المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
عسكرة الذكاء الاصطناعي في إسرائيل. (صورة تعبيرية، صحف)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 29
  • وليد حباس

يشكّل الذكاء الاصطناعي اليوم محوراً مركزياً في صراع القوى العالمية على التفوق التكنولوجي، ويُعاد من خلاله رسم معالم الاقتصاد، والتعليم، والصحة، والأمن، وغيرها من القطاعات الحيوية. بالنسبة لإسرائيل، التي لم تطور بعد "استراتيجية وطنية شاملة" لاستيعاب هذا التحول العالمي، فإن الصعود المتسارع للذكاء الاصطناعي يترك أسئلة محلية في دولة استعمارية عنيفة وعدوانية تحتاج إلى الذكاء الاصطناعي لتعزيز أدوات سيطرتها (تجاه الفلسطينيين) وأدوات رفاهيتها (تجاه مواطنيها اليهود). هذا المقال يفحص تجربة إسرائيل في هذا المجال، كاشفاً عن غياب بنية تنظيمية متكاملة برغم التقدّم البحثي، ويتناول الفرص والمخاطر (من وجهة نظر إسرائيلية) الكامنة في الذكاء الاصطناعي، قبل أن ينتقل إلى تحليل نقدي لاستخدام هذه التقنية داخل الكنيست والعمليات التشريعية.

الذكاء الاصطناعي: الفرص والتحديات أمام إسرائيل

في العقد الأخير، أضحى الذكاء الاصطناعي في قلب التحولات الكبرى في بنية النظام العالمي، لا بوصفه تقنية فحسب، بل أيضاً كمجال استراتيجي تتقاطع فيه مسارات الهيمنة: من الأمن القومي إلى الاقتصاد السياسي، مروراً بأنماط السيطرة الاجتماعية. في عالم تُعاد فيه صياغة موازين القوى على أسس تكنولوجية، يصبح امتلاك أدوات الذكاء الاصطناعي شرطاً للسيادة، بينما يتحول الغياب عنه إلى شكل جديد من التبعية البنيوية. هذه المعادلة تفرض على الدول الاستعمارية مثل إسرائيل، ذات المشروع القائم على التفوّق، أن تُسرّع من وتيرة إدماج هذه التقنية في منظوماتها العسكرية، الاقتصادية، والإدارية، من دون أن يرافق ذلك إطار مؤسسي ديمقراطي أو محاسبي حقيقي.

ورغم امتلاك إسرائيل بنية تحتية علمية وتكنولوجية متقدمة، خاصة في المجالات الأمنية والمعلوماتية، فإن تعاملها مع الذكاء الاصطناعي يكشف تناقضاً بنيوياً: تطوّر تقني سريع في مقابل ضعف تنظيمي، وانعدام رؤية وطنية شاملة. فهي تتبنى ما يُعرف بـ"الضبط المرن" – أي سياسة تنظيمية تفضّل تحفيز الابتكار على الرقابة – وهو ما يخدم مصالح شركات التكنولوجيا الكبرى والمؤسسة العسكرية، لكنه يخلق فراغاً تشريعياً حاداً مما يعيق قدرة إسرائيل على المنافسة بين "الأمم الذكية".

إن سياسات إسرائيل في مجال الذكاء الاصطناعي لا تُفهم بمعزل عن طبيعتها الاستعمارية. فهذه الدولة لم تنشأ كمجتمع ديمقراطي يضع العدالة الاجتماعية والحقوق في قلب مشروعه الوطني، بل كمشروع إحلالي يهدف إلى السيطرة، وإعادة تشكيل البيئة الديمغرافية والسياسية وفقاً لمنطق القوة. ولذا، فإن إدماج الذكاء الاصطناعي لا يهدف إلى تعزيز المساواة أو تحسين جودة الحياة لجميع السكان، بل إلى ترسيخ تفوق المستوطن، وتعميق أدوات المراقبة والتصنيف والسيطرة، خاصة ضد السكان الفلسطينيين.

خلال السنوات الأخيرة، وضعت اللجنة الفرعية للعلم والتكنولوجيا داخل الكنيست عدة تقارير حول الذكاء الاصطناعي. من خلال قراءة سريعة في هذه التقارير، ترى اللجنة أن هناك فرصاً كبرى أمام إسرائيل في حال تم تطوير خطة وطنية شاملة، وقد تقود إلى ثورة في قطاعات التعليم، الصحة، البيئة، والخدمات الاجتماعية. لكن التقارير تغض الطرف عن الانعكاسات البنيوية لهذه التقنية في سياق استعماري عنيف: فالتمييز الخوارزمي، مثلاً، ليس خللاً تقنياً عابراً، بل هو امتداد لخوارزميات سياسية تنطوي على انحيازات إثنية ودينية عميقة. ويتم تدريب أنظمة القرار في إسرائيل على بيانات تاريخية غير محايدة، ما يجعل قرارات مثل التنميط الأمني، توزيع الخدمات، أو تقييم المخاطر، أدوات مأسسة للتمييز العنصري.

وبغض النظر عن السياق الاستعماري، فإن التقارير المشار اليها اهتمت، من دون أدنى شك، بتبعات الذكاء الاصطناعي على المجتمع الإسرائيلي اليهودي نفسه. فالتقارير ترى أنه في الوقت الذي يُعاد فيه تشكيل سوق العمل عبر الأتمتة، تتجاهل الدولة عن عمد التحولات الاجتماعية المترتبة على ذلك، تاركة العمال في مواجهة فقدان وظائفهم بدون حماية كافية. والتقديرات التي تفيد بأن نحو 80% من الوظائف في إسرائيل قد تتأثر جزئياً أو كلياً لا تجد انعكاساً في سياسات حماية اجتماعية جديدة أو ضمانات انتقال عادلة. فالدولة مهووسة بالابتكار، ولكنها في الوقت ذاته تتعامى عن التكاليف الاجتماعية والسياسية لهذا الابتكار.

أما على صعيد البيئة المعلوماتية، فإن إسرائيل لا تبدو معنية بمواجهة تحديات التضليل، بل توظف الذكاء الاصطناعي لتعزيز قدراتها في الحروب السيبرانية وحملات التأثير. وفي هذا الإطار، لا يُستبعد أن تصبح نماذج التزييف العميق (deepfake) بمثابة أداة إضافية ضمن ترسانة الاحتلال الدعائية، يتم استخدامها بغية تشويه سرديات الفلسطينيين أو شرعنة عمليات عسكرية.

ولعل القضية الأهم، ولكنها متوقعة في إسرائيل، هي غياب هيئة مستقلة تُشرف على الذكاء الاصطناعي وتتبنى معايير أخلاقية وقانونية واضحة. فلا توجد مؤسسات تحقق في انتهاكات إسرائيل الخوارزمية. هذا الغياب المؤسسي هو انعكاس مباشر لفلسفة إسرائيل في الحكم: تفوق تقني في مقابل تفكك ديمقراطي، وتسريع للسيطرة في مقابل تعطيل للمساءلة. إن ما تقدّمه إسرائيل اليوم بوصفه "تفوقاً تكنولوجياً" ليس إلا واجهة لواقع استعماري يُعاد إنتاجه بخوارزميات معولمة. ومن دون تدخلات سياسية وتنظيمية جذرية، فإن الذكاء الاصطناعي في إسرائيل لن يكون أداة للتحرر أو التقدّم، بل وسيلة لإعادة تعريف الاستعمار نفسه بلغة المستقبل. فالدولة التي تحكم ملايين الفلسطينيين من دون حقوق، وتستثمر الذكاء الاصطناعي لتعزيز الرقابة والاستيطان، لا يمكنها الادعاء بأنها رائدة في استخدام "أخلاقي" للتكنولوجيا.

ما لم يشر اليه التقرير الصادر عن الكنيست، هو أن الطريق إلى عدالة خوارزمية في السياق الإسرائيلي لا تمر عبر لجان تنظيم أو استراتيجيات ابتكار (وهو ما تدعو إليه التقارير التي تطالب بوضع خطة وطنية شاملة)، بل تبدأ هذه الطريق بالاعتراف بطبيعة النظام نفسه: نظام استعمار استيطاني قائم على نفي الآخر، وتكريس التفوّق، وتطويع التكنولوجيا لخدمة هذه الغايات. وكل تحليل يتغاضى عن هذه الحقيقة، مهما بدا تقنياً أو موضوعياً، يظل حبيس سردية الدولة، لا كاشفاً لبنيتها.

كخلاصة، لا بد من التنويه إلى أن الذكاء الاصطناعي ليس أداة تقنية محايدة، بل هو ساحة جديدة تتكثف فيها علاقات القوة، وتُعاد فيها صياغة السيطرة السياسية والاجتماعية. في السياق الإسرائيلي، لا يمكن فصل تطوير الذكاء الاصطناعي عن مشروع الهيمنة الاستعمارية. الحديث عن تنظيم الذكاء الاصطناعي في إسرائيل يجب أن يتجاوز الاعتبارات التقنية، ليطاول الأسئلة البنيوية: من يملك هذه التكنولوجيا؟ ولمن تُستخدم؟ وهل تُسخّر لخدمة العدالة والحقوق، أم لتعميق عدم المساواة؟ الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب مساءلة جذرية تتجاوز وهم "الابتكار المحايد"، وتطرح الذكاء الاصطناعي في سياقه الحقيقي: أداة سياسية بامتياز، لا تنفصل عن منطق السلطة.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات