المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
رفح: التدمير حلقة من مخطط طويل الأمد. (وكالات)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 44
  • ياسر مناع

في ظل حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، طرحت إسرائيل عدة مشاريع تُعبّر في جوهرها عن محاولات التنصل من مسؤولية إدارة السكان في القطاع. لا سيما وأن أحد أهداف الحرب المعلنة هي الإطاحة بحكم حركة حماس، مقروناً برفض قاطع لأي دور مستقبلي للسلطة الفلسطينية أو لحماس في إدارة غزة في اليوم التالي للحرب.

طرحت إسرائيل مؤخراً ما بات يُعرف بـ"خطة المدينة الإنسانية"، والتي تقوم على إنشاء معسكر ضخم في جنوب قطاع غزة، وتحديداً في محافظة رفح، بهدف تجميع مئات الآلاف من الفلسطينيين داخله، ويشمل خياماً للإيواء، ومراكز لتوزيع الطعام، ومرافق طبية أساسية.

تستعرض هذه المساهمة مشروع "المدينة الإنسانية" الذي تقترحه إسرائيل، متوقفة عند التباينات الجوهرية بين المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل بشأن واقعية هذه الخطة والتحديات الميدانية المرتبطة بتنفيذها. كما تسلط الضوء على الأسباب والمواقف القانونية والأكاديمية داخل إسرائيل التي تعارض المشروع.

معسكر عزل جماعي تحت مسمى الإنسانية

في 7 تموز 2025، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس رسمياً عما سُمّي بـ"خطة المدينة الإنسانية"، وتقوم الخطة على إنشاء معسكر ضخم يضم خياماً ومرافق أساسية في منطقة مفتوحة بين محوري موراغ وفيلادلفيا في مدينة رفح، على أن يُنقل إليه في المرحلة الأولى نحو 600 ألف فلسطيني، معظمهم من منطقة المواصي، مع التوسع لاحقاً لاستيعاب باقي سكان القطاع.[1]

كما يشترط على الداخلين إلى هذا المجمع المرور بعملية فحص وتفتيش أمني صارمة، ولن يُسمح لهم بالمغادرة لاحقاً، بمعنى أن الدخول باتجاه واحد فقط، ما يجعل المدينة عملياً منطقة احتجاز جماعي محكمة السيطرة.

تهدف الخطة الإسرائيلية إلى تحقيق جملة من الأهداف، أولها تصنيف السكان وفصل المدنيين عن المقاتلين، وثانيها ضمان إيصال المساعدات الإنسانية من دون أن تصل إلى ما تبقى من سلطة حماس، وفقاً للتوصيفات الرسمية. أما ثالثها، وهو الأكثر إثارة للجدل، فيتعلق بما أعلنه كاتس صراحة من أن أحد الأهداف المركزية للمشروع هو "تشجيع هجرة سكان غزة إلى الخارج".

معوّقات التنفيذ على الأرض

يواجه مشروع "المدينة الإنسانية" جملة من التحديات البنيوية التي تُضعف من إمكانية تنفيذه على أرض الواقع، ويأتي في مقدمتها العبء المالي الضخم الذي تحتاجه الخطة، ناهيك عن الخلافات الداخلية في أروقة المؤسسة الإسرائيلية.

وفقاً للتقديرات الرسمية، فإن تكلفة المشروع تتراوح بين 10 - 20 مليار شيكل (نحو 2.7 إلى 5.5 مليار دولار). حيث وافق وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش على تخصيص مئات الملايين من الشواكل لبدء التجهيزات الأولية، كما يفترض بأن دولاً عربية ستُسهم لاحقاً في تغطية النفقات عند توليها إعادة إعمار غزة.[2]

في السياق ذاته، برزت خلافات بين المستويين السياسي والعسكري بشأن توقيت تنفيذ خطة "المدينة الإنسانية" وأدواتها التطبيقية. إذ أعرب رئيس هيئة أركان الجيش، الجنرال إيال زامير، عن معارضته الحازمة للصيغة الحالية للمشروع، واصفاً إياها بأنها تفتقر إلى الأسس التنفيذية الواقعية، وتتناقض مع الأهداف الاستراتيجية للعملية العسكرية الجارية. وأشار إلى أن الخطة تعاني من ثغرات بنيوية متعددة، وتنطوي على إشكاليات معقدة تجعل من تطبيقها شبه مستحيل.[3]

وتُظهر تقديرات الجيش أن تنفيذ المشروع سيستغرق أكثر من عام كامل، على خلاف ما تروّج له الحكومة التي تتحدث عن فترة زمنية لا تتجاوز ستة أشهر. كما تفيد التقييمات العسكرية بأن الكلفة الحقيقية للمشروع قد تفوق الأرقام الرسمية المعلنة، لتصل إلى عشرات المليارات من الشواكل. ويُنظر إلى المبادرة من قبل القيادة العسكرية على أنها فخ استراتيجي يحمّل الجيش عبئاً إدارياً هائلاً، لا سيما في ظل الغموض السياسي المتعلق بجهة إدارة شؤون قرابة مليوني فلسطيني داخل المدينة، من حيث الإمدادات الغذائية والمياه، وخدمات الصرف الصحي والرعاية الصحية.

إضافة إلى ذلك، لم يتلقّ الجيش حتى هذه اللحظة إجابة حاسمة من القيادة السياسية حول الجهة التي ستتولى هذا الدور: هل ستكون العشائر المناوئة لحركة حماس؟ أم منظمات دولية؟ أم ستكون تحالفاً هجيناً؟ وغياب رؤية واضحة في هذا الشأن يعزز الانطباع بأن الجيش سيتحمل المسؤولية الإدارية الكاملة، وهو ما يرفضه رئيس هيئة الأركان رفضاً قاطعاً.[4]

أثار موقف المستوى العسكري استياء رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي اتهم الجيش بتعمّد المماطلة عبر طرح سيناريوهات غير واقعية تهدف – في نظره – إلى عرقلة تنفيذ الخطة، وذهب إلى تشبيه ذلك بـ"الإضراب الإيطالي". ونتيجة لذلك، طالب المؤسسة العسكرية بإعداد خطة بديلة تكون أكثر كفاءة، وأقل تكلفة، وقابلة للتنفيذ خلال فترة زمنية أقصر.

تعكس هذه الخلافات وجود تيارين متباينين داخل المستوى الرسمي في إسرائيل: الأول، يرى في الخطة وسيلة لإعادة تشكيل قطاع غزة جغرافياً وديموغرافياً، ويؤدي إلى عزل حركة حماس، وفرض السيطرة على القطاع، وفي إنشاء المدينة مقدمة لتهجير الطوعي للفلسطينيين. أما التيار الثاني، الذي تمثّله المؤسسة العسكرية، فينظر إلى المشروع باعتباره عبئاً ضخماً على المستويات اللوجستية والأمنية والمالية، من شأنه أن يقيّد قدرة الجيش في القتال، ويُعرضه لفقدان السيطرة في جنوب القطاع، فضلاً عن أن ذلك يؤثر سلباً على تفكيك البنية القتالية لحماس واستعادة الأسرى.

كذلك، يشكّل إصرار حماس خلال المفاوضات الجارية في الدوحة على انسحاب القوات الإسرائيلية من محور موراغ أحد العوائق الجوهرية التي تُعرقل تنفيذ مشروع "المدينة الإنسانية" في رفح. ويُوضح الصحافي أمير بحبوط من موقع "واللا" أن حماس تتمسك بمطلبها الرامي الى تفكيك المحور بالكامل، انطلاقاً من قناعتها بأن بقاء الوجود الإسرائيلي فيه يُعدّ عنصراً محورياً في إنجاح المخطط.

إقامة مكاسب سياسية أم وهم استراتيجي؟

في خضم حالة الجدل حول خطة "المدينة الإنسانية"، رأى الباحث في معهد دراسات الأمن القومي أودي ديكل أن المشروع، على الرغم من تكلفته الإنسانية المرتفعة، قد يُحقق مكاسب استراتيجية مهمة من وجهة نظر الحكومة. لكن في المقابل يمثل خسارة فرصة إعادة الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة.[5]

في المقابل، ربط الأكاديمي ميخائيل ميلشتاين بين مشروع "المدينة الإنسانية" في جنوب قطاع غزة، وآليات أخرى تتبناها إسرائيل مؤخراً مثل تسليح ميليشيات بديلة لحماس، ومشاريع المساعدات الإنسانية، معتبراً أنها جميعاً تنطلق من فرضية واحدة: إمكانية "هندسة الواقع والوعي" الفلسطيني عبر الدمج بين القوة العسكرية والحوافز الاقتصادية. [6]

ويرى ميلشتاين أن هذا النمط المتكرر من التفكير يعكس وهماً استراتيجياً عميقاً، إذ تحوّلت غزة إلى حقل تجارب للخيالات الإسرائيلية، حيث تُطلق مشاريع تنعدم فيها الرؤية النقدية، وغالباً ما تفشل سريعاً لأنها تقوم على تصور مشوّه للواقع، وعلى قناعة غير واقعية بإمكانية تغيير الأيديولوجيا من خلال الغذاء والمساعدات، وهي مقاربة سبق أن انهارت في تجارب دولية أخرى كفيتنام والعراق وأفغانستان.

أما صحيفة هآرتس، في افتتاحيتها الصادرة بتاريخ 9 تموز 2025 فتذهب إلى أن المشروع المُسمى بـ"المدينة الإنسانية" في قطاع غزة، والذي يهدف إلى تجميع الغالبية العظمى من سكان القطاع ضمن منطقة مغلقة تُدار عبر قنوات المساعدات الإنسانية، لا يُعد سوى خطة لترحيل قسري منظم (ترانسفير). [7]

وترى الصحيفة أن هذه الخطة لا تُنفذ بشكل منفصل، بل تأتي في سياق تنسيق واضح مع جهات أميركية فاعلة، مشيرة إلى إعلان نتنياهو عن قرب التوصل إلى تفاهمات مع دول يُمكن أن تستوعب سكان غزة، معتبرة أن هذا المشروع ينطوي على قدر كبير من التضليل والتلاعب بالمفاهيم.

بينما اعتبرت صحيفة يديعوت أحرونوت أن "المدينة الإنسانية" تمثل أحدث حلقة في سلسلة الوعود السياسية المتهاوية التي طرحتها القيادة الإسرائيلية ضمن ما يسمى بخطط "اليوم التالي" في غزة، من دون أن يتحقق أي من أهدافها المعلنة، حيث لم تُهزم حماس ولا يزال خمسون إسرائيلياً أسرى في القطاع، بالرغم من مرور ما يقارب عامين على العمليات العسكرية.[8]

كما أن المشروع الذي رُوّج له كحل سحري سيُكلّف دافعي الضرائب الإسرائيليين ما بين 10 إلى 15 مليار شيكل، بدون وضوح في مصادر تمويله. ومع ذلك، لم تتحول الخطة إلى أمر عمليات فعلي، شأنها شأن مشاريع أخرى وُصفت سابقاً بـ"الاستراتيجية"، مثل خطة الهجرة لتقليص عدد سكان غزة، وحواجز الطرق التي شغلتها شركات أمن أميركية، ومراكز توزيع المساعدات، وجميعها إما فشلت أو جُمدت في ظل غياب رؤية سياسية واضحة ومتماسكة.

 

[1] ينيف كوبوفيتش وليزا روزوفسكي، "وزير الدفاع: نخطط لتجميع كامل سكان القطاع في "مدينة إنسانية" ستُقام على أنقاض رفح"، هآرتس، 7 تموز 2025، https://www.haaretz.co.il/news/politics/2025-07-07/ty-article/.premium/00000197-e548-d1ad-ab97-e5cd97200000

[2] نداف إيال، "تكلفة المدينة الإنسانية: 10–15 مليار شيكل"، يديعوت أحرونوت، 13 تموز 2025، https://www.ynet.co.il/news/article/yokra14438623#google_vignette

[3] ليلاخ شوفال، خلاف بين الجيش الإسرائيلي والمستوى السياسي: "المدينة الإنسانية خطأ استراتيجي"، يسرائيل هيوم، 15 تموز 2025، https://www.israelhayom.co.il/news/defense/article/18415016

[4] المصدر السابق.

[5] رِيشت ب، "العميد احتياط أودي ديكل 'حتى إذا لم تنجح الصفقة.. "، منصة X، 14 تموز 2025. https://x.com/ReshetBet/status/1944713104887009489

[6] ميخائيل ميلشتاين، "المدينة الإنسانية في غزة: بين التصوّر والخيال"، يديعوت أحرونوت، 13 تموز 2025، https://www.ynet.co.il/news/article/yokra14437907

[7] صحيفة هآرتس، "ليست مدينة إنسانية، بل معسكرات ترحيل"، 9 تموز 2025، https://2h.ae/HWzI

[8] يوآف زيتون، "المدينة الإنسانية" كحلقة في سلسلة الإخفاقات المتعلقة بمرحلة ما بعد الحرب في غزة"، يديعوت أحرونوت، 15 تموز 2025، https://www.ynet.co.il/news/article/yokra14440092

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات