة بالحرب منذ بدايتها.
شهدت الساحة الأكاديمية الإسرائيلية تحركاً احتجاجياً واسعاً، حيث وقّع أكثر من 1300 أكاديمي من جامعات وكليات مختلفة على رسالة مفتوحة تدعو إلى وقف فوري للحرب على قطاع غزة، محذّرين من "انهيار أخلاقي" يهدد المجتمع الإسرائيلي.
هذه الرسالة، التي أطلقتها مجموعة "الراية السوداء"، لم تكتف بإدانة الحرب، بل حمّلت الأكاديميا مسؤولية التواطؤ بالصمت أو تبرير الجرائم أو قمع الأصوات النقدية، ودعت إلى تسخير ثقل المؤسسات الأكاديمية لإنهاء الحرب.
في آب 1897 وقف ثيودور هرتسل خاطباً أمام جمهور المؤتمر الصهيونيّ الأول في مدينة بازل السويسرية مطالباً بوطنٍ قوميّ لليهود، وفي أيار 2025 استضافت المدينة مهرجان الأغنية الأوروبية "اليوروفيجن" لتعلو المنصة يوفال رفائيل ممثلة إسرائيل وتعيد التصوّر الأهم لهذه المدينة في الذهنيّة الفلسطينيّة والإسرائيليّة. لا يبدو الربط بين بازل الأولى وبازل الثانية غريباً لأن السنوات الطويلة الممتدة بينهما ما هي إلا خيط نارٍ ومسلسل فظائع بدأ بالإبادة وينتهي بإبادة أكثر توحشاً تحدث حين تقف مغنية في البقعة السويسرية التي تنظر إليها عيون أوروبا كلها وتصرخ "شعب إسرائيل حيّ".
تُعد المساعدات الإنسانية جزءاً أساسياً من الاستراتيجية الإسرائيلية، لا باعتبارها عملاً إغاثياً بحتاً، بل كأداة سياسية وعسكرية متعددة الوظائف. وقد استخدمتها إسرائيل في سورية (2016-2018) لبناء تحالفات وتدخل ناعم. وفي غزة (الحرب المستمرة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023)، تستخدم المساعدات ضمن استراتيجية حربية عنيفة، لفصل السكان عن المقاومة، وضبط سلوكهم، وتهيئة شروط السيطرة أو التهجير، وليس فقط لتسويق الحرب الأخلاقية أو الانصياع لشروط المجتمع الدولي. بهذا، تتحول المساعدة إلى وسيلة لإعادة تشكيل المجتمعات ضمن منطق القوة.
في 18 أيار 2025، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، عن إبرام اتفاق رسمي مع شركات أمنية أميركية لتتولى مهام توزيع المساعدات الإنسانية داخل قطاع غزة. جاء هذا الإعلان بعد أيام من تصريح للسفير الأميركي في إسرائيل، مايك هاكبي، خلال مؤتمر صحافي في مقر السفارة الأميركية، قال فيه: "بدأ تنفيذ الخطة الإنسانية في غزة وفق المبادئ التي حدّدها الرئيس ترامب، وسيُوزَّع الطعام بطريقة تضمن منع حركة حماس من السيطرة عليه، وبدون تعريض حياة أي إنسان للخطر".
الصفحة 2 من 343