بالرغم من أن التقييم الإسرائيلي العام لنتيجة الحرب، التي شنتها إسرائيل على إيران والتي باتت تحمل عدة أسماء لعل أبرزها "عملية شعب كالأسد" أو "عملية الأسد الصاعد" و"حرب الأيام الـ12"، وانضمت إليها الولايات المتحدة التي قامت بقصف عدة منشآت نووية، ولا سيما منشآت فوردو ونطنز وأصفهان، يخلص في جلّه إلى أنها بمثابة انتصار له ما بعده إلا إن الثقة بأن تأثير هذا "الانتصار" على مستقبل القوة التي تمتلكها إيران تبدو متضعضعة نظراً إلى انعدام المعطيات بشأن الأضرار التي لحقت بتلك المنشآت، وذلك بموازاة الإجماع على أن نتيجة واحدة كان من المتوقع أن تُمنى الحرب بالفشل في تحقيقها وهي القضاء على البرنامج النووي الإيراني قضاءً مُبرماً.
ولعل آخر مظاهر هذا الإجماع هو ما عبّر عنه الرئيس السابق للحكومة الإسرائيلية، إيهود باراك، والذي سبق له أن أشغل منصبي وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة للجيش، في سياق المقال الذي نشره في صحيفة "هآرتس" أمس الأحد (29/6/2025) وشدّد فيه على ضرورة تجنّب الوقوع في الأوهام. وعلى حدّ تعبيره بالرغم من ستار الدخان المُفتَعل الذي يطمس المشهد العام، لم يتم القضاء على التهديد النووي الإيراني، ولا على تهديد الصواريخ والمسيّرات. وما تمّ برأيه هو إعاقة تقدُّم المشروع النووي الإيراني على الأرجح بضعة أشهر فقط، وهذا أيضاً بفضل التدخل الأميركي. وما زال لدى الإيرانيين أكثر من 400 كغم من المواد المخصّبة التي تكفي لتسليح عشرة رؤوس حربية. ولا تزال هناك كذلك أجهزة طرد مركزي لم تُصب بأذى، ومعرفة علمية، وعدد كافٍ من العلماء، ومواقع لا تعرف إسرائيل عنها. وخلص باراك إلى النتيجة التالية: "نحن أقوياء جداً، ولكننا غير قادرين على كل شيء. ومن الأفضل أن نتحلّى بالتواضع وأن نستعد للفصول المقبلة".
ويبدو أن عبارة "الاستعداد للفصول المقبلة" ذات دلالة أبعد من الدعوة إلى أن تكون إسرائيل جاهزة لأن تواصل إيران الانطلاق قدماً في برنامجها النووي، والمقصود منها هو الاستعداد لجولات قتال أخرى، وهذا ما حدا بالمستشرق الإسرائيلي إيال زيسر إلى تسمية "حرب الأيام الـ12" بـ "حرب إيران الأولى" في إشارة ضمنية إلى أنه من اللازم، على ما يبدو، أن تتبعها حرب إيران الثانية وربما أكثر ("يسرائيل هيوم"، 29/6/2025). ولعل ما يعزّز هذا الاستنتاج هو الموقف الذي عبّر عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إثر انتهاء الحرب وهدّد فيه بشن "هجمات مستقبلية ستكون أكبر بكثير وأسهل بكثير"، مما يشير إلى أنه مستعد لشنّ هجمات جديدة إذا لم تتخل طهران عن اليورانيوم المخصّب الذي بحيازتها، وهو ما اعتبره المؤرخ الأميركي دانيال بايبس سابقة بالغة الأهمية في السياسة الخارجية الأميركية، مشيراً إلى أن الرئيس الأميركي هاري ترومان لم يمنع الاتحاد السوفياتي السابق من الحصول على سلاح نووي، ولم يوقف ليندون جونسون الصين الشيوعية، ولا أوقف جورج دبليو بوش كوريا الشمالية. واتفق معه بهذا الشأن عدد من المحللين الإسرائيليين، بمن في ذلك المتخصصون في مجال العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة.
في ضوء ذلك فإن ما يجب تسجيله ومتابعته من الآن فصاعداً وعقب "حرب إيران الأولى" هو ما يلي:
أولاً، أن المعركة العسكرية التي تعتقد إسرائيل أنها بدأت بخوضها ضد إيران بدعم ومشاركة مباشرة من الولايات المتحدة لا تزال بعيدة عن النهاية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تكرّرت في عدة تحليلات إسرائيلية لازمة تقول إن الحرب بين إسرائيل وإيران التي استمرت 12 يوماً انتهت ولكنها لم تُستكمل، كما كتب مثلاً راز تسيمت، مدير "برنامج إيران والمحور الشيعي" في "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، وهو مؤلف كتاب "إيران من الداخل: الدولة والمجتمع في الجمهورية الإسلامية" الصادر في العام 2022 ("مباط عال"، العدد 1998، 24/6/2025)، مؤكداً أنه على الرغم من أن البرنامج النووي الإيراني تلقى ضربة قاسية، فإن هذه الضربة لا يُتوقع أن تدفع طهران إلى الاستسلام، أو إلى التخلي عن طموحاتها النووية، بل بالعكس، من المرجّح أن تزداد لديها العزيمة على المضيّ قدماً نحو تحقيق القدرة النووية العسكرية. وبرأيه، خلال العام الماضي أمكنَ رصد مؤشرات إلى تغيير في العقيدة الأمنية الإيرانية، ولا سيما في ظل انهيار محور المقاومة وفشل إيران في فرض معادلة ردع جديدة على إسرائيل باستخدام الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة. وتعالت في طهران الأصوات التي ترى أن تعزيز قدرة الردع لا يقتصر فقط على تحسين قدرات الصواريخ، أو إعادة تأهيل قدرات حزب الله والمحور الموالي لإيران، بل يتطلب أيضاً تغييراً في العقيدة النووية، والنظر في خيار التقدّم نحو امتلاك سلاح نووي، باعتباره وثيقة التأمين القصوى للنظام. ومن غير المتوقع أن تضعف هذه الأصوات بعد انتهاء الجولة الحالية، بل من المحتمل أن تزداد حدةً.
ثانياً، لا بُدّ من التساؤل حول جوهر تفكير الأوساط المقربة من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في كل ما يتعلق بـ "اليوم التالي" لـ "حرب إيران الأولى". وفي سبيل محاولة تلمس إجابة ما عن هذا التساؤل سوف نستأنس بما كتبه الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي مئير بن شبات (خلال الأعوام 2017- 2021)، والمدير العام الحالي لـ"معهد مسغاف للأمن القومي والاستراتيجيا الصهيونية".
يعتقد بن شبات، في سياق المقال الذي نشره في صحيفة "مكور ريشون" (27/6/2025)، بأن التحدّي الماثل أمام إسرائيل الآن هو الحفاظ على الإنجاز الذي تحقّق عبر الحرب الأخيرة وضمان استمراره. ومن أجل تحقيق ذلك، يمكن العمل من خلال أحد مسارَين: 1. مسار دبلوماسي دولي: اتفاق يمنع إيران من العودة إلى هذه القدرات، يشمل رقابة صارمة وآلية تنفيذ فعّالة. وهذا هو المسار الذي يسعى له الرئيس ترامب، وكذلك أوروبا، بهدف التوصل إلى تسوية طويلة الأمد. 2. مسار تسوية قسرية: منع إيران بالقوة من إعادة بناء هذه القدرات (مثلما يحدث في لبنان وسورية)، استناداً إلى معلومات استخباراتية. ولهذا الغرض يجب، برأيه، الحفاظ على حرية العمل الجوي من جهة، وعلى الدعم الأميركي/ الدولي لاستخدام القوة من جهة أخرى.
ووفقاً لبن شبات، من الصعب التنبؤ بإمكان نجاح المسار الدبلوماسي، إذ سبق أن أظهرت إيران قدرتها على كسب الوقت وخداع محاوريها. علاوةً على ذلك، فإن النظام الإيراني لديه سجلّ حافل في انتهاك الاتفاقيات، مدعوم بشرعية دينية - فقهية، وبدوافع قوية إلى الانتقام واستعادة الكرامة المفقودة. ومن المرجح أنه لن يتخلى عن طموحاته، بل سيزيد في مستوى الخداع والسرية، مستفيداً من دروس الحرب. وفي ضوء ذلك، يجب أن يكون موقف إسرائيل صارماً، ويستند إلى تنفيذ فعّال من دون اتفاق، وهذا أفضل من اتفاق من دون تنفيذ، وإلى أن حرية الحركة الجوية لإسرائيل في المجال الإيراني هي العنصر الرئيس الذي يتيح ذلك.
ويدعي بن شبات بأن إسرائيل لم تضع إسقاط النظام الإيراني هدفاً للحرب. ومع ذلك، من الواضح للجميع في إسرائيل، وعلى الساحة الدولية، أن الطريقة الوحيدة لضمان إزالة التهديد الاستراتيجي الإيراني هي تغيير النظام. وبعد الضربة الخارجية التي وُجهت إليه، الآن، هناك أمل بأن تستمد قوى المعارضة داخل إيران زخمها، وتزيد في احتجاجاتها. كما أنه يشدّد على ضرورة إدراك ما يصفه بأنه التأثير التراكمي للضربات المتتالية على بقاء النظام.
وفي هذا الصدد يخلص إلى نتيجتين: الأولى، وجوب العمل على ألا تقوم الولايات المتحدة والغرب، خلال سعيهما لتوقيع اتفاقيات مع إيران، بإعطاء النظام موارد وإنجازات يستطيع من خلالها تحسين مكانته. والثانية، غيّرت نتائج الحرب مع إيران ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط، وستؤثر أيضاً في تشكيل النظام العالمي. فالضربة التي تلقّتها إيران استكملت عملية تفكيك ما تصفه إسرائيل بأنه "محور الشر". وفي ضوء وضع كهذا من المتوقع أن تتمكن عدة دول من العمل من دون ظلها المُخيف، وبناء شراكات سياسية وأمنية واقتصادية وتكنولوجية.
ثالثاً، إلى جانب الأصوات التي يعبّر عنها بن شبات وتعتبر بمثابة أبواق لنتنياهو وحكومته، كانت هناك أصوات ما تزال تعتبر أن التوصل إلى اتفاق يُعدّ بديلاً أفضل من الخيار العسكري، ويتوقع أصحابها أن تفضي الحرب الحالية إلى اتفاق أفضل بين الولايات المتحدة وإيران، بمشاركة قوى كبرى أُخرى (على غرار روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، والاتحاد الأوروبي). ففي نهاية المطاف، الطريقة الوحيدة لمنع إيران من حيازة سلاح نووي في المستقبل هي طريقة دبلوماسية، وليست عسكرية فقط، مثلما كتب الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان") ولـ"معهد أبحاث الأمن القومي" عاموس يدلين، وأستاذ العلاقات الدولية في الجامعة العبرية في القدس البروفيسور آرييه كتسوفيتش، في موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12. وبرأي هذا الأخير، فإن ثمة استنتاجين مهمين توصل إليهما استناداً إلى حقائق مستخلصة من "حرب الأيام الـ12"، وهما: 1. أن إيران قوة إقليمية، يبلغ عدد سكانها 90 مليون نسمة، وتفوق مساحتها مساحة دولة إسرائيل بثمانين ضعفاً. وهي تمتلك بنى تحتية علمية وصناعية متطورة. وحتى لو ألحقت الضربات، التي وجّهتها إليها إسرائيل والولايات المتحدة، أضراراً جسيمة بالبرنامج النووي الإيراني، فلا يمكن القضاء على المعرفة والعلم اللذين شكّلا أساس هذا البرنامج، حتى بعد اغتيال العشرات من العلماء النوويين. 2. تتمتع إيران بخبرة طويلة في حروب الاستنزاف (استمرت حرب إيران- العراق نحو 8 أعوام، وأسفرت عن مئات الآلاف من القتلى). ولذلك، لا يجوز لدولة إسرائيل الانجرار إلى حرب استنزاف مع إيران.
رابعاً، من الطبيعي أن تتجه الأنظار في الوقت الحالي نحو الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وبحسب ما يؤكد الخبير في شؤون الأمن القومي، العقيد احتياط كوبي مروم، هذا هو وقت إيقاف الحرب في غزة. ويعتقد مروم (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 25/6/2025)، أن ما يتبين أكثر فأكثر هو أن الحرب في غزة هي حرب استنزاف بكل ما في الكلمة من معنى، ولا تساهم في إطلاق الأسرى الإسرائيليين بل تعرّض حياتهم للخطر، وتقيّد قدرة الجيش الإسرائيلي على القتال، ولن تؤدي إلى تدمير حركة حماس. ويوافقه في هذا الرأي البروفيسور آساف ميدني، أستاذ العلوم السياسية في أكاديمية تل أبيب – يافا وجامعة أكسفورد، الذي يؤكد ("يديعوت أحرونوت"، 28/6/2025) أن الهدف الذي رُفع تحت شعار "حتى النصر" في غزة، والذي اعتقد البعض أنه سيكون ضربة ماحقة وينتهي الأمر، تبيّن أنه بمثابة رهان فاشل. فحركة حماس المُنهكة لم تُدمَّر، وعملية "السيوف الحديدية" تحولت إلى عملية استنزاف طويلة: مختطفون في الأسر، ونازحون في الشمال والجنوب، وجنود احتياط مُثقَلون بالعبء، وعائلات ثكلى. ومع أن الشعب في إسرائيل صامد، إلا أن الاحتقان كامن في الأعماق.
خامساً، في مقابل ما تؤكد عليه هذه الأصوات فيما يتعلق بالحرب ضد غزة، فإن أبواق نتنياهو ما زالت متمسكة بشعار "حتى النصر"، كما عبّر عنها أخيراً، على سبيل المثال، مئير بن شبات في مقاله المنشور في صحيفة "يسرائيل هيوم" اليوم الاثنين (30/6/2025) والذي أكد في ختامه ضرورة أن تتوازى عمليات التصعيد العسكرية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة مع التنفيذ الكامل لمبادئ "خطة الجنرالات" (هل تذكرونها؟) ولا سيما المساس بقيادة حركة حماس في الخارج، وتفكيك منظومات الحكم الرسمية وغير الرسمية لهذه الحركة في القطاع، والدفع قدماً بخطة الرئيس الأميركي ترامب لتهجير سكان القطاع.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, مكور ريشون, يديعوت أحرونوت, هآرتس, يسرائيل هيوم, باراك, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو